الشافي
كلمة (الشافي) في اللغة اسم فاعل من الشفاء، وهو البرء من السقم،...
العربية
المؤلف | خالد بن علي الغامدي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - أهل السنة والجماعة |
إن استِشعار سُنَّة أن الجزاء من جنسِ العمل، واستِحضارها في كل المواقِف والأحداث، يمنَحُ العبدَ اليقينَ بعدل الله وحكمته، وأنه القادرُ على كل شيءٍ، الذي لا تخفَى عليه خافِية، ويجعلُ العبدَ يتوقَّعُ الخيرَ من الله، فيُحسِنُ الظنَّ بربِّه، ويرجُو رحمتَه وكرمَه وحُسن ثوابِه، ويشعُر بالطُّمأنينة والرِّضا؛ لأنه يعلمُ علمَ اليقين أنه سوفَ يُجازَى الجزاءَ الأوفَى، فلا يبأَس ولا ييأَس، والله لا يُضيعُ أجرَ من أحسنَ عملاً. ومن جازاه الله الجزاءَ الحسنَ، فلا يغترَّ بذلك ولا يفخَر؛ بل عليه أن يشكُر الله ويسألَه المزيدَ، لكي يستديمَ هذه النعمة، ومن جازاه الله جزاءَ السُّوء، فلا يقنَط من رحمةِ الله وعفوِه، وعليه بالتوبةِ والاستِغفار والبُعد عن مساخِطِ الله وغضبِه، فما نزلَ بلاءٌ إلا بذنبٍ، ولا رُفِع إلا بتوبةٍ.
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي حكمَ وقدَّر، وبشَّر وأنذَر، أقامَ هذا الكونَ على الميزان والعدل، وامتنَّ على من شاءَ من عبادِه بالفضل، أحمدُه - سبحانه - حمدًا يليقُ بحكمته البالِغة وقُدرته الباهِرة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وسِع كلَّ شيءٍ رحمةً وعلمًا، وأحاطَ بكل شيءٍ قُدرةً وحُكمًا، .
وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه الميزانُ الأكبر، والسِّراجُ الأزهر، صلَّى الله عليه وعلى الآل الطيبين السادة، والصحابةِ أُولِي القوة والأبصار والريادة، والتابعين لهم بإحسانٍ وسلَّم تسليمًا كثيرًا ما سبَّحَت الأفلاكُ الدائرة، والخلائِقُ المُتكاثِرة.
أما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله - وراقِبُوه، واعلَموا أنكم إن تتقُوا الله يجعل لكم فُرقانًا ونورًا تمشُون به، ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم.
أمة الإسلام:
إن الله -سبحانه وتعالى- قد أودعَ في هذه الحياة سُننًا ثابتةً لا تتغيَّرُ ولا تتبدَّلُ، والعاقلُ السعيدُ هو الذي يتعرَّفُ على هذه السُّنن الإلهية ليعملَ بمُقتضاها، ولا يُصادِمُها ولا يُخالِفُها، فيعيشُ في هذه الحياة عيشةَ الكرام المُوفَّقين السُّعداء، وله في الآخرة الأجورُ والنَّعماء.
ومن تلكُم السُّنن العظيمة: سُنَّةٌ طالما كان لها الأثرُ الكبيرُ في حياة الناس، وعاقِبة أمورهم ومآلهم، ألا وهي: سُنَّةُ أن "الجزاء من جِنسِ العمل"، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر.
إنها سُنَّةٌ إلهيَّةٌ كُبرى، وقبسٌ من قبَسات عدل الله وحكمته وقُدرته التي لا حدودَ لها، وقاعدةُ الجزاء الربَّاني في هذا الكون القائِم على العدل والميزان الذي لا يعولُ ولا يميلُ ولا يُحابِي أحدًا.
ولو تفكَّر الناسُ جميعًا في ظاهر أمرهم وباطنِه، وما هم عليه؛ لوجدُوا هذه السُّنةَ تتجلَّى لهم في كل شُؤون حياتهم، ولفقُهُوا طرفًا من حكمة الله البالِغة في أقداره وأحكامِه، فالبرُّ لا يبلَى، والإثمُ لا يُنسَى، والديَّانُ لا يموتُ، وكما تدينُ تُدان، وكما تُجازِي تُجازَى.
