الشافي
كلمة (الشافي) في اللغة اسم فاعل من الشفاء، وهو البرء من السقم،...
العربية
المؤلف | محمد هشام طاهري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الحديث الشريف وعلومه - أركان الإيمان |
قال -صلى الله عليه وسلم-: "إنما يرحم الله من عباده الرحماء" (متفق عليه). وقال: "إنه مَن لا يرحم لا يُرحم" متفق عليه، وفي لفظ: "من لا يرحم الناس لا يرحمه الله -عز وجل-"، وقال: "الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا أهل الأرض يرحمكم من في السماء". وقال -صلى الله عليه وسلم-: "ارْحَمُوا تُرْحَمُوا، اغْفِرُوا يَغْفِرِ اللَّهُ لَكُمْ، وَيْلٌ لأَقْمَاعِ الْقَوْلِ، وَيْلٌ لِلْمُصِرِّينَ الَّذِينَ يُصِرُّونَ عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ" (رواه الإمام أحمد والبخاري في الأدب المفرد بإسناد صحيح). قال رجل يا رسول الله: إني لأذبح الشاة فأرحمها، قال: "والشاة إن رحمتها رحمك الله" (رواه البخاري).
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإنَّ خير الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها المسلمون: نتحدث وإياكم عما تكلم به النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- حول اسم الله -عز وجل- "الرحيم" وصفته -تبارك وتعالى- الرحمة فقد كان -صلى الله عليه وسلم- يفتتح كتبه إلى الملوك والأمراء بالبسملة المشتملة على اسم الله "الرحيم".
قال ابن عباس أخبرني أبو سفيان أن هرقل دعا ترجمانه، ثم دعا بكتاب النبي -صلى الله عليه وسلم- فقرأ: "بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد عبدالله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم".
وعن قتادة قال: "سُئِل أنس: كيف كانت قراءة النبي -صلى الله عليه وسلم-؟ فقال: كانت مدّاً، ثم قرأ: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) يَمُدّ بِـ (بسم الله)، ويَمُدّ بـ(الرحمن)، ويَمُدّ بـ (الرحيم ) (رواه البخاري).
قال -رحمه الله تعالى- أعني البخاري: "الرحيم والراحم بمعنى واحد كالعليم والعالم".
وقال في قوله تعالى: (وَأَقْرَبَ رُحْمًا)، وهي من أشد مبالغة من الرحمة، قال: ونظن أنه من الرحيم، وتدعى مكة أم رحمًا أي الرحمة تنزل بها.
إن أبا بكر الصديق -رضي الله عنه- قال لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "علمني يا رسول الله دعاء أدعو به في صلاتي وفي بيتي؟"، قال: "قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم" (رواه البخاري).
وعن واثلة بن الأسقع -رضي الله عنه- قال: صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم، يعني الجنازة- على رجل من المسلمين قال أسمعه يقول: "اللهم إن فلانًا ابن فلان في ذمتك وحبل جوارك فقِهِ من فتنة القبر وعذاب النار، وأنت أهل الوفاء والحق، اللهم فاغفر له وارحمه فإنك أنت الغفور الرحيم" (رواه أبو داود وابن ماجه وإسناده حسن).
قال مِحْجَنُ بْنُ الأَدْرَعِ -رضي الله عنه-: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ قَدْ قَضَى صَلاتَهُ وَهُوَ يَتَشَهَّدُ –أي في تشهده- وَهُوَ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ، يَا اللَّهُ، الأَحَدُ الصَّمَدُ، الَّذِي لَمْ تَلِدْ وَلَمْ تُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَكَ كُفُوًا أَحَدٌ، أَنْ تَغْفِرَ لِي ذُنُوبِي إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: قَدْ "غُفِرَ لَهُ، قَدْ غُفِرَ لَهُ، قَدْ غُفِرَ لَهُ" (رواه أبو داود).
وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "إن كنا لنعد لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المجلس الواحد مائة مرة "رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم".
