العلي
كلمة العليّ في اللغة هي صفة مشبهة من العلوّ، والصفة المشبهة تدل...
العربية
المؤلف | سليمان بن حمد العودة |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب |
إن أيامَ الفتنِ شديدةٌ على النفوسِ لما فيها من الهَرْج والقتل، والخوفِ والقلق، واختلاطِ الحقّ بالباطل، ومن حقِّ المؤمن أن يتخَوَّفَ على نفسِه وعلى إخوانه من ملابساتِ الفتن، ولكنَّ الفتنَ والنوازل -كذلك- فيها تجديدٌ للإيمان، وفيها إحياءٌ لمعالمَ في الدين، من ولاءٍ وبراءٍ، وخَشيةٍ وتوكل، وصبرٍ ومصابرة، ونُصرةٍ أو مظاهرة؛ ومن هنا تتحوَّلُ المِحنُ إلى مِنَحٍ ربانية لمن وفَّقَهم اللهُ للحقِّ، وهداهم للصراطِ المستقيم ..
إنَّ الحمدَ للهِ نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ بالله من شرورِ أنفسِنا ومن سيئاتِ أعمالِنا، من يَهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِلْ فلا هاديَ له. وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه، اللهمَّ صلِّ وسلَّمْ عليه وعلى سائرِ الأنبياءِ والمرسلين، وارضَ اللهمَّ عن الصحابةِ أجمعين والتابعين وتابعيهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين وسلِّم تسليماً كثيراً.
إخوةَ الإسلام: وفي أزْمانِ الشدائدِ والفتن تُمتحَنُ القلوبُ، وتُمتحَن الألسنُ وتُمتحَن العواطفُ والمشاعر، تتمايزُ الصفوفُ، ويَمِيزُ اللهُ الخبيثَ من الطيِّب، ويعلمُ اللهُ –وهو أعلم- الصادقينَ من الكاذبين، وأهلَ الإيمان وأهلَ النفاق، نعم تُمتحَن القلوبُ في الولاءِ والبَرَاء، وفي الخَشْيةِ والإنابة، والتوكُّلِ والاستعانةِ، والثقةِ واليأس، والألمِ والأمل، والحبِّ والبُغْض، والخوفِ والرجاء، وحسنِ الظنِّ أو سوئِه.
وتُمتحَن الألسنُ -في أزمان الفتن أكثرَ- على الصدقِ والكذب، والتثبُّتِ مما يُنقَل ويُقال، أو الإسراعِ بالقِيلِ والقال، ولو كان القولُ بظُلمٍ، ولو كان الحديثُ بهوى، ولو كان الناقلُ للحديثِ فاسقاً... فكيف إذا كان كافراً، والله يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) [الحجرات:6].
تُمتحَن الألسنُ والأقلامُ في نُطْق الحقِّ والسكوتِ عن الباطل، وربما زلّ اللسانُ فقال فُحشاً، أو تَوارَى عن كشفِ الباطلِ فكان شيطاناً ناطِقاً أو صامتاً، وربما كتب الغيورُ ناقداً متأوِّلاً فزاد الجُرحَ عمقاً، وعكَّرَ صفوَ الاجتماع والأُلْفة.
ويا ليتَ قومي يعلمون أنَّ ميدانَ المعركةِ مع عدوِّنا أرحبُ، ومجالاتِها لا تُحَدّ! وهم يُراهنون على إشعالِ الفتيل بين المسلمين، ومن نوادرِ الذهبيِّ رحمه الله قوله: ربما آلَ الأمرُ بالمعروف بصاحبِه إلى الغضبِ والحِدَّة، فيقعُ في الهِجْران المحرَّم، وربما أفضى إلى التكفيرِ والسعيِ في الدم.
نعم؛ إنَّ الخطأ واردٌ، ولا عِصمةَ لأحدٍ إلا للأنبياءِ عليهم الصلاة والسلام، ولكن لنترفَّقْ في النقدِ ولنُحسنِ الظنَّ بمن هم أهلٌ لذلك.