أليس من العجيب أن يرحمَ الله بغيًّا؛ لأنها رحِمَت حيوانًا كادَت أن يهلِك فروَّت عطشَه؟! أليس من المُدهِش أن يخسِفَ الله بقارون وكنوزِه الأرض، ويُجرجِرَه فيها؛ لأنه طغَى وبغَى، وكادَ أن يفتِنَ الناسَ ويُزلزِلَ إيمانَهم بربِّهم؟!
وإن تعجَبُوا.. فعجبٌ ما أصابَ الصحابةَ يوم أُحُد، حتى قالوا: (أَنَّى هَذَا) [آل عمران: 165]، فجاء الجوابُ من الحكَم العدل - سبحانه - فاصلاً قاطعًا: (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ).
إن هذه السُّنة الربَّانيَّة هي محورُ الجزاء بالعدل وبالفضل المُماثِل لعمل العبد ومن جِنسِه، وهي مُطَّردةٌ شرعًا وقدرًا وزمانًا ومكانًا، دلَّت عليها أكثرُ من مائة آيةٍ في كتاب الله، وتكاثَرَت النصوصُ النبويةُ في تقريرها وترسيخِها في النفوس.
فهل سمعتُم أن الله يقول: (هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ) [الرحمن: 60]؟! وهل قرأتُم قولَه - سبحانه -: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا) [النساء: 123]؟!
ولقد توالَت الآياتُ تلوَ الآيات في بيان أن الله يُجازِي أهلَ الإيمان والتقوى بالحياة الطيبة، فيفتحُ لهم بابَ الأُنسِ به ومعرفته والفرح به - سبحانه -، ويُيسِّر لهم أمورَهم، ويكشِفُ كُروبَهم ويُنجِّيهم، ويحفظُهم في أنفُسهم وذُرِّيَّاتهم ويكفِيهم، وينصُرُهم ويُكرِمُهم جزاءً بما كانوا يعمَلون.
ومن اتَّقى الله وأخلصَ له، وعفَّ عن المُحرَّمات؛ صرفَ الله عنه السوءَ والفحشاءَ، وجعلَ له لسانَ صِدقٍ في الآخرين، (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ) [يوسف: 24].
ومن صدقَ مع الله، وأحسنَ في قوله وعمله؛ صدقَه الله وآتاه علمًا وحكمًا، وأقبلَ عليه بقلوبِ الخلق، وجعلَها تفِدُ إليه بكل الوُدِّ والمحبَّة والرحمةِ.
وأما عبادُ الله المُستضعَفون المظلُومون المغلُوبون، فاسمَعوا بماذا يُجازِيهم الله: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ) [القصص: 5، 6].
أيها المسلمون:
حُسنُ العاقبةِ، وطِيبُ المآل من الجزاء الحسن؛ فقد ترى الرجلَ في شيبَته يعيشُ حياةً طيبةً هنيئةً رضيَّة، وما ذاك إلا لأنه كان لله في شبابه، مُحافِظًا على طاعاتِ ربِّه ورِضاه، فحفِظَه الله في الكِبَر، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «احفَظ الله يحفَظك، احفَظ الله تجِده تُجاهَك» (أخرجه الترمذي وغيرُه).
وقد يُبتلَى المرءُ بمُصيبةٍ فيرضَى ويُسلِّم، فيهدِي الله قلبَه، ويرضَى عنه، وتكونُ له العاقبةُ الحسنةُ، ويُؤتيهِ الله خيرًا مما أُخِذَ منه، وليس ذلك لأحدٍ إلا للمُؤمن، والعاقبةُ للتقوى.
واعتبِروا - يا عباد الله -، اعتبِروا بأولئك الذين يُظلُّهم الله الكريمُ في ظلِّه، كيف أنهم لما صبَروا لله في هذه الدنيا، وتحمَّلوا المشاقَّ في سيبله؛ كانت عاقبةُ أمرهم: سُرورًا وحُبورًا، وظلالاً وارفةً بارِدةً، والناسُ في هولٍ وكربٍ وشمسٍ لاهِبة، (وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا) [الإنسان: 12].