وفي حديث الشفاعة الطويل مما يدل على عظيم رحمة الله، مما يدل على عظيم رحمة الرحيم ما جاء في رواية أبو هريرة -رضي الله عنه- قال: "حتى إذا أراد الله رحمة من أراد من أهل النار أمر الملائكة أن يُخرجوا من كان يعبد الله فيخرجونه ويعرفونه بآثار السجود وحرم الله على النار أن تأكل أثر السجود فيخرجون من النار"، والذي لا يصلي بأي شيء يعرفونه؟!
قال: "ويعرفونهم بآثار السجود، وحرم الله على النار أن تأكل أثر السجود فيخرجون من النار، فكل ابن آدم تأكله النار إلا أثر السجود فيخرجون من النار قد امتُحِشُوا فيصب عليهم ماء الحياة فينبتون تحته كما تنبت الحبة في حميل السيل.." (رواه البخاري).
وفي حديث آخر قال الله -عز وجل-: "أنا أرحم الراحمين، أدخلوا جنتي من كان لا يشرك بي شيئا"، ما أرحمه! فيدخلون الجنة ثم يقول الله تعالى: "انظروا في النار هل فيها من أحد عمل خيرًا قط" أيّ خير يستجوب له الخروج من النار مما يدل على ذلك الروايات التي ستأتي.
قال "فيجدون في النار رجلاً فيقال له هل عملت خيرًا قط فيقول: لا، غير أني كنت أسامح الناس في البيع، فيقول الله: اسمحوا لعبدي كإسماحه إلى عبيدي".
ثم يخرج من النار آخر فيقال له: هل عملت خيرًا قط؟ فيقول: لا، غير أني أمرت ولدي إذا مت أن فاحرقوني بالنار ثم اطحنوني حتى إذا كنت مثل الكحل، فاذهبوا بي إلى البحر فاذروني في الريح، فقال الله: لِمَ فعلت ذلك؟ قال: من مخافتك، فيقول الله انظر إلى ملك أعظم ملك فإن لك مثله وعشرة أمثاله، فيقول: لِمَ تسخر بي وأنت الملك، فذلك الذي ضحكت به من الضحى". قال إسحاق: هذا من أشرف الحديث. (رواه الإمام أحمد بلفظ وابن حبان وصححه).
وعند الإمام مسلم في حديث الشفاعة يقول الله -عز وجل-: "يقول الله تعالى: شفعت الملائكة، وشفع النبيون، وشفع المؤمنون، ولم يبقَ إلا أرحم الراحمين، فيقبض قبضة من النار، فيخرج منها قومًا لم يعملوا خيرًا قط. قد عادوا حممًا، فيلقيهم في نهر في أفواه الجنة يقال له: نهر الحياة. يخرجون كما تخرج الحبة في حميل السيل ألا ترونها تكون إلى الحجر أو إلى الشجر. ما يكون إلى الشمس أصيفر وأخيضر، وما يكون منها إلى الظل يكون أبيض؟ فقالوا: يا رسول الله! كأنك كنت ترعى بالبادية. قال: فيخرجون كاللؤلؤ في رقابهم الخواتم؟ يعرفهم أهل الجنة. هؤلاء عتقاء الله الذين أدخلهم الله الجنة بغير عمل عملوه، ولا خير قدّموه. ثم يقول: ادخلوا الجنة فما رأيتموه فهو لكم فيقولون: ربنا! أعطيتنا ما لم تعطِ أحدًا من العالمين. فيقول: لكم عندي أفضل من هذا، فيقولون: يا ربنا! أي شيء أفضل من هذا؟ فيقول: رضاي فلا أسخط عليكم بعده أبدًا".
وعند الحاكم في مستدركه يقول الله: "أنا أرحم الراحمين فيخرج من النار أكثر مما أخرج من جميع الخلق برحمته"، قال: "ثم يقول: أنا أرحم الراحمين".
