الطيب
كلمة الطيب في اللغة صيغة مبالغة من الطيب الذي هو عكس الخبث، واسم...
العربية
المؤلف | خالد بن عبد الله المصلح |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | القرآن الكريم وعلومه - المنجيات |
إن الحياة الطيبة إذا أدركها الإنسان في الدنيا امتدت إلى قبره، وصاحبته في عرضه ونشوره، وكان مقره في الخاتمة ونهاية السير إلى جنة عرضها السماوات والأرض. الحياة الطيبة ليست طيب مأكل ولا حسن ملبس ولا هنيء مسكن، كل تلك صور قد يدرك بها الإنسان شيئًا من نعيم الدنيا، لكن ذلك كله يتلاشى أمام ما في القلب من حب الله وتعظيمه، أمام ما في القلب من السكن بطاعة الله والطمأنينة بذكره. فالحياة الطيبة لا تتعلق برسوم ولا بأشكال ولا بصور ولا مظاهر، الحياة الطيبة نفس راضية بالله، قلب مطمئن بذكره، روح محبة له معظمة لله -عز وجل- مقبلة عليه تتذوق طعم الإيمان به،..
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، اتقوا الله -تعالى- حق التقوى، فنجاتكم في تقوى ربكم ومولاكم، نجاتكم في لزوم ما أمركم الله -تعالى- به وترك ما نهاكم عنه.
نجاتكم في قربكم منه -جل في علاه-، نجاتكم في محبته وتعظيمه، نجاتكم في أن يكون العبد على خشية من الله -عز وجل- في السر والعلن، فإذا تخلف ذلك في شيء من حاله ففاته التقوى في قول أو عمل أو حال أو ظاهر أو باطن، فلا بد أن يدخل عليه من النقص بقدر ما يكون معه من نقص التقوى.
اللهم اجعلنا من حزبك المفلحين وأوليائك المتقين.
كل الناس على اختلاف أديانهم، وعلى اختلاف بلدانهم، وعلى اختلاف أزمانهم جميعهم ينشدون حياة طيبة يسعون لإدراك حياة سعيدة هنيئة؛ تختلف طرقهم وتتنوع سبلهم في إدراك ذلك، لكنهم يتفقون على هذه الغاية، وذلك الهدف وإن تباينت بهم الطرق واختلفت بهم السبل، إلا أن الموفق في إدراك الحياة الطيبة ذاك الذي أخذها من كتاب ربه، ذاك الذي اتبع فيها وصية الله -عز وجل- في السر والعلن يقول الله -جل في علاه- (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ) [النساء: 131].
فالتقوى بها تدرك الحياة السعيدة، بها تدرك الحياة طيبة، بها تدرك خيرات الدنيا وينجو العبد من مهالكها ومضايقها، ويفوز في الآخرة، وينجو من أهوالها وعذابها لا يعني ذلك ألا يدركه شيء مم يكره؛ فالدنيا مجبولة على الكَدَر، قال الله -تعالى-: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ) [البلد:4]، وقال جل وعلا: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) [البقرة:155].
فالدنيا لا تخلو من مكروه للبر والفاجر، والمؤمن والكافر، والتقي والعاصي، جميعهم تجري عليهم الأقدار مما لا يحبون ولا يسرون به، لكنهم يردون موردًا واحدًا في نزول تلك الأقدار عليهم، ويتفاوتون تفاوتًا كبيرًا في الصدور عنه، فمنهم من يخرج من البلاء والأزمة والضغط والمكروه سعيدًا مأجورًا صابرًا محتسبًا.
ومنهم من يخرج وقد آلمه ما نزل به، وتحمل على تلك المصيبة مصائب من أوزار الجزع وعدم الرضا والصبر على أقدار الله -عز وجل-.
أيها المؤمنون: الحياة الطيبة عنوانها تقوى الله -جل وعلا- طريقة تحصليها بينه ربنا -جل في علاه-: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) [النحل: 97].
لا يقتصر ذاك على سنوات يقضيها الإنسان في هذه الدنيا بل يمتد (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) [النحل: 97].
إن الحياة الطيبة إذا أدركها الإنسان في الدنيا امتدت إلى قبره، وصاحبته في عرضه ونشوره، وكان مقره في الخاتمة ونهاية السير إلى جنة عرضها السماوات والأرض.
الحياة الطيبة ليست طيب مأكل ولا حسن ملبس ولا هنيء مسكن، كل تلك صور قد يدرك بها الإنسان شيئًا من نعيم الدنيا، لكن ذلك كله يتلاشى أمام ما في القلب من حب الله وتعظيمه، أمام ما في القلب من السكن بطاعة الله والطمأنينة بذكره.
