العلي
كلمة العليّ في اللغة هي صفة مشبهة من العلوّ، والصفة المشبهة تدل...
العربية
المؤلف | زيد بن مسفر البحري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - التوحيد |
إذا سُئلت: ما ثمرة التوحيد؟ قل: هي معرفة الله، إذا عرفت الله حق المعرفة فقد حققت ثمرة التوحيد، يقول شيخ الإسلام -رحمه الله- كما في مجموع الفتاوى: "أصل التفاضل بين الناس وتفاضلهم عند الله إنما هو بمعرفة الله ومحبته، فإذا كان الناس يتفاضلون فيما يعرفونه من المعروفات، فتفاضلهم في معرفة الله وصفاته أعظم".
الخطبة الأولى:
أما بعد: فيا عباد الله، ما أسعد مَن عرف الله! من عرف أن الله هو الرزاق، التواب، العظيم، الكريم، الوهاب، المحيي، المميت، المعطي، المانع؛ الذي له الأسماء الحسنى والصفات العلا، سعد قلبه أيما سعادة.
إذا سُئلت: ما ثمرة التوحيد؟ قل: هي معرفة الله، إذا عرفت الله حق المعرفة فقد حققت ثمرة التوحيد، يقول شيخ الإسلام -رحمه الله- كما في مجموع الفتاوى: "أصل التفاضل بين الناس وتفاضلهم عند الله إنما هو بمعرفة الله ومحبته، فإذا كان الناس يتفاضلون فيما يعرفونه من المعروفات، فتفاضلهم في معرفة الله وصفاته أعظم".
بل قال -رحمه الله-: "إن كان الخلق يتفاضلون فيما يعرفونه في أنفسهم من صفات أبدانهم، من صحتها، من سقمها، فتفاضلهم فيما يتعلق بمعرفة الله أعظم وأعظم، إذ لا موجود إلا والله خالقه".
ثم استطرد قائلا: "وكل ما في المخلوقات من كمال فإنما هو أثر من كماله -سبحانه وتعالى-، وكل ما ثبت لمخلوق من الكمال على وجه لا نقص فيه، فالخالق به أحق، وكل صفة تنزه عنها المخلوق، فالله أحق أن ينزه عنها، وكل ما في المخلوقات من الصفات والأسماء كلها دلائل وشواهد على ما لله من الأسماء الحسنى والصفات العلا" انتهى كلامه -رحمه الله-.
إذاً؛ كيف ننمي في نفوسنا معرفة الله؟ يقول ابن القيم -رحمه الله- كما في كتابه (الفوائد): "نعرف الله من طريقين: الطريق الأول: أن ننظر وأن نتفكر في مفعولات الله -سبحانه وتعالى-"، أي: في مخلوقاته -عز وجل-.
والآيات في ذلك كثيرة، قال -تعالى-: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ) [آل عمران:190]، نحن في هذه الأيام نعيش اختلافا بين الليل والنهار، بدأ الليل يقصر والنهار يطول، أليست عبرة وآية على وجود الله وعظمته وقدرته؟.
اسمع، والآيات في ذلك كثيرة، قال -تعالى-: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [فصلت:53].
(أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ)، يعني في ملك السماوات والأرض، (وَمَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ)، يعني: وفيما خلق الله من شيء، من جميع الأشياء، (وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ)، يتفكرون أن أجلهم ربما يأتيهم عما قريب، فلعل هذا التفكر يوصلهم إلى أن يؤمنوا بالله قبل أن يلقوه غير موحدين، (أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) [الأعراف:185]، ما أحسن الكلام لو كان الكلام فما يتعلق بالله -عز وجل-!.
ونحن نلمس هذا في الأيام الماضية لما هطلت الأمطار، هذه آية وعلامة على وجود الله وقدرته: (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ رِزْقاً)، لكن؛ هل كل واحد يتعظ؟ (وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَن يُنِيبُ) [غافر:13].
آية أخرى تدعونا إلى التفكر في مخلوقات الله: (أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ)، لا يُكلف الإنسان عناءً ولا تعبا إذا نظر إلى أعلى، ولذلك كان رسولنا -صلى الله عليه وسلم- كثيرا ما يرفع طرفه إلى السماء: (أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ * وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ) [ق:6-8].
حتى فِكرنا في أنفسنا، في أطوار حياتنا من الطفولة إلى الشباب إلى الكهولة إلى الشيخوخة، عبرة وعظة وآية وبرهان، يدعوك إلى أن تتعرف على الله، وأن تزداد معرفة بالله -جل وعلا-: (وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ) [الذاريات:21].
حتى ما نملكه من الدواب والبهائم فيه عبرة: (أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) [الغاشية:17]، ومع عظمها يقودها أضعف الناس، قد يقودها طفل! هذه العظمة في هذه البهيمة ألا تدل على قدرة الله وخلقه وعظيم سلطانه -سبحانه وتعالى-؟ والآيات في ذلك كثيرة.