وعند البخاري في الأدب المفرد بإسناد صحيح عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- رجل ومعه صبي فجعله يضمه إليه، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- أترحمه؟! قال: نعم، قال: "فالله أرحم بك منك به وهو أرحم الراحمين".
ومن ها هنا قال عمر بن الدينار: "لا أحب أن يتولى حسابي إلا الله أرحم الراحمين".
وقال -صلى الله عليه وسلم-: يوم فتح مكة للمشركين الذين أذوه وعذبوه وطردوه، ما تقولون؟ قالوا: نقول ابن أخ وابن عم رحيم كريم، ثم عاد عليهم القول، فقالوا مثل ذلك، قال: "فإني أقول مثل قول أخي يوسف لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم، وهو أرحم الراحمين" (رواه النسائي).
قال عبدالرحمن بن يزيد بن معاوية: "الكلمات التي تلقى آدم من ربه، وكانت سببًا لتوبة الله عليهما، قال: قولهما اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك عملت سوءًا وظلمت نفسي فارحمني وأنت خير الراحمين، اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك عملت سوءًا وظلمت نفسي فتب عليَّ إنك أنت التواب الرحيم" (رواه ابن أبي شيبة في مصنفه).
وعن عامر -رضي الله عنه- قال: "بين نحن عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذ أقبل رجل عليه كساء وفي يده شيء قد التف عليه، فقال: يا رسول الله! إني لما رأيتك أقبلت إليك فمررت بغيضة شجر فسمعت فيها أصوات فراخ طائر فأخذتهن فوضعتهن في كسائي، فجاءت أمهن فاستدارت على رأسي، فكشفت لها عنهن فوقعت عليهن معهن فلففتهن بكسائي، فهن أولاء معي، قال: ضعهن عنك. فوضعتهن وأبت أمهن إلا لزومهن، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه: "أتعجبون لرحم أم الأفراخ فراخها؟" قالوا: نعم يا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال: "فوالذي بعثني بالحق لله أرحم بعباده من أم الأفراخ بفراخها ارجع بهن حتى تضعهن من حيث أخذتهن وأمهن معهن فرجع بهن" (رواه أبو داود).
قالت أميمة بنت رقيقة رضي الله عنها: "لله ورسوله أرحم بنا منا بأنفسنا".
وعن سودة بن زمعة -رضي الله عنها- أم المؤمنين قالت: "جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "إن أبي شيخ كبير لا يستطيع أن يحج؟ قال: "أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته عنه قُبِلَ منك؟" قال: نعم. قال: "فالله أرحم، حُجَّ عن أبيك" (رواه الدارمي).
وعن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قدم على النبي -صلى الله عليه وسلم- سبي فإذا امرأة من السبي قد تحلب ثديها تسقي إذا وجدت صبيًّا في السبي أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته، فقال لنا النبي -صلى الله عليه وسلم-: أترون هذه طارحة ولدها في النار؟ قلنا: لا وهي تقدر على أن لا تطرحه. فقال: "لله أرحم بعباده من هذه بولدها".
وفي صحيح الإمام مسلم عن سلمان الفارسي -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن لله مائة رحمة، فمنها رحمة بها يتراحم الخلق بينهم وتسعة وتسعون ليوم القيامة"، وفي لفظ عنده: "إن الله خلق يوم خلق السماوات والأرض مائة رحمة كل رحمة طباق ما بين السماء والأرض، فجعل منها في الأرض رحمة فبها تعطف الوالدة على ولدها، والوحش والطير بعضها على بعض، فإذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرحمة".
قال الإمام الترمذي -رحمه الله-: "قال سفيان الثوري وغير واحد من أهل العلم: "صلاة الرب رحمته بالعبد".