وفي أزمانِ الفتن كذلك تُمتحَن المشاعرُ والعواطفُ أكثرَ، فهذا باردُ الإحساسِ عديمُ المشاعر، وذاك تتوهَّجُ عاطفتُه وتَغْلي حتى تغلبَ عقلَه، وفئةٌ ثالثة لديها مشاعرُ وأحاسيسُ حيةٌ، لكنها توظِّفُها في خدمة الحقِّ دون تهوُّرٍ، وفي فضحِ الباطل دون تشنُّجٍ.
أيها المؤمنون: إنَّ أيامَ الفتنِ شديدةٌ على النفوسِ لما فيها من الهَرْج والقتل، والخوفِ والقلق، واختلاطِ الحقّ بالباطل، ومن حقِّ المؤمن أن يتخَوَّفَ على نفسِه وعلى إخوانه من ملابساتِ الفتن، ولكنَّ الفتنَ والنوازل -كذلك- فيها تجديدٌ للإيمان، وفيها إحياءٌ لمعالمَ في الدين، من ولاءٍ وبراءٍ، وخَشيةٍ وتوكل، وصبرٍ ومصابرة، ونُصرةٍ أو مظاهرة؛ ومن هنا تتحوَّلُ المِحنُ إلى مِنَحٍ ربانية لمن وفَّقَهم اللهُ للحقِّ، وهداهم للصراطِ المستقيم.
وفي أواخرِ القرنِ السابعِ للهجرة هجمَ التترُ على بلادِ المسلمين فكانت الفتنةُ وكان القتلُ، وكان الخوفُ والقلقُ، ولكنَّ العلماءَ الصادقين المجاهدين اعتبروا هذه المحنةَ مِنحةً ربانيةً تستوجبُ الشكرَ لله عليها.
وقال شيخ الإسلام ابنُ تيميّة –رحمه الله- مخاطباً جمهورَ المسلمين: واعلموا -أصلحكم الله- أن من أعظمِ النعمِ على من أراد اللهُ به خيراً أن أحياه إلى هذا الوقتِ الذي يُجدِّدُ اللهُ فيه الدينَ، ويُحيي فيه شعارَ المسلمين، وأحوالَ المؤمنين والمجاهدين، حتى يكونَ شبيهاً بالسابقين الأولين من المهاجرين والأنصارِ، فمَن قام في هذا الوقتِ بذلك كان من التابعين لهم بإحسانٍ، الذين رضيَ اللهُ عنهم ورَضُوا عنه، وأعدَّ لهم جناتٍ تجري من تحتِها الأنهارُ ذلك الفوزُ العظيم.
فينبغي للمؤمنين أن يشكروا اللهَ تعالى على هذه المحنةِ التي حقيقتُها مِنحةٌ كريمةٌ من الله، وهذه الفتنةِ التي في باطنها نعمةٌ جسيمةٌ. اهـ.
وتحدَّث شيخُ الإسلام -رحمه الله- عن أصنافٍ من الناس في فتنةِ التتار وهجومِهم على العالم الإسلامي –حتى بلغوا الشامَ- فقال: فهذه الفتنةُ قد تفرَّقَ الناسُ فيها ثلاثَ فرقٍ: الطائفة المنصورة وهم المجاهدون لهؤلاءِ القومِ المُفسِدين، والطائفة المخالفة وهم هؤلاء القومُ (يعني التترَ) ومَن تحيّزَ إليهم من حُثالةِ المنتسبين إلى الإسلام، والطائفة المُخذِّلة وهم القاعدون عن جهادِهم، وإن كانوا صحيحي الإسلامِ، فلينظر الرجلُ أيكونُ من الطائفة المنصورة أم من الخاذلة أم من المخالفة، فما بقيَ قسمٌ رابع.
يا أخا الإيمان: وإذا وقعتِ الفتنُ وأنت حيٌّ فانظُرْ موقعَك فيها، وجرِّدْ نفسَك من الهوى ومن حبِّ الدنيا، وامتحِنْ خَشْيتَك وخوفَك أتكونُ لله وحدَه، أم يدخلُ في ذلك الشركاءُ؟.
إنَّ من الناس من تمرُّ الفتنُ والنوازلُ بإخوانهِ المسلمين ولا تحرِّكُ فيه ساكناً؛ بل وكأنها لا تعنيهِ بشيء، إنه باردُ الإحساس مُعطَّل القُوى، لا يُسخِطُه ما يُسخِطُ اللهَ، إن ذلك نوعٌ من الغفلةِ والإعراض عن الله، كما قال أبو عبد الرحمن العمري: إنَّ من غفلتِك وإعراضِك عن الله أن ترى ما يُسخِطُه فتجاوِزُه، ولا تأمرُ ولا تنهى؛ خوفاً ممـــَّن لا يملِكُ ضرّاً ولا نفعاً.
وكم هي بليةٌ في الدِّين حين يرى المسلمُ مُنكَراً ظاهراً ولا يتمعَّرُ وجهُه لوقوعِه؛ بل يكون سلبياً في التعاملِ معه، أو يرى معروفاً ثم لا يَفرَحُ به، ولا يشاركُ في وجودِه ونشرِه، وأولئك الصنفُ من الناسِ قال عنهم ابنُ القيمِ -رحمه الله-: وأيُّ دينٍ وأيُّ خيرٍ فيمن يَرَى محارمَ اللهِ تُنتهَكُ، وحدودَه تُضيَّع، ودينُه يُترَك، وسُنةُ رسولِه -صلى الله عليه وسلم- يُرغَبُ عنها، وهو باردُ القلبِ، ساكتُ اللسان، شيطانٌ أخرسُ، كما أن المتكلمَ بالباطل شيطانٌ ناطق.
وهل بليةُ الدينِ، إلا مِن هؤلاءِ الذين إذا سَلِمَت لهم مآكلُهم ورياستُهم فلا مبالاةَ بما جَرَى على الدِّين، وخيارُهُم المتحزِّنُ المُتلمِّظ، ولو نُوزِعَ في بعضِ ما فيه غضاضةٌ عليه في جاهِه أو مالِه لبذلَ وتبذَّلَ، وجَدّ واجتهد، واستعمل مراتبَ الإنكارِ الثلاثةَ بحسب وُسْعِه، وهؤلاء مع سقوطِهم من عينِ الله ومَقْتِه لهم قد بُلُوا في الدنيا بأعظمِ بلِيّةٍ تكون وهم لا يشعرون، وهو موتُ القلب، فإنَّ القلبَ كلما كانت حياتُه أتمَّ كان غضبُه للهِ ورسولِه أقوى، وانتصارُه للدِّين أكملَ. اهـ.
يا أخا الإسلام: ومن الإمام ابنِ القيِّم -رحمه الله- إلى الإمام محمدِ بن عبد الوهاب -رحمه الله-، حيث يُجمِعُ هؤلاءِ على ضرورةِ الانتصارِ للدين، وحمايةِ الحُرُماتِ، والقيامِ بواجب الأمرِ بالمعروفِ والنهي عن المنكَر.
ويقول الشيخ حمدُ بن عتيق -رحمه الله-: فَلو قُدِّر أن رجلاً يصومُ النهار ويقومُ الليلَ ويزهدُ في الدنيا كلِّها، وهو مع ذلك لا يغضبُ ولا يتمعَّرُ وجهه ولا يحمرُّ لله، فلا يأمرُ بمعروفٍ ولا ينهى عن منكرٍ، فهذا الرجلُ من أبغضِ الناسِ عند اللهِ، وأقلِّهم دِيناً.
إلى قوله: وقد حدَّثني من لا أتَّهِم عن الشيخ محمدِ بنِ عبدِ الوهاب -رحمه الله تعالى- أنه قال مرةً: أرى أُناساً يجلسون في المسجدِ على مصاحفِهم يقرؤون ويَبكُون، فإذا رأوا المعروفَ لم يأمُروا به، وإذا رأوُا المنكرَ لم يَنهَوْا عنه، وأرى أناساً يَعكُفون عندهم يقولون: هؤلاء لِحى غوانمُ، وأنا أقول: إنهم لِحى فواين، فقال السامع: أنا لا أقدرُ أقول: إنهم لِحى فواينُ، فقال الشيخ: إنهم من العُمْي البكْم. اهـ.
معاشرَ المسلمين: إنها خيريَّةُ هذه الأُمةِ في قائمةِ شروطِها الأمرُ بالمعروفِ والنهيُ عن المنكَر، والغضبُ لله، والانتصارُ لدينهِ، تُرى أتكفي العُزلةُ والتعبُّدُ بعيداً عن المجاهدةِ والأمرِ بالمعروف والنهيِ عن المنكر؟.
