البحث

عبارات مقترحة:

الغفور

كلمة (غفور) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعول) نحو: شَكور، رؤوف،...

الرقيب

كلمة (الرقيب) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل) بمعنى (فاعل) أي:...

الحكيم

اسمُ (الحكيم) اسمٌ جليل من أسماء الله الحسنى، وكلمةُ (الحكيم) في...

سقطت بغداد .. لكن

العربية

المؤلف أحمد بن عبد العزيز الشاوي
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات التاريخ وتقويم البلدان
عناصر الخطبة
  1. دمعة على بغداد .
  2. دور المنافقين والعلمانيين والرافضة في سقوطها .
  3. مفهوم النصر .
  4. زادُ طريقِ النصرِ المرتقب .
  5. منحة بشائر النصر في طي محنة الهزيمة .
  6. الإعداد والاستعداد للنصر القادم .

اقتباس

سقطت بغداد كما يقولون، واحتلها الصليبيون، لينشروا فيها الرعب والفساد، ويتقاتل الناس، وتنهب البيوت وهم يتفرجون، فآهٍ ثمّ آهٍ على ما أصاب الأمة من الذلّ! وآهٍ على ما يلاقيه أهل العراق من الحقد والغل!.

الخطبة الأولى:

الحمد لله الذي حرّم الظلم على نفسه، ولن يترك الظالم هملا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جعل لكلّ أمة أجلا، وأشهد أنّ محمدا عبده ورسوله، أصدق الناس قولا، وأحسنهم عملا، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا.

أما بعد: فيا أمة محمد، من اتقى الله نجا، وجعل الله له من كلّ هم فرجا، فاتقوا الله حقّ التقوى.

التأريخ يعيد نفسه، والمغول يظهرون بثوب جديد، وتحت غطاء النفاق يستحلون العراق، وتسقط بغداد كما يزعمون.

الأخبار تتسارع، والغموض يلف الموقف، والأيام حبلى بالمفاجآت، والإعلام الكاذب ينقل صورا للإرجاف والتخذيل، وإنّما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه.

سقطت بغداد كما يقولون، واحتلها الصليبيون، لينشروا فيها الرعب والفساد، ويتقاتل الناس، وتنهب البيوت وهم يتفرجون، فآهٍ ثمّ آهٍ على ما أصاب الأمة من الذلّ! وآهٍ على ما يلاقيه أهل العراق من الحقد والغل!.

ما حالكم يا أهلنا في العراق وأنتم بين مطرقة الصليب وسندان المنافقين؟ ما حال نسائكم اللاتي تداس كرامتهنّ، ويخفر حياؤهنّ على يد عباد الصليب؟ ما حال أطفالكم البائسين الذين ذاقوا مرارة الحصار سنين عددا، وختم العدوّ حياتهم بشظاياه فأهلكهم بددا؟.

أمّاه هل تعلم الدنيا بمحــــنتنا

أما لنا في بني الإسلام من مَدَدِ؟

من ذا الغريب الذي يفري حشاشتنا

ملطخ الوجه لا يلوي على أحد

من ذا الذي فجّر الدنيا بــطائرةٍ

غدّارة المعـتدى نفـاثة العـقد

لم التشدق عن حريـتي ودمــي

مستنزف ورصاص الغدر في جسدي

لم التحدث عـن نفطي وقد سرقوا

زادي وقرص الدوا في المجلس النكد

لم التجارة في أرضي وفي شرفي

أماه ما الطعن في ديني ومعتقدي

لم الرهان على حكمي وناصيتي

مثل الفريسة في كماشة الأسد

لا بد للكـرب يا أمـاه مـن فرج

والليل إن طال لن يبقى إلى الأبد

ستنبت الأرض أجيالا مبـاركة

تصارع البغي بالإيمان والجلد

والعيش أمـاه أيـام مــداولة

والخلق مابين مفقود ومفتقد

في ذمة الله أشـلاء لنا هـتكت

والله أرحم من أمّ على ولد

دخل المغول الجدد بغداد، فأظهروا كيدهم، ونفثوا حقدهم، وهكذا الصليبيون إذا دخلوا قرية أفسدوها، وجعلوا أعزة أهلها أذلة، واسأل التأريخ عن ماضيهم!.