وعن فضالة بن عبيد -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ثَلاثَةٌ لا تَسْأَلْ عَنْهُمْ"، أين هلكوا وفي أي وادي من جهنم يكونون؟ "رَجُلٌ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ وَعَصَى إِمَامَهُ وَمَاتَ عَاصِيًا، وَأَمَةٌ أَوْ عَبْدٌ أَبَقَ مِنْ سَيِّدِهِ فَمَاتَ، أَوِ امْرَأَةٌ غَابَ عَنْهَا زَوْجُهَا وَقَدْ كَفَاهَا مُؤْنَةَ الدُّنْيَا فَتَبَرَّجَتْ بَعْدَهُ، فَلا تَسْأَلْ عَنْهُمْ".
"ثلاثة لا تسأل عنهم: رجل نازع الله -عز وجل- رداءه, فإن رداءه الكبر, وإزاره العزة، ورجل في شك من أمر الله، والقنوط من رحمة الله" (رواه البخاري في الأدب المفرد بإسناد صحيح).
وعن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع في جنته أحد، ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط من جنته أحد" متفق عليه.
وعن أبي موسى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله -عز وجل- إذا أراد رحمة أمة من عباده قبض نبيها قبلها فجعله لها فرطًا وسلفًا بين يديها"؛ كحال هذه الأمة المرحومة إذ كان النبي -صلى الله عليه وسلم- سلفًا لنا.
"وإذا أراد هلكة أمة عذَّبها ونبيها حي، فأهلكها وهو ينظر فيقر عينيه بهلكتها حين عذبوه وعصوه وأمره" (رواه مسلم).
وعن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من اشتكى منكم شيئاً أو اشتكاه أخ له فليقل: ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك، أمرك في السماء والأرض، كما رحمتك في السماء فاجعل رحمتك في الأرض، اغفر لنا حوبنا وخطايانا أنت رب الطيبين، أنزل رحمة من رحمتك وشفاء من شفائك على هذا الوجع فيبرأ" (رواه أبو داود).
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "إذا دخل أحدكم المسجد فليسلم على النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم ليقل: "اللهم أفتح لي أبواب رحمتك" (رواه مسلم وأبو داود).
وكان إذا استسقى قال: "اللهم اسقِ عبادك وبهائمك وانشر رحمتك" (رواه أبو داود).
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "دعوات المكروب، اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين وأصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت" (رواه أبو داود).
قال أبو هريرة -رضي الله عنه-: سمعت -صلى الله عليه وسلم- يقول: " كَانَ رَجُلَانِ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ مُتَوَاخِيَيْنِ، فَكَانَ أَحَدُهُمَا يُذْنِبُ وَالْآخَرُ مُجْتَهِدٌ فِي الْعِبَادَةِ، فَكَانَ لَا يَزَالُ الْمُجْتَهِدُ يَرَى الْآخَرَ عَلَى الذَّنْبِ فَيَقُولُ: أَقْصِرْ. فَوَجَدَهُ يَوْمًا عَلَى ذَنْبٍ فَقَالَ لَهُ: أَقْصِرْ. فَقَالَ: خَلِّنِي وَرَبِّي، أَبُعِثْتَ عَلَيَّ رَقِيبًا؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ، أَوْ لَا يُدْخِلُكَ اللَّهُ الْجَنَّةَ. فَقَبَضَ أَرْوَاحَهُمَا، فَاجْتَمَعَا عِنْدَ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَقَالَ لِهَذَا: الْمُجْتَهِدِ أَكُنْتَ بِي عَالِمًا؟ أَوْ كُنْتَ عَلَى مَا فِي يَدِي قَادِرًا ؟ وَقَالَ لِلْمُذْنِبِ: اذْهَبْ فَادْخُلْ الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِي. وَقَالَ لِلْآخَرِ: اذْهَبُوا بِهِ إِلَى النَّارِ".
قال أبو هريرة: والذي نفسي بيده لتكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته. (رواه أبو داود).
قال أبي بن كعب -رضي الله عنه- "لو أن الله عذب أهل سمواته وأهل أرضه وهو غير ظالم لهم ولو رحمهم كانت رحمته خيرا لهم من أعمالهم" (رواه أبو داود وابن ماجه).