ومن غضَّ بصرَه، وحفِظَ سمعَه ولسانَه عن الحرام؛ جازاه الله وعوَّضَه بأن يُطلِقَ له نورَ بصيرته وقلبِه، ويفتحَ له من الفهم والعلم وسَدادَ القول ما هو أعظمُ لذَّةً وفرحًا من هذه اللذَّات المُحرَّمة.
والكلمةُ الطيبةُ من رِضوان الله، يتكلَّمُ بها العبدُ؛ يكتبُ الله له بها رِضوانَه إلى يوم القيامة.
ومن برَّ والدَيه، ووصلَ رحِمَه؛ وصلَه الله برحمته وكرمِه.
ومن استغفرَ للمُؤمنين والمُؤمنات؛ كتبَ الله له بكل مُؤمنٍ ومُؤمنةٍ حسنة. ومن سترَ مُسلمًا سترَه الله، ومن يُنفِق يُنفِقُ الله عليه، ومن كان في عَون أخيهِ كان الله في عَونه، وإنما يرحمُ الله من عبادِه الرُّحماء.
وذلك كلُّه أثرٌ من آثار هذه السنَّة الربانيَّة، فالجزاءُ من جنسِ العمل.
كما جازَى الله تعالى خليلَه ونبيَّه إبراهيم - عليه وعلى نبيِّنا أفضل الصلاة والسلام - بأن جعلَه إمامًا وأمةً يُقتدَى به، ونورًا يُستضاءُ بقوله وفعلِه، بعد أن اختبرَه الله بكلماتٍ فأتمَّهنَّ، ووجدَه صابرًا حليمًا أوَّاهًا مُنيبًا.
وهذا يُوسف - عليه وعلى نبيِّنا أفضل الصلاة والسلام - جرَت له من الخُطوب والكُروب، ما كان سببًا لأن مكَّن الله له في الأرض، وكانت له العاقبةُ الحسنة.
وسيِّدُ الأولين والآخرين نبيُّنا محمدٌ - صلى الله عليه وآله وسلم - ابتُلِي البلاءَ العظيم، وكمَّل لله مقامات العبودية كلَّها، فكمَّله الله وجمَّله، ورفعَ له ذِكرَه في العالمين، وجعلَه إمامَ الخلق كلِّهم، في كل المقامات الشريفة في الدنيا والآخرة.
وزوجتُه الصفيَّةُ الرضيَّةُ خديجةُ - رضي الله عنها -، بشَّرها الله ببيتٍ من الجنة من قصَبٍ؛ لأنها كانت أسرَع الناس إلى الإيمان برسولِ الله، فحازَ قصبَ السبق والشرف، لا صخَبَ فيه ولا نصَبَ، لأنها أحسنَت صُحبتَه، وواسَته بنفسِها ومالِها، وقامَت بحقوقِه - صلى الله عليه وآله وسلم - بلا ممللٍ ولا كللٍ ولا رفعِ صوتٍ ولا ضجَر.
وتتكاثَرُ الشواهدُ والأدلةُ والقصص؛ ليعلَم الناسُ كلُّهم أن الجزاءَ من جنسِ العمل، (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة: 7، 8].
أيها المسلمون:
ومن عجائبِ البيان لهذه السُّنَّة الإلهيَّة: أن من نسِيَ الله نسِيَه الله، فلا يُبالِي به، ومن سمَّع بعمله سمَّع الله به مسامِعَ خلقِه وصغَّره وحقَّره، ومن راءَى يُرائِي الله به، ومن تتبَّع عورات المُسلمين تتبَّع الله عورتَه وفضحَه، ومن زاغَ عن الهُدى أزاغَه الله ومدَّ له من العذابِ مدًّا، ومن أعرضَ عن ذِكرِ الله عاشَ ضنكًا ونكَدًا.
ومن عرَّض المُؤمنين والمُؤمنات للفتنةِ والعذابِ والقتل والتحريقِ؛ صرعَه الله شقيًّا ذليلاً مبغُوضًا، وله في الآخرةِ عذابُ الحريق، (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ) [البروج: 10].