كل تلك النعم تنفد وتزول، ولذلك قال ربكم في محكم كتابه قبل أن يذكر كيف تحصل الحياة الطيبة؛ اقرأ قوله قبل ذلك يقول -جل في علاه-: (مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ) [النحل: 96]، كل النعم والمتع والملذات الحسية والمادية والمعنوية والنفسية جميعها تتلاشى وتنقضي، ولا يبقى إلا نعيم واحد؛ إنه نعيم عباد الله، إنه حلاوة الإيمان، إنه طعم الإيمان الذي من وجده وجد السعادة بأكملها، ومن فقده لم يغنه شيء من متع الدنيا عنها.
حقيقة لا بد أن ندركها (مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ) كل أموالكم، كل متاعكم كل ملذاتكم في دنياكم قبل أن تذهب إما أن تذهب عنك أو تذهب أنت، أرأيت ذاك الذي عنده من المال والجاه والسكن والولد والنساء و.. من متع الدنيا ما عنده ينتهي حال إلا واحد من الرجلين إما أن يموت فيرحل عنها، وإما أن ترحل عنه بعدم قدرته على الاستمتاع بها؛ فإن القوة تضعف، والقدرات تزول، ولا يبقى مع الإنسان إلا ما كان قد أعده ليوم العرض والنشور من صالح العمل (وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى) [البقرة: 197]، (مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ) [النحل: 96].
فالحياة الطيبة لا تتعلق برسوم ولا بأشكال ولا بصور ولا مظاهر، الحياة الطيبة نفس راضية بالله، قلب مطمئن بذكره، روح محبة له معظمة لله -عز وجل- مقبلة عليه تتذوق طعم الإيمان به، "ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيًّا".
اللهم أذقنا لذة مناجاتك، واملأ قلوبنا بحلاوة الإيمان يا ذا الجلال والإكرام، واسلك بنا سبيل أهل الرشد والطاعة بلغنا الحياة الطيبة التي ترضى بها عنا.
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمد الشاكرين؛ أحمده حق حمده، له الحمد كله أوله وآخره ظاهره وباطنه، وأشهد أن لا إله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله، صلى الله وعلى آله وصحبه ومن اتبع سنته واقتفى أثره بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله: اتقوا الله في السر والعلن في معاملتكم للخلق القريب والبعيد في أداء الحقوق، في القيام بحق الله -جل في علاه- في كل شأن دقيق أو جليل، فالتقوى لا تتخلف عن قلوب المتقين لا في سر ولا في إعلان لا في حق الله ولا في حق الخلق بل هي حاضرة في كل ذلك كله.
اللهم اجعلنا من عبادك المتقين وحزبك المفلحين، يا رب العالمين.
أيها المؤمنون: ما عندكم ينفد وما عند الله باق.. والذي عنده هو ما أعده لعباده المتقين وأوليائه الصالحين، فاستكثروا من الأعمال الصالحة، فإن الحياة الطيبة شرطها صلاح باطن واستقامة ظاهر، يقول الله -جل وعلا-: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ) فلابد من الإيمان وهو طيب القلب وصلاحه (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) [النحل:97].
كيف نعرف الإيمان وكيف ندرك العمل الصالح؟
إنه من آيات الكتاب الحكيم ولذلك جاء قوله -جل وعلا-: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) [النحل:98]، بعد ذكر الحياة الطيبة.
إن أعظم ما يحول بينك وبين الحياة الطيبة هو كيد الشيطان؛ ذاك العدو الذي يقف لك في كل طريق يصدك عن كل بر، ويدعوك إلى كل شر، ينشطك إلى كل رذيلة، ويقعد بك عن كل فضيلة، يأمرك بالمنكر وينهاك عن المعروف.
فاحذره، والحذر منه يكون باللجأ إلى الله بالاعتصام بالله والاحتماء به، قال -جل وعلا- (فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ) أي: احتمِ به واعتصم به، والتجأ إليه من هذا العدو الذي لا ينفك ليل ونهار حتى وأنت نائم يعقد على رأسك ثلاث عقد، ويحول بينك وبين الطاعة والإحسان يبيت على خيشومك كما جاء في الحدث النبوي الشريف.
فهو يتسلط عليك في كل أحوالك، كن معتصمًا بالله ملتجأ إليه متحصنًا بذكره، ليس فقط بلسانك، بل بقلبك ولسانك وجوارحك عندها تأمن كيد الشيطان.
اللهم اسلك بنا سبيل الرشاد، وأعنا على الطاعة والإحسان، واصرف عنا المعصية يا ذا الجلال والإكرام.