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فأوصيكم بتقوى الله -عز وجل- ونيل رحمته، وذلك بالتعرض لرحماته، أي عباد الله اعلموا أن من لم ينل رحمة الله في الدنيا بالتدين له سبحانه، فلن ينال رحمته في الآخرة، وفي الصحيحين قال: "لما قضى الله الخلق كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي غلبت غضبي"، وقال الله -تبارك وتعالى- للجنة: "أنتِ رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي".
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "قال الله -عز وجل-: وأما وقوفك بعرفة فإن الله –عز وجل- ينزل إلى السماء الدنيا فيباهي بكم الملائكة، فيقول هؤلاء عبادي جاءوا شعثًا غبرًا من كل فج عميق، يرجون رحمتي، ويخافون عذابي، ولم يروني، فكيف لو رأوني".
وفي الصحيحين: "لن يدخل أحد منكم عمله الجنة" قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: "ولا أنا إلا أن يتغمدني الله منه بفضل ورحمة".
وقال الله -عز وجل-: "أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر. فأما من قال: مُطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال مُطرنا بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب" (متفق عليه).
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "إنما يرحم الله من عباده الرحماء" (متفق عليه).
وقال: "إنه مَن لا يرحم لا يُرحم" متفق عليه، وفي لفظ: "من لا يرحم الناس لا يرحمه الله -عز وجل-"، وقال: "الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا أهل الأرض يرحمكم من في السماء".
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "ارْحَمُوا تُرْحَمُوا، اغْفِرُوا يَغْفِرِ اللَّهُ لَكُمْ، وَيْلٌ لأَقْمَاعِ الْقَوْلِ، وَيْلٌ لِلْمُصِرِّينَ الَّذِينَ يُصِرُّونَ عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ" (رواه الإمام أحمد والبخاري في الأدب المفرد بإسناد صحيح).
قال رجل يا رسول الله: إني لأذبح الشاة فأرحمها، قال: "والشاة إن رحمتها رحمك الله" (رواه البخاري).
بكى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: فلما رأى القوم بكاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بكوا فقال: "أَلا تَسْمَعُونَ أَنَّ اللَّهَ لا يُعَذِّبُ بِدَمْعِ الْعَيْنِ وَلا بِحُزْنِ الْقَلْبِ، وَلَكِنْ يُعَذِّبُ بِهَذَا وَأَشَارَ إِلَى لِسَانِهِ أَوْ يَرْحَمُ" (متفق عليه).
ويقال للمقبور الناجي للمقبور حينما يدفن فينجي من عذاب القبر، ولكن الله عصمك ورحمك فأبدلك به بيتا في الجنة. (رواه أبو داود).
وكان -صلى الله عليه وسلم- يدعو ويطلب رحمة الله بألفاظ مختلفة، فكان يقول: "ولا تسلط علينا من لا يرحمنا"، ويقول: "اللهم ارحمها فإني أرحمها، اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار اللهم ارحمني".
ويقول: "اللهم إن أمسكت نفسي فارحمها"، ويقول: "اللهم اغفر لهم وارحمهم"، ويقول: "اللهم ارحمنا".
وجعل الله ملائكة الرحمة كما في البخاري، وقال: "أدخلهم الله الجنة بفضل رحمته إياهم" (رواه النسائي).
وكان من دعاء ابن مسعود -رضي الله عنه- أنه كان يقول: "اللَّهُمَّ أَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِنَا، وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا، وَاهْدِنَا سُبُلَ السَّلَامِ، وَنَجِّنَا مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، وَجَنِّبْنَا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَبَارِكْ لَنَا فِي أَسْمَاعِنَا، وَأَبْصَارِنَا، وَقُلُوبِنَا، وَأَزْوَاجِنَا، وَذُرِّيَّاتِنَا، وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ، وَاجْعَلْنَا شَاكِرِينَ لِنِعْمِكَ مُثْنِينَ بِهَا عَلَيْكَ، قَابِلِينَ لَهَا، وَأَتِمِمْهَا عَلَيْنَا".
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات.