العزيز
كلمة (عزيز) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعيل) وهو من العزّة،...
العربية
المؤلف | صالح بن فوزان الفوزان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | أركان الإيمان - التوحيد |
هذه الكلمة يعلنها المسلمون في الأذان والإقامة والخطب، وهي كلمة قامت بها الأرض والسماوات، وخلقت من أجلها جميع المخلوقات، وبها انزل الله كتبه، وأرسل رسله، وشرع شرائعه، ولأجلها نصبت الموازين، ووضعت الدواوين، وقام سوق الجنة والنار، وانقسمت الخليقة من أجلها إلى مؤمنين وكفار، وعنها وعن حقوقها يكون السؤال والجواب، وعليها يقع الثواب والعقاب، وعليها نصبت القبلة، وأسست الملة، ولأجلها ...
الخطبة الأولى:
الحمدُ لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيها الناس: اتّقوا الله كما أمركم أن تتقوه، وأطيعوا أمره ولا تعصوه، واذكروه يذكركم، واشكروه ولا تكفروه.
عباد الله: لقد أمرنا الله بذكره في عموم الأوقات، فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا)[الأحزاب: 41 - 42].
وخص بعض الأوقات، كأدبار الصلوات، وبعد الانتهاء من أداء العبادات، فأمر بذكره فيها لمزيتها على غيرها، قال تعالى: (فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُواْ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ) [النساء: 103].
وقال تعالى: (فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا) [البقرة: 200].
ذكر الله -تعالى- يتناول جميع الطاعات القولية والفعلية، وكل الطاعات ذكر الله -عز وجل-، كما يتناول ذكره باللسان والقلب، فالمؤمن دائمًا يذكر الله، ولاسيما الذكر القولي بالتهليل والتسبيح والتحميد والتكبير؛ لأن هذا النوع متيسر للإنسان في كل أحواله، سواء كان راكبًا أو ماشيًا، أو وهو قائم أو قاعد أو مضطجع، ولأن اللسان لا يتعب من تحركه بالذكر.
بخلاف بقية الأعضاء، فإنها تتعب من كثرة الحركة.
وأفضل الذكر: "لا إله إلا الله" فينبغي الإكثار منها، قال عليه الصلاة والسلام: "خيرُ ما قلتُ أنا والنبيّون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير".
ولما كانت هذه الكلمة العظيمة بهذه المنزلة العالية، من بين أنواع الذكر، وتعلق بها أحكام. وصار لها شروط، ولها معنىً ومقتضىً، فليست كلمة تقال باللسان فقط.
وهذه الكلمة يعلنها المسلمون في الأذان والإقامة والخطب، وهي كلمة قامت بها الأرض والسماوات، وخلقت من أجلها جميع المخلوقات، وبها انزل الله كتبه، وأرسل رسله، وشرع شرائعه، ولأجلها نصبت الموازين، ووضعت الدواوين، وقام سوق الجنة والنار، وانقسمت الخليقة من أجلها إلى مؤمنين وكفار، وعنها وعن حقوقها يكون السؤال والجواب، وعليها يقع الثواب والعقاب، وعليها نصبت القبلة، وأسست الملة، ولأجلها جردت سيوف الجهاد، وهي حقُّ الله على جميع العباد.
فهي كلمة الإسلام، ومفتاح دار السلام، وهي كلمة التقوى، والعروة الوثقى، وهي كلمة الإخلاص، وبها تكون النجاة من الكفر والنار والخلاص، من قالها عصم دمه وماله في الدنيا، وإذا كان موقنـًا بها من قلبه نجا من النار في الآخرة ودخل الجنة، كما قال عليه الصلاة والسلام: "فإن الله حرم على النار من قال "لا إله إلا الله" يبتغي بذلك وجه الله".
وهي كلمة وجيزة اللفظ، قليلة الحروف، خفيفة على اللسان، ثقيلة في الميزان، فقد روى ابن حبان والحاكم وصححه عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "قال موسى -عليه السلام-: يا رب علمني شيئـًا أذكرك وأدعوك به؟ قال: يا موسى قل: لا إله إلا الله، قال: يا رب كل عبادك يقولون هذه؟ قال: يا موسى، لو أن السموات السبع وعامرهن غيري، والأرضيين السبع في كِفَّة، ولا إله إلا الله في كفة، مالت بهن لا إله إلا الله".
