الشكور
كلمة (شكور) في اللغة صيغة مبالغة من الشُّكر، وهو الثناء، ويأتي...
العربية
المؤلف | عبد الله بن درويش الغامدي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - المنجيات |
الله -سبحانه وتعالى- عندما كتب مقادير الرزق، كتب أيضا وبين الوسائل التي يطلب بها الرزق، وقسم سبحانه وتعالى هذه الوسائل إلى وسائل حسية، ووسائل معنوية. فأما الوسائل المحسوسة في طلب الرزق؛ فإن الناس لا يجهلونها وهي الوسائل المشروعة المباحة التي ليس فيه ضرر على النفس، ولا على الآخرين. وأما الوسائل المعنوية في طلب الرزق، والتي...
الخطبة الأولى:
أما بعد:
فإن طلب الرزق والسعي وراء المادة هو أكثر ما يشغل بال كثير من المسلمين، ويستنفذ أوقاتهم وطاقاتهم.
وإن طلب الرزق من الحلال أمر محمود لا ينكره عاقل، ولكن الملاحظ في زماننا هذا أن الأمر قد أعطي أكبر من حجمه الطبيعي، وطغى حب المال، وحب الماديات، على كثير من المسلمين، مما أثر بشكل كبير على الجوانب المعنوية في حياتهم, وهي الجوانب المهمة في حياة الإنسان كإنسان أولا، ثم كمسلم له ثروة روحية كبيرة.
فأثر حب الدنيا والمال على عبادة الناس، وعلى أخلاقهم، وعلى معاملاتهم, وأثر على مبدأ البر والإحسان والتراحم والتكافل، والمعاملة الحسنة، والإيثار، ومحبة الخير للناس، وأصبحت الأمور تقاس بالمادة, وأصبح الناس يقولون: "إذا عندك ريال فإنك تساوي ريال, وإذا لك عشرة تساوي عشرة"، فأصبح الناس يقاسون بهذا المبدأ المادي الرأسمالي الذي وفد إلينا من زبالة الحضارة الغربية التي تعامل البشر بحسب أرصدتهم في البنوك.
ولا شك أنكم تعلمون أن هذا المنطق ليس منطق المسلم، بل حتى ليس منطق العربي الذي كان يقيم الإنسان بما عنده من الصفات المحمودة من كرم وعفة وشهامة ورجولة وشجاعة، وغيرها، بل لقد بلغ الأمر ببعض الناس الماديين بأن يعتقد أن التمسك بالدين يقلل من أرزاقهم, وأن المظهر الإسلامي يقلل من الفرص الوظيفية، فإذا قيل لموظف أو طالب وظيفة أو طالب ترقية بأن الرئيس الفلاني أو المدير الفلاني أو المؤسسة الفلانية لا يحبون المتدين بادر ذلك الضعيف إلى ترك الفرائض وتخلى عن مبادئه، وانسلخ من مظهره الإسلامي، وتزيا بزي الكفار، وقال: هذه ضرورة! وهذا أكل عيش! وهذه مداراة! وهذه حكمة! ولا بد من التغاضي عن بعض الأحكام الإسلامية في سبيل طلب الرزق، ثم تعذر بشتى الأعذار، وكأنه لا يعلم بأن الله هو الرزاق.
وكأنه لا يعلم بأن الله قد كتب له رزقه وأجله قبل أن يخلق السموات والأرض، ثم جدد كتابته وهو في بطن أمه وأنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها، ولا شك بأن هذا ضعف في التوكل، وضعف في اليقين، وقدح في الإيمان.
والله -سبحانه وتعالى- عندما كتب مقادير الرزق، كتب أيضا وبين الوسائل التي يطلب بها الرزق، وقسم سبحانه وتعالى هذه الوسائل إلى وسائل حسية، ووسائل معنوية.
فأما الوسائل المحسوسة في طلب الرزق؛ فإن الناس لا يجهلونها وهي الوسائل المشروعة المباحة التي ليس فيه ضرر على النفس، ولا على الآخرين.
وأما الوسائل المعنوية في طلب الرزق، والتي لا يلقي لها بالا كثير من الناس، فقد أشار الله -تعالى- إليها في كتابه العزيز، وهي الأمور المهمة التي يستجلب بها الرزق، وتستمطر بها السماء، ويطلب بها الكريم -سبحانه-, وهي عشرة أمور نذكرها هنا لنذكر بها كل من طغت عليه الماديات، وحسب الأمور بالمحسوسات، ونسي تدبير خالق الأرض والسموات، والمتكفل برزق البريات، خالق الخلق ومدبر المعاش ورازق الحيتان في البحر وممسك الطير في جو السماء.