إذاً؛ كيف نعرف الله؟ يقول ابن القيم -رحمه الله-: "الطريق الأول أن تنظر وأن تتفكر في مخلوقات الله، الطريق الثاني أن تتدبر آيات الله"، أن تتأمل وأن تمعن النظر في آيات الله، في هذا القرآن الكريم: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) [محمد:24]، (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءهُمُ الْأَوَّلِينَ) [المؤمنون:68].
ثم استطرد قائلا -رحمه الله-: "فإن المفعول يدل على فاعله... ويستلزم أن يكون هذا الفاعل قديرا، موجودا، له مشيئة، له علم، لاستحالة أن يصدر الفعل من معدوم، أو من موجود لا صفات له".
ثم انظر إلى هذه المخلوقات وما فيها من العجائب والفرائد، قال -رحمه الله-: "وما في مخلوقات الله من المصالح والحكم دال على حكمته، وما في المخلوقات من النفع والإحسان دال على رحمته، وما في المخلوقات من البطش والانتقام دال على غضبه، وما في المخلوقات من الإكرام دال على محبته، وما في المخلوقات من الإهانة والخذلان دال على بغضه ومقته"، إلى آخر ما ذكر -رحمه الله-.
ثم قال -رحمه الله-: "فمفعولاته من أدل الأشياء على صفاته، فهو -سبحانه- أعرف من كل معروف"؛ ولذلك جبلنا على الفطرة: "ما من مولود إلا ويولد على الفطرة"، يقول -رحمه الله-: "فهو أعرف من كل معروف، وأبين من كل دليل، فالأشياء كلها إنما عرفت به -سبحانه وتعالى-، كما أنه عُرف بها على وجه النظر والاستدلال" انتهى كلامه -رحمه الله-.
يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في صحيح البخاري: "إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا"، لم؟ لأن قلبه -صلوات ربي وسلامه عليه- قد امتلأ من معرفة الله، لأن العبد إذا عرف الله خافه -سبحانه وتعالى-.
يقول القرطبي -رحمه الله- فيما ينقله عن ابن عباس -رضي الله عنهما- في تفسير قوله -تعالى-: (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [الأنعام:79]، تلك المناظرة التي جرت بين إبراهيم -عليه السلام- وبين قومه في الله -سبحانه وتعالى-، يقول ابن عباس -رضي الله عنهما- "كذلك قلب المؤمن إذا عرف الله واستدل بقلبه عليه ازداد نورا على نور، فإبراهيم -عليه السلام- لما عرف الله بقلبه واستدل عليه بدلائله، علم أن له ربا وخالقا، فلما عرَّفه الله بنفسه وحصلت تلك المناظرة في نهايتها ماذا قال إبراهيم؟ (قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ) [الأنعام:80]، كلٌّ يريد أن يكون من المهتدين، كيف تكون مهتديا؟ اسمع إلى ما قاله ابن عباس -رضي الله عنهما-، والاهتداء لا يكون إلا بالمعرفة، لا يمكن أن تهتدي إلى طريق -ولله المثل الأعلى- لا يمكن أن تهتدي إلى طريق إلا إذا كنت عالما وعارفا به وإلا ضللت، فكذلك هداية الله لا تحصل إلا بمعرفته.
يقول ابن عباس -رضي الله عنهما-: "أفضل العبادة الفقه في الدين"، لم؟ قال -رضي الله عنهما-: "لأن الله -سبحانه وتعالى- جعل الفقه صفة القلب"، (لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا) [الأعراف:179]، ثم قال -رضي الله عنهما-: "فلما فقهوا علموا، فلما علموا عملوا، فلما عملوا عرفوا، فلما عرفوا اهتدوا"، ثم قال -رضي الله عنهما-: "كلما كان القلب أفقه كلما كانت نفسه أسرع استجابة لله، وأكثر انقيادا لمعالم شرع الله".
يقول عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "رحم الله صهيبا، لو لم يخف الله لم يعصه"، ما معنى هذا الكلام؟ يقول -رضي الله عنه-: لو أن صهيبا أعطي كتابا بالأمان من النار ما ترك عبادة الله، لم؟ قال: "لأنه كان عارفا بالله"؛ ولذا يقول بعض العلماء: "أخوف الناس لربه أعرفهم به"؛ ولذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن أخوفكم وأعلمكم بالله أنا"، هذا دليل على ما قاله -رحمه الله-.