إليكم هديَ واحدٍ من صحابةِ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لقومٍ اعتزلوا يتعبَّدون، فقد أخرج البغويُّ في (شرح السنة) عن الشَّعْبي قال: خرج ناسٌ من أهلِ الكوفة إلى الجَبَّانةِ يتعبَّدون، واتَّخَذُوا مسجداً وبَنْوا بنياناً، فأتاهم عبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ فقالوا: مرحباً بكَ يا أبا عبد الرحمن، لقد سَّرنا أن تزورَنا.
قال: ما أتيتُكم زائراً، ولستُ بالذي أَتركُ حتى يُهدَمَ مسجدُ الجَبَّان، إنكم لأَهدى من أصحابِ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! أرأيتُم لو أن الناسَ صنعوا كما صنعتُم، مَن كان يُجاهدُ العدوَّ، ومَن كان يأمرُ بالمعروف وينهى عن المنكرِ، ومن كان يُقيمُ الحدودَ؟ ارجِعُوا فتعلَّموا ممَّن هو أعلمُ منكم، وعلِّموا مَن أنتم أعلمُ منهم، قال: واسترجَعَ، فما بَرِحَ حتى قَلَعَ أبنيتَهم وردَّهم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [المائدة:35].
الخطبةُ الثانية:
إخوةَ الإسلام: وحين نُورِدُ هذه النصوصَ وتلك الرُّؤَى لعلماءَ ربانيين، لَنؤكِّدُ من خلالِها على قيمةِ الأمر بالمعروفِ والنهيِ عن المنكر، والدعوةِ لدين الله، وإذا كان ذلك مطلَباً في كلِّ الأحوال والظروف، فالأمرُ يتأكَّدُ في أزمانِ الفتن، وعلى حينِ غفلةِ الناس وانشغالِهم عن الأمرِ والنهي والدعوةِ وبذْلِ الخير.
ونؤكِّد ذلك -كذلك- لأن أزمانَ الشدائدِ والنوازِل فرصةٌ لأصحاب الرِّيبِ وأهلِ الأهواء، وأصحابِ الشهوات؛ لينطلقوا بباطلِهم وخُبْثِهم مُستغلِّين غفلةَ الناسِ عنهم بأحداثٍ نازلةٍ بهم، ومن هنا فلا بدَّ من التنبهِ والعمل والدعوةِ والأمرِ بالمعروف والنهيِ عن المنكر ومحاصرةِ المُبْطِلين، وكلُّ مسلمٍ على قَدْرِ طاقتِه وجهدهِ، ويكفيه أن يستشعرَ أنه على ثغرةٍ من ثغراتِ الإسلام، فاللهَ اللهَ أن يُؤتَى الإسلامُ من قِبَلِه! ولْيحَذَرْ أن يتسللَ الأعداءُ من ثغرِه.
عبادَ الله: ومَن قرأَ التاريخَ بعنايةٍ وتمعَّن بالذاتِ في السيرةِ النبوية وجدَ أن المنافقين وأهلَ الريب يتربَّصون بالمسلمين الدوائرَ في كلِّ حين، ولكنهم يَنشَطُون أكثرَ في الأوقاتِ العصيبةِ على المسلمين، يُرجِفون ويتَّهمون، ويَسخَرُون ويتشَفَّوْن، ومواقفُهم في غزوة (أُحدٍ) و(الأحزاب) و(المُريسِيع) و(تبوكَ) خيرُ شاهدٍ على ما نقول.
أجل، لقد فَضَحَهم القرآنُ في (أُحد) بقوله تعالى: (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ) [آل عمران:167].
وكَشفَهم في (الأحزاب) بقوله تعالى: (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً) [الأحزاب:12]، وبقوله تعالى: (أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً) [الأحزاب:19].
وفي غزوة المُريسِيع و(بني المُصطَلِق) أخبر اللهُ عن لُؤْم المنافقين وسوءِ تعاملِهم مع النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- والمؤمنين بقوله: (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ * يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ) [المنافقون:7-8].
أما في غزوةِ تبوكَ فجاءتْ سورةُ براءةَ (التوبة) فاضحةً للمنافقين؛ ومما قال اللهُ عنهم: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ * إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ * قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) [التوبة:49-51].
إنَّ القرآنَ الكريمَ يُذكِّرُنا بمواقفِ المنافقين في الماضي لنَحذرَهُم في الحاضرِ والمستقبل، ومن الخطأ أنْ ينصرفَ الناسُ كلُّهم لحدثٍ طارئٍ ويتركوا الساحةَ للمُبْطِلين وأهلِ الريبِ يتقوَّلُون بألسنتهم ويسخرون بكتاباتِهم، ويُشِيعون المنكرَ بسلوكياتهم، ويُرتِّبون لباطِلهم في حين غفلةِ الناسِ عنهم.
إن الأمرَ من الأهميةِ والخطورةِ بحيثُ يستدعي اهتمامَنا جميعاً بهؤلاء المتسلِّلين، وذلك على مستوى الفردِ والدولةِ حتى لا نفاجَأَ بعدَ حين بعملٍ مُشين لأصحاب السوءِ أُحكِمَتْ خيوطُه على حينِ غفلةٍ.
أيها المسلمون: ومع التحوُّط والحذرِ في كلِّ ما يهدِمُ المعتقدَ أو يُخِلُّ بالأمن -وتلك مسؤوليتُنا جميعاً- فثَمَّةَ مبشِّراتٌ في أزمانِ الشدائد تؤكِّدُ قولَه تعالى: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) [البقرة:216].
فكم من شابٍّ غافلٍ سادرٍ في لهوِه لكنه استيقظَ على مطارقِ الأعداءِ يتَّهمون الإسلامَ ويُهدِّدون المسلمين، فتحرَّكتْ عاطفتُه، وأقبلَ إلى ربِّه تائباً مُنيِباً واضعاً لنفسِه رقماً صحيحاً في أعدادِ المسلمين.
وكم من فتاةٍ كانت تركُضُ وراءَ الموضةِ وتغرَقُ في تقليدِ المرأة الأجنبيةِ الكافرة فجاءتِ الأزمةُ موقِظةً لضميرِها، محرِّكةً لأصالتِها، باحثةً عن هويتِها، مدرِكةً لخطأِ مسيرتِها، ومعاهدةً ربَّها على بُغضِ الكافراتِ وحبِّ المؤمنات، فعاد الحياءُ خُلُقَها، والحجابُ عزَّتَها وفخرَها.
وكم من غنيٍّ أوجعتْهُ صيحاتُ الجَوْعى من المسلمين تملأُ الآفاقَ، وآلمَهُ الموتُ الجماعيُّ للأطفالِ والشيوخ والنساءِ مرضاً أو جوعاً أو قتلاً فأنفق من مالِه لهؤلاءِ وأولئك بسخاءٍ.
أيها المسلمون: وحين تَنشَطُ الكنيسةُ الغربيةُ في هذه الأزمةِ، ويسافر البابا -رغمَ المخاطر- بحثاً عن نصيبِه في الغنيمة، يأبى اللهُ إلا أن يُتِمَّ نورَه ويُظهِرَ دينَه الحقِّ -ولو في حين ضعفِ المسلمين- فتنفَدُ المصاحفُ في عددٍ من الدُّوَل الغربية، ويُقبِلُ الغربيون بشكلٍ عجيب على الكتبِ الإسلامية والتعرُّفِ من خلالِها على الإسلام.
وفي إحدى الصحفِ المحليةِ جاء العنوانُ التالي: رُبَّ ضارَّةٍ نافعة [نفادُ المطبوعاتِ التعريفيةِ بالإسلام في أمريكا]، وتحت الخبرِ وردَ: إنَّ جميعَ المطبوعاتِ والنَّشَراتِ التعريفيةِ الخاصةِ بالمفاهيم الأساسية للدِّينِ الإسلاميِّ قد نَفِدَت كلُّها، وقد بعثَ المُشرِفُ على مكتبِ النَّدوةِ العالمية للشباب الإسلاميِّ في الولايات المتحدةِ مفيداً أن الحاجةَ ماسَّةٌ لإعادةِ طباعةَ أكثرَ من ستِّمائة ألفِ نشرةٍ تعريفيّةٍ عن الإسلام في الوقتِ الراهن، وتطلبُ الندوةُ المشاركةَ في دعمِ هذا المشروعِ الدَّعويِّ.
ولعلَّ ذلك يقودُ أعداداً كثيرةً للإسلام، (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) [يوسف:21].