معذرة بغداد! فاليوم نقفورٌ ولا هارون يعلّمه قدره! في زمن العزة والآباء كتب هارون الرشيد إلى نقفور ملك الروم: "من هارون الرشيد أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم: بلغني كتابك يا ابن الفاعلة، والجواب ما تراه لا ما تسمعه"؛ فكانت النتيجة عزة ونصرا.

واليوم ينطق حفيد كلب الروم بلسان الحال قائلا: يا هارون، لقد عزمنا ومنذ مئات السنين أن نردّ الدَّين الذي علينا لك، ولقد فعلناه واستحللنا عاصمة الخلافة الإسلامية، ودخلناها رغم أنوف العالمين، لم نكن لنفعله يا هارون لو كان أبناء الإسلام فيهم ذرة من عزة أو كرامة أو غيرة على محارمهم، أو حمية على إخوانهم، ولكن فعلناها بعد أن قضينا السنين والسنين ونحن نحاول تحطيمهم ثقافيا وأخلاقيا، فليتك يا هارون رأيت أبناء الإسلام في الشوارع يرفعون العلم الأمريكي!.

يا هارون، لقد فرضنا الذلّ على أحفادك، وأسقيناهم الذلّ والانهزامية، لدرجة أننا نقصفهم بالقنابل فنقتل رجالهم ونساءهم وأطفالهم، وجيرانٌ لهم يتغنون ويرقصون، وعلى الرياضة يتفرجون!.

يا هارون، نعلم أنّك الآن وأنت في قبرك تتقلب هما وغما وحزنا على عاصمة الخلافة الإسلامية، التي رجع أحفاد كلب الروم للولوغ فيها وتدنيسها.

يا هارون، لقد رددنا الدَّين دينين لك ولأحفادك، ففوق أننا نذلهم ونحتلّ أرضهم، ليتك تراهم وهم يخرجون إلى الشوارع مرحبين بنا، لقد جعلونا أمام الإعلام العالميّ محررين لا محتلين!.

يا هارون، (لا عزة إلاّ بالإسلام)، مقولة لو طبقها أحفادك لما تجرأنا نحن أحفاد كلب الروم على أن نعتدي على شبر واحد من أراضيهم، ولكن يا هارون، قد تركتم خلفكم نعاجا في ثياب رجال، أمّا الرجال بحق فيطاردون. (التوقيع: بوش حفيد كلب الروم)!.

أيّها المسلمون: سقطت بغداد كما يقولون، وتهاوت عروش البعث، وما من ظالم إلا سيبلى بأظلم، وعادت العراق الأبية للفوضى ضحية، ومع السقوط تجلت دروسٌ ومواقف.

أظهرت الأحداث حاجة الأمة إلى القيادة، ولو كانت جائرة فاجرة كافرة، فها هو العراق، ومن قبله أفغانستان والصومال، عندما أخليت من قياداتها تزعزع الأمن وفسدت البلاد، وفزع العباد، وساد السلب والنهب، ولعلك تدرك أثر فقد القيادة في الأمة من خلال ما حدث بعد وفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الاختلاف، لولا لطف الله ورحمته.

وإنّ ما حدث ليجلّي أثر النفاق وخطورة المنافقين في الأمة، أولئك الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، فما انتصر عدوٌ إلاّ وأمامه منافقٌ يفسح له الطريق، ويهيئ له السبيل.

إنّ سقوط العراق ليس لضعف في جيوشه، ولا لنقص في عدته، ولكنّه نتيجة لتمالؤ النفاق مع المعتدين.

إنّ المنافقين في كلّ أمّة أصحاب مصالح، يسيرون في مواقفهم حسب رياح المصالح، (وَإِنَّ مِنكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُن مَّعَهُمْ شَهِيداً * وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِّنَ الله لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُن بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا) [النساء:72-73].