نعم، تريد أن تكون عارفا عالما، عليك بخشية الله، وخشية الله لا طريق لها إلا بمعرفة الله، إذا عرفت عظمة الشيء خشيته، وأثنيت عليه، وعظمته، وتقربت إليه: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء) [فاطر:28]، ليس العلماء الذين يحفظون النصوص الشرعية دون أن يكون هناك تطبيق في واقعهم، كلا! العلماء حقيقة هم مَنْ عظموا الله وعرفوه، هؤلاء هم العلماء.
ولذا يقول بعض العلماء: "إذا كملت معرفتك بالله أورثت لك خوفا واحتراقا للقلب، ولا وصول إلى سعادة لقاء الله في يوم القيامة إلا بمعرفة الله -سبحانه وتعالى-، والأنس به في الدنيا، ولا تحصل تلك المحبة لله إلا بمعرفة الله".
إذاً؛ كيف أصل إلى معرفة الله؟ قال: "بدوام الفكر"، أن تمعن النظر في كل ما تراه من مخلوقات الله -سبحانه وتعالى-، فكيف بعبد أن يحزن أو أن يتعب أو أن يقلق أو أن يهتم وهو يعلم أن له ربا شافيا غنيا رزاقا وهابا رحيما رؤوفا، وقل ما تشاء من أسمائه وصفاته التي ثبتت له بالكتاب والسنة؛ ولذلك، من ازدادت معرفته بالله زادت هيبته، ثم إذا زادت معرفته بالله أوجبت له السكينة، تراه رجلا ساكنا متئدا متزنا.
ولذا يقول بعض العلماء: "المؤمن إذا عرف الله أحبه، وإذا أحبه أقبل على عبادته"، فبينما تراه مصليا تراه ساجدا، تراه ركعا، تراه متصدقا، تراه متعلما، تراه تاليا للقرآن، فهو مع المتعلمين متعلم، وهو مع المتصدقين متصدق، وهو مع المصلين مصلٍّ، وهكذا ينتقل مَنْ عرف الله من عبادة إلى عبادة أخرى.
يقول بعض العلماء: "من عرف الله خرج من هذه الدنيا ولم يشبع من اثنتين"، قيل: ما هما؟ قال: "بكاؤه على نفسه وتقصيره، وثناؤه على ربه"، لماذا يثني على ربه؟ لأنه عرفه، ولذا قال بعض العلماء: "إن من عرف الله لو أعطي مثلما أعطي سليمان من الملك، ما أشغله هذا الملك عن الله طرفة عين".
فمن عرف الله صفا له العيش، وطابت له الحياة، وهابه كل شيء، وذهب عنه كل خوف، وأنس بالله، وقرت عينه بالله، وقرت به كل عين، ومن لم يعرف الله تقطع حسرات في هذه الدنيا.
ومن عرف الله لم تبق له رغبة فيما سواه، من عرف الله أورث الله له رضا وثقة بالله، وإقبالا على الله، وبعدا عن مساخط الله. من عرف الله جمع السعادة في الدارين في الدنيا والآخرة. من عرف الله صار من أطيب الناس عيشا. من عرف الله استنار قلبه.
من عرف الله في هذه الدنيا عرف الله يوم القيامة إذا أتى على صورته التي يُعرف بها، ولا يكون كالمنافقين، كما أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم-. من عرف الله أورث قلبه خوفا وخشية منه -جل وعلا-. من عرف الله ازداد نورا على نور.
من عرف الله: قل ما شئت من الخيرات والفوائد والإيجابيات والنعم.
نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يملأ قلوبنا بمعرفة الله، والأنس به، والتقرب إليه، وتعظيمه، وخشيته، والإقبال عليه، والإنابة إليه -جل وعلا-.
الخطبة الثانية:
أما بعد: فيا عباد الله: من سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- حينما تهب الرياح أن يقول: "اللهم إني أسألك خير هذه الريح، وخير ما فيها، وخير ما أمرت به، وأعوذ بك من شر هذه الريح، وشر ما فيها، وشر ما أمرت به -أو: أرسلت به-".
إذاً؛ "اللهم إني أسألك خير هذه الريح، وخير ما فيها، وخير ما أمرت به، أو أرسلت به، وأعوذ بك من شر هذه الريح، وشر ما فيها، وشر ما أمرت به".
ويقول: "اللهم لقحا لا عقيما"، لأن الرياح إذا كانت لقحا لقحت السحب ولقحت الأشجار فحصل خير كثير، وأما إذا كانت عقيما فإنها تدمر كل شيء: (وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ * مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ) [الذاريات:41-42].
وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يخشى الله لأنه يعرف الله، فإذا هبت الريح لم يستقر له حال، حتى تمطر السماء، فإذا أمطرت السماء استقرت نفسه، لم؟ لأنه كان يخشى إذا هبت الريح أن يكون عذابا أرسل من الله، كما أرسل على عاد تلك الريح العقيم.