وهذه الكلمة العظيمة لها ركنان:
الركن الأول: النفي، وهو نفي الألوهية عما سوى الله من سائر المخلوقات.
والركن الثاني: الإثبات، وهو إثبات الإلهية لله –سبحانه-، وبهذا يتضح معناها، وأنه البراءة من الشرك والمشركين، وإخلاص العبادة لله وحده.
وهذا معنى قول الخليل -عليه السلام- لأبيه وقومه: (إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ) [الزخرف: 26 - 27].
وهو معنى قوله تعالى: (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا) [البقرة: 256].
فالمسلم عندما يقول هذه الكلمة يعلن البراءة من الشرك والمشركين، ويلتزم بعبادة الله وحده، مخلصًا له الدين، فإنه وفّى بهذا الالتزام؛ فقد حقق دين الإسلام، وفاز بدار السلام، وإلا فمجرد النطق بها من غير عمل بمدلولها ومقتضاها لا يفيد الإنسان شيئـًا، فإن المنافقين كانوا يقولونها بألسنتهم ولا يعتقدونها بقلوبهم، فصاروا في الدرك الأسفل من النار.
وكذلك من يقولها اليوم بلسانه، وهو يدعو الموتى، ويطوف بالأضرحة، تقرّباً إلى الأموات، ويطلب المدد من الأولياء والصالحين، وينذر لقبورهم ويذبح لها، فهذا لا تنفعه "لا إله إلا الله"؛ لأنه لم يعمل بمقتضاها، وهو البراءة من الشرك والمشركين، وإخلاص العبادة لله رب العالمين؛ لأن معنى "لا إله إلا الله" ترك عبادة القبور، وترك التقرب إلى الأموات، كما تترك عبادة الأوثان من اللات والعزى ومناة، لا فرق بين عبادة الأصنام وعبادة القبور، وهذا هو معنى "لا إله إلا الله".
ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لكفار قريش، قولوا: "لا إله إلا الله" قالوا: (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ) [ص: 5].
فالمشركون فهموا أن معنى: "لا إله إلا الله" ترك الشرك وإخلاص العبادة لله وحده.
وهؤلاء القبوريون اليوم لا يفهمون هذا، ولهذا يجمعون بين الشرك والنطق ب"لا إله إلا الله" ربما يفسرون "لا إله إلا الله" بأن معناها، الإقرار بأن الله هو الخالق الرازق، ويقولون: إن من أقر بأن الله هو الخالق الرازق فقد حقق التوحيد، وشهد أن لا إله إلا الله.
ولا مانع بعد ذلك عندهم أن يذبح للأموات، ويتقرب إليهم بأنواع العبادات.
وكأن هؤلاء لم يعلموا أن المشركين الذين طلب منهم النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يقولوا: لا إله إلا الله كانوا مقرّين بأن الله هو الخالق الرازق، كما قال الله عنهم: (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) [الزخرف: 9].
وقال: (قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ) [يونس: 31].
وإن هذا الفهم الخاطئ لمعنى "لا إله إلا الله" لو كان صادرًا من عوام لهان الأمر؛ لأن العوام يمكن تعليمهم، ويمكن قبولهم للحق أكثر من غيرهم.
ولكن المصيبة أن يكون هذا الفهم الخاطئ لمعنى "لا إله إلا الله" صادرًا من قوم يدعون العلم، ويتصدرون للفتوى والتدريس، فهؤلاء يصعب تفهيمهم وإقناعهم؛ لأن جهلهم مركب، والجاهل المركب هو الذي لا يدري، ولا يدري أنه لا يدري، وهو أبعد عن قبول الحق من الجاهل البسيط الذي يعترف بجهله.
أولئك هم علماء الضلال الذين أهلكوا أنفسهم وأهلكوا غيرهم من الجهلة الذين أحسنوا بهم الظن، وقلدوهم في الضلال.
أولئك هم الذين حذرنا منهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "وإنما أخشى على أمتي الأئمة المضلين".
إن هؤلاء وإن كانوا علماء في فقه فروع الدين، فإنهم يجهلون الأصل، ويفقدون الفقه الأكبر الذي هو معرفة التوحيد الذي جاءت به الرسل، ولذلك يعادونه ويعادون أهله، ويؤلّفون المؤلفات في الصد عنه، وعن معنى "لا إله إلا الله" ومقتضاها: (لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ) [النحل: 25].