والذين نافقُوا وأجرَموا، لما سخِروا من الذين آمنوا وكانوا منهم في الدنيا يضحَكون ويتغامَزُون؛ كان الجزاءُ من جنسِ العمل، (فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) [المطففين: 34- 36].
وقد تحايلَ قومٌ على شريعةِ الله وأحكامه، فغيَّروا وبدَّلُوا وحرَّفُوا اتباعًا لأهوائِهم وأهواء الذين ظلَموا؛ فغيَّر الله صُورَهم وأشكالَهم، ومسخَهم قردةً خاسِئين، وطبَ على قلوبِهم فلا يعرفون معروفًا، ولا يُنكِرون مُنكرًا إلا ما أُشرِبَ من هواهُم.
وتوعَّد - سبحانه - مانِعِي الزكاة بكيَّاتٍ ثلاثٍ في جِباهِهم وجُنوبِهم وظُهورهم، وهي كيَّاتٌ مُناسبةٌ لسُوءِ عملهم، جزاءً لهم بنقيضِ قصدِهم.
ومن كتمَ شرعَ الله، وأخفَى العلمَ الذي يجبُ أن يظهرَ للناس ولم يتُب من ذلك؛ فأولئك يعلنُهم الله ويلعنُهم اللاعِنون، ويُلجِمُهم الله بلِجامٍ من نارٍ يوم القيامة، جزاءً وِفاقًا.
وحين نتأمَّلُ -يا عباد الله-، حين نتأمَّلُ العقوبات التي أنزلَها الله بمن عاندَ أمرَه وخالَفَ رُسُلَه، نجِدُ أنها مُناسِبةٌ أيَّما مُناسبَةٍ لذنوبِهم وأعمالهم، كما قصَّ الله علينا هلاكَ قومِ نُوحٍ، وعادٍ، وثَمُود، وأصحابِ الأيكة، وقوم لُوط، وفرعون، وسبأ، وغيرهم، (فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [العنكبوت: 40].
قال ابنُ عُمر - رضي الله عنهما -: "كان بالمدينة أقوامٌ لهم عيوبٌ، فسكَتُوا عن عيوبِ الناسِ، فأسكَتَ الله الناسَ عن عيوبِهم، فماتُوا ولا عيوبَ لهم، وكان بالمدينة أقوامٌ لا عيوبَ لهم، فتكلَّموا في عيوبِ الناسِ، فأظهرَ الله عيوبَهم، فما زالُوا يُعرَفُون بها إلى أن ماتُوا".
وقال إبراهيمُ النَّخعيُّ - رحمه الله -: "إني لأرَى الشيءَ مما يُعابُ، فما يمنَعني أن أتكلَّم فيه إلا مخافةَ أن أُبتلَى بمثلِه".
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعَنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقولُ قولِي هذا، وأستغفرُ الله العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفِروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله حقًّا وصدقًا، والشكرُ له تعبُّدًا ورِقًّا، أكملَ لنا الدينَ وتمَّت كلماتُه صِدقًا وعدلاً، والصلاةُ والسلامُ على المبعُوث بالهدى يقينًا وحقًّا، وعلى الآل والأصحابِ والأتباعِ دائمًا وأبدًا.
وبعد .. أمة الإسلام:
إن استِشعار سُنَّة أن الجزاء من جنسِ العمل، واستِحضارها في كل المواقِف والأحداث، يمنَحُ العبدَ اليقينَ بعدل الله وحكمته، وأنه القادرُ على كل شيءٍ، الذي لا تخفَى عليه خافِية، ويجعلُ العبدَ يتوقَّعُ الخيرَ من الله، فيُحسِنُ الظنَّ بربِّه، ويرجُو رحمتَه وكرمَه وحُسن ثوابِه، ويشعُر بالطُّمأنينة والرِّضا؛ لأنه يعلمُ علمَ اليقين أنه سوفَ يُجازَى الجزاءَ الأوفَى، فلا يبأَس ولا ييأَس، والله لا يُضيعُ أجرَ من أحسنَ عملاً.
ومن جازاه الله الجزاءَ الحسنَ، فلا يغترَّ بذلك ولا يفخَر؛ بل عليه أن يشكُر الله ويسألَه المزيدَ، لكي يستديمَ هذه النعمة، (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) [إبراهيم: 7].