أما السبب الأول من أسباب استجلاب الرزق، فهو: الاستغفار والتوبة من الذنوب، الاستغفار الحقيقي، والتوبة الحقيقية.
وهو الأمر المهم الذي حرص الأنبياء -عليهم السلام- على تذكير قومهم به، فهذا نوح -عليه السلام- يذكر قومه فيقول: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا)[نوح: 10- 12].
قال القرطبي -رحمه الله-: "في هذه الآية والتي في هود دليل على أن الاستغفار يستنزل به الرزق والأمطار".
وقد فهم ذلك أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، فهذا عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- يخرج يستسقي، فلم يزد على الاستغفار حتى رجع فأمطروا، فقالوا: "ما رأيناك استسقيت يا أمير المؤمنين؟ فقال: "بلى والله لقد طلبت المطر بمجاديح السماء التي يستنزل بها المطر"، ثم قرأ قوله تعالى: (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا) [نوح: 10- 11].
وقال الأوزاعي: "خرج الناس يستسقون فقام فيهم بلال بن سعد، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: "اللهم إنا سمعناك تقول: ما على المحسنين من سبيل وقد أقررنا بالإساءة فهل تكون مغفرتك إلا لمثلنا؟! اللهم اغفر لنا وارحمنا واسقنا! فرفع يديه ورفعوا أيديهم فسقوا".
وهذا الحسن البصري -رحمه الله- يدل كل من جاء إليه في حاجة على الاستغفار، شكا رجل إلى الحسن الجدوبة، فقال له: استغفر الله, وشكا آخر إليه الفقر، فقال له: استغفر الله, وقال له آخر: ادع الله أن يرزقني ولدا؟ فقال له: استغفر الله, وشكا إليه آخر جفاف بستانه، فقال له: استغفر الله, فقالوا له: أتاك رجال يشكون أنواعا من البلاء، فأمرتهم كلهم بالاستغفار! فقال: ما قلت من عندي شيئا, إن الله -تعالى- يقول في سورة نوح: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا) [نوح: 10- 12].
وهذا هود -عليه السلام- يذكر قومه فيقول: (وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ) [هود: 52].
ويقول الله -تعالى-: (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ) [هود: 3].
قال القرطبي -رحمه الله-: "هذه ثمرة الاستغفار والتوبة، أي يمتعكم بالمنافع من سعة الرزق، ورغد العيش، ولا يستأصلكم بالعذاب كما فعل بمن أهلك قبلكم".
وهذا النبي المصطفى -صلى الله عليه وسلم- يذكرنا بذلك فيقول: "من أكثر من الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجًا، ومن كل ضيق مخرجًا, ورزقه من حيث لا يحتسب".
السبب الثاني: من أسباب طلب الرزق: التقوى، استمع إلى قوله تعالى: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) [الطلاق: 2- 3].
قال ابن كثير -رحمه الله-: "أي ومن يتق الله فيما أمره به وترك ما نهاه عنه يجعل له من أمره مخرجًا, ويرزقه من حيث لا يحتسب أي من جهة لا تخطر بباله".
وقال تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ) [الأعراف: 96].
وقال تعالى عن أهل الكتاب: (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ) [المائدة: 66].
وقال تعالى: (وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا) [الجن: 16].
وقال: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) [إبراهيم: 7].
السبب الثالث: من أسباب الرزق: التوكل على الله -تعالى-، يقول عمر -رضي الله عنه-: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا".
قال الإمام أحمد -رحمه الله تعالى-: "وليس في هذا الحديث دلالة على القعود عن الكسب، بل فيه ما يدل على طلب الرزق؛ لأن الطير إذا غدت فإنما تغدو لطلب الرزق, وإنما معناه -والله تعالى أعلم- لو توكلوا على الله -تعالى- في ذهابهم ومجيئهم وتصرفهم، ورأوا أن الخير بيده ومن عنده لم ينصرفوا إلا سالمين غانمين كالطير تغدو خماصا وتروح بطانا, لكنهم يعتمدون على قوتهم وجلدهم ويغشون ويكذبون ولا ينصحون, وهذا خلاف التوكل".
السبب الرابع: من أسباب طلب الرزق: التفرغ لعبادة الله -تعالى-، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: "يقول الله -تعالى-: يا ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى، وأسد فقرك, وإن لم تفعل ملأت صدرك شغلا، ولم أسد فقرك".
وفي رواية أخرى صحيحة، قال صلى الله عليه وسلم: "قال ربكم: ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ قلبك غنى, وأملأ يديك رزقا, ابن آدم لا تباعد مني أملأ قلبك فقرا وأملأ يديك شغلا".
وليس معنى هذا الحديث: أنك لا تطلب الرزق ولا تتكسب، ولكن معناه أن يكون العبد حاضر القلب حال عبادته غير ذاكر لأمر من أمور الدنيا، بل متوجها إلى الله -تعالى- بكل قلبه.
ويقول الله -جل وعلا-: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى) [طـه: 132].
قال ابن كثير -رحمه الله-: وقوله: (لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ) يعني إذا أقمت الصلاة أتاك الرزق من حيث لا تحتسب؛ كما قال تعالى: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) [الطلاق: 2 -3].
وقال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) [الذاريات: 56 - 58].
وقال الثوري: (لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا) [طـه: 132]، أي لا نكلفك الطلب.
السبب الخامس: من أسباب طلب الرزق: الحج والعمرة، فال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة".
وهذه من النعم العظيمة فإن الحج والعمرة مع تكفيرهما للخطايا، فإنهما يعودان على الإنسان بالبركة في رزقه فلا يصيبه الفقر, وهذا مثل زيادة الصدقة للمال فإن الطاعات تزيد في الرزق والبركة، ونفي الحوادث والكوارث والمصائب عن هذا الإنسان المعرض لكل نكبة ولكل آفة ومرض.
بهذه المناسبة فإني أذكر نفسي وإياكم بوجوب المبادرة إلى الحج لمن لم يقض الفريضة في حديث ابن عباس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "تعجلوا إلى الحج" يعني الفريضة "فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له".
السبب السادس: من أسباب طلب الرزق: صلة الأرحام، والمراد بالأرحام الأقارب الذين بينك وبينهم نسب، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من سره أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره، فليصل رحمه".
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم، فإن صلة الرحم محبة في الأهل مثراة في المال منسأة في العمر".
وقال صلى الله عليه وسلم: "من سره أن يمد له في عمره، ويوسع له في رزقه، ويدفع عنه ميتة السوء، فليتق الله، وليصل رحمه".
وصلة الأرحام تكون بالزيارة, وتكون بالمكالمة, وتكون بالصدقة, وتكون بالهدية وبالكلمة الحسنة والمودة, وتكون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
السبب السابع: من أسباب استجلاب الرزق: الإنفاق في سبيل الله، يقول الله -تعالى-: (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) [سبأ: 39].
قال ابن كثير: "أي مهما أنفقتم من شيء فيما أمركم به وأباحه لكم فهو يخلفه عليكم في الدنيا بالبدل, وفي الآخرة بالجزاء والثواب، كما ثبت في الحديث: "يقول الله -تعالى-: أنفق أنفق عليك".
وفي الحديث: "أن ملكين يصبحان كل يوم يقول أحدهما: اللهم أعط ممسكا تلفا, ويقول الآخر: اللهم أعط منفقا خلفا".
وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أنفق يا بلال ولا تخش من ذي العرش إقلالاً".
ويقول الله -تعالى-: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [البقرة: 268]، والفضل هنا هو الرزق.
فالرزق يطلب ويستجلب بالإنفاق عند الذين يوقنون بوعد الله -تعالى-، ويعتبرون إنفاقهم مكسبا ومغنما، بعكس المنافقين الذين يعتبرون ما ينفقونه خسارة عليهم ونقصا في أموالهم؛ كما أخبرنا الله -تعالى- بالصنفين في قوله تعالى: (وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [التوبة: 98-99].
السبب الثامن: من أسباب استجلاب الرزق: الإنفاق على طالب العلم، والمقصود بالعلم هنا العلم الشرعي الذي يوصل إلى الله، عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "كان أخوان على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-, فكان أحدهما يأتي النبي -صلى الله عليه وسلم-، والآخر يحترف فشكى المحترف أخاه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال عليه الصلاة والسلام: "لعلك ترزق به".
قال شارح هذا الحديث: "قوله "لعلك ترزق به" أي "أرجو أنك مرزوق ببركته لا أنه مرزوق بحرفتك، فلا تمنن عليه بصنعتك".
السبب التاسع: من أسباب استجلاب الرزق: الإحسان إلى الضعفاء، عن مصعب بن سعد قال: رأى سعد، أي ابن أبي وقاص -رضي الله تعالى عنه- أن له فضلا على من دونه، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم؟" [رواه البخاري والنسائي].
وعند النسائي قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إنما تنصر هذه الأمة بضعيفها بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم".
فمن أراد أن ينصره الله ويرزقه، فليحسن إلى الضعفاء وليكرمهم.
وأخبر صلى الله عليه وسلم أن رضاه عليه الصلاة والسلام يطلب بالإحسان إلى الفقراء، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أبغوني في ضعفائكم, فإنكم إنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم".
قال شارحه: "أبغوني في ضعفائكم" أي اطلبوا رضاي بالإحسان إلى الضعفاء".
السبب العاشر: من أسباب استجلاب الرزق: الهجرة في سبيل الله، يقول الله -تعالى-: (وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا) [النساء: 100]، والسعة في الآية معناها الرزق، كما قال ذلك ابن عباس -رضي الله عنهما-.
وقال الرازي في تفسير هذه الآية: (وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا) من يهاجر في سبيل الله إلى بلد آخر، يجد في ذلك البلد من الخير والنعمة، ما يكون سببا لرغم أنف أعدائه الذين كانوا معه في بلدته التي خرج منها, وذلك؛ لأن من فارق بلده لسوء معاملة أهلها إلى بلدة أجنبية، فرزقه الله، واستقام أمره فيها، ووصل الخبر إلى أهل بلدته، خجلوا من سوء معاملتهم معه، ورغمت أنوفهم.
فالهجرة سبب للرزق، ولكن هذه الهجرة لا بد أن تكون في سبيل الله.
وهذه هي الهجرة المعتبرة في الإسلام، فليست هجرة للثراء، أو هجرة للنجاة من المتاعب، أو هجرة للذائذ والشهوات، أو هجرة لأي عرض من أعراض الحياة، فمن هاجر في سبيل الله وجد في الأرض فسحة ومنطلقًا, فلا تضيق به الأرض، ولا يعدم الحيلة والوسيلة، للنجاة وللرزق والحياة، وإنما هو ضعف النفس وحرصها وشحها؛ يخيل إليها أن وسائل الحياة والرزق، مرهونة بأرض، ومقيدة بظروف، ومرتبطة بملابسات لو فارقتها لم تجد للحياة سبيلا.
هذه -أيها الإخوة- هي الأسباب الحقيقية لاستجلاب رحمة الله ورزقه وفضله.
أما الأشياء المادية، فإنما هي أسباب رتب الله عليها الوقوع, والله -تعالى- إذا قدر الرزق هيأ له السبب المادي سواء رضيت أم لم ترض، وسواء سعيت أم لم تسع, فدورك -أيها المسلم- ليس في السعي الحثيث في أمور مادية لكن دورك الحقيقي هو في السعي لإرضاء الخالق الذي بيده الرزق، وبيده العطاء والمنع: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [آل عمران: 26].
(قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) [سبأ 36].
فإذا كان الأمر كذلك فلماذا نلهث وراء المال؟ ولماذا نترك الأهم في سبيل المهم بل ربما في سبيل التافه؟ والأدهى من ذلك لماذا نطلب المال من الحرام؟ وبعض الناس همه جمع المال ولا يبالي أخذ الريال من حلال أم من حرام؟ لماذا نسرق ونختلس ونغش ونكذب؟ لماذا نتعامل بالربا والبيوع المحرمة؟ لماذا نذل للكفار وقد حذرنا الله منهم ثم قال: (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاء) [التوبة: 28]؟ لماذا الحسد؟ لماذا النجش؟ لماذا الظلم؟ لماذا البغي؟ لماذا الخداع؟ أفلا تعلم أن الله هو الرزاق، فتطلب الرزق من عنده؟
(إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [العنكبوت: 17].
(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [الروم: 37].
الخطبة الثانية:
لم ترد...