عباد الله: وإن من مقتضى "لا إله إلا الله" وحقها على من نطق بها: إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام من استطاع إليه سبيلاً، والعمل بطاعة الله وترك معاصيه.
وقد وجد في الناس اليوم خلق كثير يقولون هذه الكلمة، ولكنهم لا يقيمون الصلاة، أو لا يؤتون الزكاة، وقد دل الكتاب والسنة على أن من لا يصلي فليس بمسلم، وإن قال: "لا إله إلا الله"، قال تعالى: (فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ) [التوبة: 5].
وقال في الآية الأخرى: (فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ) [التوبة: 11].
فدلّت الآيتان الكريمتان على أن الذي لا يقيم الصلاة لا يخلى سبيله، بل يُقتل، وعلى أنه ليس من إخواننا في الدين؛ لأنه كافر.
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة"[رواه مسلم].
قد منع جماعة بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- الزكاة، وهم يقولون: "لا اله إلا الله" فقاتلهم أبو بكر الصديق والصحابة -رضي الله عنهم-، ولم يمنعهم من قتالهم نطقهم بهذه الكلمة؛ لأنهم اعتبروا الزكاة من حقّ "لا إله إلا الله"؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها".
وقد قيل للحسن -رحمه الله-: إن ناسًا يقولون: من قال "لا إله إلا الله" دخل الجنة، فقال: من قال: "لا إله إلا الله" فأدّى حقّها وفرضها، دخل الجنـة".
وقال وهب بن منبه لمن سأله: أليس "لا إله إلا الله" مفتاح الجنة؟ قال: بلى، ولكن ما من مفتاح إلا له أسنان، فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك، وإلا لم يُفتح لك".
فاتقوا الله -عباد الله- وكونوا من أهل "لا إله إلا الله" حقـًا.
جعلنا الله وإياكم من أهلها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ) [محمد: 19].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
عباد الله: ومن معنى "لا إله إلا الله" ومقتضاها: التحاكم إلى شريعته، وتحريم ما حرّمه، وتحليل ما أحله، وأن لا يطاع مخلوق بمعصيته.
فيجب على من قال: "لا إله إلا الله" الحكم بشرع الله، والكفر بأحكام الطواغيت واجتنابها؛ لأن التشريع حق لله وحده، فمن وضع قوانين يحكم بها بين الناس بدل شريعة الله، فقد جعل نفسه شريكـًا لله، ومن أطاعه في ذلك مختارًا فقد أشرك بالله، قال تعالى: (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ) [الشورى: 21].
وقال تعالى: (وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) [الأنعام: 121].
وقال تعالى: (اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) [التوبة: 31].
ولما سمع عدي بن حاتم -رضي الله عنه- هذه الآية قال: "يا رسول الله، إنا لسنا نعبدهم؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "أليسوا يحلون ما حرّم الله فتحلونه، ويحرمون ما أحل الله فتحرمونه؟" قال: بلى، قال: "فتلك عبادتهم".
وهذا يتمثل اليوم في الولاة الذين يحكمون بالقوانين المتعصبين الذين يقلدون أئمتهم، ولو أخطأوا في الاجتهاد، وخالفوا الدليل.
ويتمثل في المتصوفة الذين يطيعون مشايخ الطرق في فعل الأمور الشركية والبدعية.
كلّ ذلك داخل في عبادة الأحبار والرهبان من دون الله.
وهذا مما يوجب على المسلم الذي يريد النجاة لنفسه، أن يتعلّم معنى: "لا إله إلا الله" ويفهم مقتضاها، ويعمل بذلك حتى يكون من أهلها، قال تعالى: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ) [محمد: 19].
فأمر سبحانه بالعلم قبل القول والعمل؛ لأن العمل الذي لا يؤسس على علم صحيح يكون ضلالاً، وقال تعالى: (وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [الزخرف: 86].
أي: شهد بالتوحيد بأن قال: "لا اله إلا الله" (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) بقلوبهم ويفهمون ما شهدت به ألسنتهم.
فاتقوا الله -عباد الله- وتفقهوا في معنى: "لا إله إلا الله" لتعملوا بمقتضاها، وتمسكوا بكتاب الله وسنة رسوله، والزموا جماعة المسلمين.
فإن خير الحديث كتاب الله | إلخ |