ومن جازاه الله جزاءَ السُّوء، فلا يقنَط من رحمةِ الله وعفوِه، وعليه بالتوبةِ والاستِغفار والبُعد عن مساخِطِ الله وغضبِه، فما نزلَ بلاءٌ إلا بذنبٍ، ولا رُفِع إلا بتوبةٍ.
وإن قوم يُونس - عليه السلام - لما آمَنوا كشفَ الله عنهم عذابَ الخزيِ في الحياة الدنيا ومتَّعَهم إلى حينٍ.
إن سُنَّة الجزاء من جنسِ العمل سُنَّةٌ عامَّةٌ على البشريَّة كلِّها، لا تُحابِي أحدًا، ولا تستثنِي أحدًا، وهي تحُلُّ وتنزِلُ بمن يستحقُّها في الوقت المُناسِب في علمِ الله وحِكمته.
فقد كان بين دعوةِ مُوسَى - عليه الصلاة والسلام - على فرعون وقومِه: (رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ) [يونس: 88]، كان بين هذه الدعوة وبين استِجابةِ الله لها وهلاكِ فرعون وقومه أربعُون سنة، كما ذكرَ ذلك المُفسِّرون، فلا (تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ) [إبراهيم: 42].
وقد يُمهِلُ الله الظالمين المُعتَدين، ولكنه لا يُهمِلهم، وقد يفرَحون بقتل الأبرياء وسفكِ دمائِهم، ويظنُّون كلَّ الظنِّ أنهم أفلَتُوا من عقابِ الله، فتفجؤُهم سُنَّةُ الله من حيث لم يحتسِبُوا.
أيها المُسلمون:
إن هذه السنَّة الربَّانيَّة تُربِّي المُسلمَ على التسليم المُطلَق لله الذي بهرَت حكمتُه العقولَ، وهي تُؤكِّدُ على أن بنِي آدم كلَّهم لا يُحيطُون به - سبحانه - علمًا، ولا يُدرِكون أسرارَ قضائِه وقدَره وتدبيرِه العجيبِ لأحداثِ الكون.
فقد يعترِضُ بعضُ بني آدم ويسخَطون، وقد يشُكُّون حينما يرَون بعضَ أقدار الله وكيف يرفعُ الله أقوامًا ويضعُ آخرين، ويفتحُ أبوابًا ويُغلِقُ أخرى، ويُعطِي ويمنَع، ويبتلِي ويُعافِي، ويُغنِي ويُفقِر، ويُكرِمُ ويُهين، ويُعزُّ ويُذلُّ، وأنَّى لابنِ آدم أن يُدرِك حكمةَ الله وعلمَه؟!
فيا ابنَ آدم! إنك إن أسلمتَ قلبَك لله، وسلَّمتَ لأمر، ورضيتَ بما قسمَ الله لك، واشتغلتَ بما فرضَ الله عليك، وتركتَ ما لا يعنِيك؛ أرحتَ قلبَك وسعِدتَّ في حياتِك، وكنتَ عند ربِّك محمُودًا. وإن لم ترضَ بما قسمَ الله لك، وضيَّعتَ ما فرضَ الله عليك، واشتغلتَ بما لا يعنِيك؛ أحاطَت بك الهُمومُ والغُمومُ، وأعرضَ الله عنك، ثم لا يكونُ لك من الدنيا إلا ما قسمَه الله لك، وكنت عند ربِّك مذمُومًا، فالجزاءُ من جنسِ العمل، (وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) [الكهف: 49].
إن بينَك وبين الله خطايا وذنوبًا، وبينَك وبين الناسِ هفَواتٍ وهَنَاتٍ، فإن أحببتَ أن يغفرَ الله لك ويتجاوَز عنك، فأقبِل على الله وتُب إليه، وتجاوَز عن عبادِه وسامِحهم، فالجزاءُ من جنسِ العمل، (وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا).
يا ابنَ آدم! إنك مهما ظلمتَ واستكبرتَ وعلَوتَ، واعتديتَ وآذيتَ، فلن تُفلِتَ من العدالة الإلهيَّة، وإن ربَّك لبالمرصاد، إذا أخذَ الظالمَ لم يُفلِتْه، فالجزاءُ من جنسِ العمل، (وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا).
يا ابنَ آدم! إن أنت بررتَ والدَيك، ووصلتَ رحِمَك، ورحمتَ أهلَكَ وعيالَك، وأحسنتَ للناس كافَّة؛ وجدتَّ حلاوةَ ذلك وثوابَه، ورأيتَ بعينيك جزاءَ صنيعِك وإحسانِك، وإن أبيتَ إلا العقوقَ والبغيَ والقطيعَة، وأذَى الناس بالحسَد والحقد والخُصومة، فاعلَم أن الجزاءَ من جنسِ العمل، (وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا).
يا ابنَ آدم! من أطابَ مطعمَه استجابَ الله دعوتَه، ومن عزمَ على ترك الذنوبِ ذاقَ حلاوةَ الإيمان وأتَتْه الفتوحُ، ومن أصلحَ سريرتَه أصلحَ الله علانيتَه، ومن أصلحَ ما بينَه وبين الله، أصلحَ الله ما بينَه وبين الناس، ومن تركَ شيئًا لله عوَّضَه الله خيرًا منه، ولم يجِد حسرةَ فقدِه، فالجزاءُ من جنسِ العمل، (وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا).
يا ابنَ آدم! إنما هي أعمالٌ يُحصِيها الله ويكتبُها، وسوف تقرؤُها في صحيفَة أعمالِك يوم تلقَاه؛ فمن وجدَ خيرًا فليحمَد الله، ومن وجدَ غيرَ ذلك فلا يلُومنَّ إلا نفسَه، فالجزاءُ من جنسِ العمل، (وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا).
ثم صلُّوا وسلِّموا على سيِّد البشرية وهادِيها وسِراجها المُنير، فإن الله - عز وجل - قد أمرَنا بالصلاة والسلام عليه؛ حيث قال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
وثبتَ عنه - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه قال: «من صلَّى عليَّ صلاةً واحدةً صلَّى الله عليه عشرَ صلوات، وحطَّ عنه عشرَ خطيئات، ورفعَ له عشرَ درجات».
فاللهم صلِّ وسلِّم وبارِك وأنعِم على حبيبِنا وسيِّدنا وقُدوتنا ونبيِّنا محمدٍ، وعلى آلهِ وأزواجه وذريَّاته الطيبين الطاهرين، وعلى صحابتِه الكرام الأبرار الأطهار، وخُصَّ منهم: أبا بكرٍ الصدِّيق، وعُمر الفاروق، وعُثمان ذا النُّورَين، وعليًّا أبا الحسنَين، والتابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم انصُر دينَك، وكتابَك، وسُنَّةَ نبيِّك، وعبادَك الصالِحين.
اللهم أصلِح أحوال المُسلمين في كل مكان، اللهم أصلِح أحوال المُسلمين في فلسطين، وفي الشام، وفي العراق، وفي اليمن، وفي كل مكانٍ يا رب العالمين.
اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تُحبُّه وترضاه، اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تُحبُّه وترضاه، اللهم وفِّقه ونائبَيه لما فيه صلاحُ البلاد والعباد، واجعَلهم مفاتيحَ للخير مغاليقَ للشرِّ برحمتِك يا أرحم الراحمين.
اللهم اغفر لنا وارحمنا، اللهم اغفر لنا ولوالدِينا ولجميعِ المُسلمين، اللهم اغفر لنا وارحمنا، وعافِنا واعفُ عنَّا، وارزُقنا واجبُرنا، وارفَعنا ولا تضَعنا، وأكرِمنا ولا تُهِنَّا، وكُن معنا ولا تكُن علينا، وانصُرنا ولا تنصُر علينا، اللهم انصُرنا على من ظلمَنا، اللهم انصُرنا على من عادانا، اللهم انصُرنا على من بغَى علينا، اللهم لا تُشمِت بنا عدوًّا ولا حاسِدًا برحمتِك يا أرحم الراحمين.
وصلَّى الله وسلَّم وبارَك على نبيِّنا محمدٍ، وآله وصحبِه أجمعين.