إنّهم المنافقون الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين، إنّهم المنافقون، ومن سماتهم المسرة بانخفاض دين الرسول -صلى الله عليه وسلم- والكراهية لانتصار أتباعه، (إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ) [التوبة:50].

وإذا كان العلمانيون والقوميّون وأرباب الشهوات من جملة المنافقين، فلا ننسى صنفا آخر، عرفوا على مدار التأريخ بالكيد للسّنة وأهلها، ومعاونة الأعداء عليهم، والحزن لظهور السنة وعلوها، إنّهم الرافضة، والذين يصورهم شيخ الإسلام بقوله: فالرافضة يوالون من حارب السنة والجماعة، ويوالون التتار، ويوالون النصارى، وقد كان بالساحل بين الرافضة وبين الفرنج مهادنة حتى صارت الرافضة تحمل إلى قبرص خيل المسلمين وسلاحهم، وغلمان السلطان وغيرهم من الجند والصبيان، وإذا انتصر المسلمون على التتار أقاموا المآتم والحزن، وإذا انتصر التتار على المسلمين، أقاموا الفرح والسرور، وهم الذين أشاروا على التتار بقتل الخليفة وقتل أهل بغداد، ووزير بغداد ابن العلقمي الرافضي، هو الذي خامر على المسلمين، وكاتب التتار حتى أدخلهم أرض العراق بالمكر والخديعة، ونهى الناس عن قتالهم، وقد عرف العارفون بالإسلام أنّ الرافضة تميل مع أعداء الدين. اهـ.

وفي زمننا هذا تثبت الأحداث صدق ذلك، واسألوا عمّا فعلوه في أفغانستان، وما يفعلونه اليوم في العراق، حيث ذكر أحد المراسلين أنّه لا يصدق ما يراه من جموع الشيعة من فرح ورقص هستيري، وترحيب بالقوات الأمريكية، وصرّح أنّ الحال مختلفٌ تماما بالنسبة للأحياء السنيّة، التي بدا الحزن فيها عميقا على الوجوه.

وأكدت الأخبار أنّ الانهيار العجيب الذي حدث في بغداد بعد أسابيع من الصمود العجيب، الذي أذهل الأعداء والأصدقاء معا، لم يكن ذلك الانهيار من فراغ، وإنّما لأسباب من أبرزها غدر الرافضة، حيث كانوا يضربون الصفوف الخلفية للمقاتلين، مع الدور الاستخباراتي الخطير، في توجيه العدوّ إلى الأماكن الحيويّة المؤثرة لاستهدافها بالقصف الشديد.

أما العلمانيون والقوميون فيكفي موقف الأحزاب الكردية العلمانية، التي أصبحت ظهيرا للمعتدين، فهل يعي المسلمون خطورة النفاق وأثر المنافقين، ويأخذون حذرهم؟ (وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) [الأنعام:55].

أيّها المسلمون: وأظهرت الأحداث ضعف اليقين عند بعض المسلمين، فها هو اليأس يدبّ إلى قلوبهم، والقنوط يسيطر على مشاعرهم، وقائلهم يقول: إلى متى القنوت ولم نجد له أثرا؟.

وأمام هذه المشاعر اليائسة والنفوس المحبطة نتساءل: هل ما حدث هو نصرٌ للأعداء وهزيمةٌ للمسلمين؟ وبمعنى آخر: هل جاء الباطل وأصبح الحقّ زهوقا؟ كلاّ وربّي! إنّ هذا شعورٌ من نظرته للنصر قاصرة، ومن رؤيته للسنن الإلهية رؤية عابرة.

لقد حكم ربنا ووعد، ووعده قاطعٌ جازم، (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) [غافر:51].

بينما يشاهد الناس أنّ الرسل منهم من يقتل، ومنهم من يهاجر من أرضه وقومه مكذبا مطرودا، وأنّ المؤمنين فيهم من يسام العذاب، وفيهم من يلقى في الأخدود، ومنهم من يستشهد، وفيهم من يعيش في كرب وشدة واضطهاد، فأين وعد الله لهم بالنصر في الحياة الدنيا؟ ويدخل الشيطان إلى النفوس من هذا المدخل، ويفعل بها الأفاعيل، ولكنّ الناس يقيسون بظواهر الأمور، ويغفلون عن قيم كثيرة وحقائق عظيمة في التقدير.

إنّ الناس يقصرون معنى النصر على صور معينة معهودة لهم، قريبة الرؤية لأعينهم، ولكن صور النصر شتّى، وقد يتلبس بعضها بصور الهزيمة عن النظرة القصيرة.

إبراهيم- عليه السلام- وهو يلقى في النار، فلا يرجع عن عقيدته ولا عن الدعوة إليها، أكان في موقف نصر أم في موقف هزيمة؟ ما من شكّ في منطق العقيدة أنّه كان في قمة النصر وهو يلقى في النار، كما أنّه انتصر مرة أخرى وهو ينجو منها، هذه صورةٌ من صور النصر وتلك صورة، وهما في الظاهر بعيدٌ من بعيد، فأمّا في الحقيقة فهما قريبٌ من قريب.

كم من شهيد ما كان يملك أن ينصر عقيدته ودينه ودعوته، ولو عاش ألف عام، كما نصرها باستشهاده! وما كان يملك أن يودع القلوب من المعاني الكبيرة ويحفز الألوف إلى الأعمال العظيمة بخطبة مثل خطبته الأخيرة، التي سطّرها بدمه، فتبقى حافزا محركا للأبناء والأحفاد، وربما كانت حافزا محركا لخطى التأريخ كله مدى أجيال!.

ما النصر إذن؟ وما الهزيمة؟ إننا بحاجة إلى أن نراجع ما استقر في تقديرنا من صور النصر، ومن القيم، قبل أن نسأل: أين وعد الله لرسله وللمؤمنين بالنصر في الحياة الدنيا؟.

وهناك اعتبارٌ آخر لا بدّ من مراعاته، وهو أنّ وعد الله قائمٌ لرسله وللذين آمنوا، ولا بدّ أن توجد حقيقة الإيمان في القلوب التي ينطبق هذا الوعد عليها، وحقيقة الإيمان كثيرا ما يتساهل الناس فيها ويتجوزون، وهي لا توجد إلاّ حين يخلو القلب من الشرك في كل صوره وأشكاله، وإنّ هناك أشكالا من الشرك خفية لا يخلو منها القلب إلاّ حين يتجه لله وحده، ويتوكل عليه وحده، ويطمئن إلى قضاء الله فيه وقدره عليه، ويحسّ أنّ الله وحده هو الذي يصرفه، فلا خيرة له إلا ما اختاره الله، ويتلقى هذا بالطمأنينة والثقة، والرضا والقبول، وحين يصل إلى هذه الدرجة فلن يقدّم بين يدي الله، ولن يقترح عليه صورة من صور النصر، أو صور الخير، بل يكل هذا كله للخير ويلتزم، ويتلقى كل ما يصيبه على أنّه الخير، وذلك معنى من معاني النصر، إنّه النصر على اللذات والشهوات، وهو النصر الداخلي الذي لا يتمّ نصرٌ خارجي بدونه بحال من الأحوال.

إنّ الله -عز وجل- وعد ولن يخلف الميعاد، وأرشد فقال: (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ) [غافر:55]، فمهما يطول الطريق، ومهما تتعقد الأمور، ومهما تتقلب الأسباب، فوعد الله حق، إنّه وعد من يملك التحقيق، وفي الطريق خذ زاد الطريق، (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ). هذا هو الزاد في طريق الصبر الشاقّ الطويل، استغفارٌ للذنب، وتسبيحٌ بحمد الرب، والاستغفار المصحوب بالتسبيح وشيكٌ أن يجاب.

إنّ الله -عز وجل- فعّالٌ لما يريد، يحكم ما يشاء ويختار، يريد مرة أن ينتصر المؤمنون في هذه الأرض لحكمة يريدها، ويريد مرة أن ينتصر الإيمان على الفتنة، وتذهب الأجسام الفانية لحكمة يريدها، يريد مرة أن يأخذ الجبّارين في الأرض، ويريد مرة أن يمهلهم لليوم الموعود لحكمة تتحقق هنا وتتحقق هناك، إنّ ربك عليمٌ حكيم.

أيّها المسلمون: إنّ أعظم انتصار يحققه الفرد والدول والحركات هو الثبات على المبادئ والتمسك بها، والموت في سبيلها. لقد كان في إمكان المؤمنين المضطهدين، والمؤمنين المشردين، والمؤمنين الذين سلبت منهم حقوقهم في تحكيم شريعة الله والعيش في أرضهم بسلام، والمؤمنين الذين يطاردون، لقد كان في إمكان هؤلاء أن ينجوا بحياتهم، وأن يحتفظوا بدنياهم في مقابل الهزيمة لإيمانهم، ولكن؛ كم كانوا يخسرون هم أنفسهم في الدنيا قبل الآخرة، وكم كانت الأمة كلّها تخسر، كم كانوا يخسرون وهم يقتُلون هذا المعنى الكبير، معنى زهادة الحياة بلا عقيدة، وبشاعتها بلا حريّة، وانحطاطها حين يسيطر الطغاة على الأرواح بعد سيطرتهم على الأجساد.

إنّ الذين فتنوا إخواننا وأحرقوهم بقنابلهم وصواريخهم، ثمّ لم يتوبوا، فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق، فحريقٌ مقابل حريق، ولكن: أين حريقٌ من حريق في شدته أو مدته؟ حريق الدنيا نارٌ يوقدها الخلق، وحريق الآخرة نارٌ يوقدها الخالق، حريق الدنيا لحظاتٌ وينتهي، وحريق الآخرة آبادٌ لا يعلمها إلاّ الله، ومع حريق الدنيا رضا الله عن المؤمنين، وانتصارٌ لذلك المعنى الإنساني الكريم، ومع حريق الآخرة غضب الله والارتكاس الهابط الذميم.

يوم أن يعلن أهل الصليب انتصارهم في العراق وفي أفغانستان من قبل، فوالله ما انتصروا! إنّما المنتصرون حقا هم الذين أوقدوا بدمائهم نار النصر المرتقبة، المنتصرون حقا هم الذين ثبتوا على دينهم وحافظوا على مبادئهم، ولو كانوا اليوم صرعى أو مشردين، والمهزوم من تراجع عن دينه، وتخلى عن ثوابته، واستسلم لأعدائه، وخان أمته خوفا وطمعا، أولئك هم المنهزمون حقا، فلا يغررك تقلبهم في البلاد.

أقول هذا القول...

الخطبة الثانية:

أما بعد: يا عباد الله، إننا حين نستقرئ ما ذكره الله عن حال الأمم المكذبة، نجد أنّ سنة الله ماضية فيهم، بأن دمرهم تدميرا، ولكن؛ (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ) [الرعد:39]، (مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَـْ?خِرُونَ) [المؤمنون:43]، (فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا) [مريم:84].

وإذا تأملنا حال أمريكا اليوم وما هي عليه، فإنّ سنن الله -سبحانه- تجمع على أنّها تنتظر عقابا إلهيا مدمرا، يمزقها تمزيقا، فما بلغت أمةٌ في الطغيان والجبروت والكذب والإفساد في الأرض والصدّ عن سبيل الله ومعاداة أولياء الله ومطاردتهم وتعذيبهم، ما بلغت أمةٌ في ذلك ما بلغته أمريكا، عليها من الله ما تستحق.

إنّها الدولة التي كفرت بالله، وصدّت عن سبيله، وطاردت المجاهدين والمصلحين، وضيقت على المؤسسات الخيرية دون حياء أو خجل، وقد قال ربنا، كما في الحديث القدسي: "مَن عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب"، فكيف وهي تعادي أولياء الله؟! بل وتعادي الربّ -سبحانه- استكبارا وعنادا!.

إنّها أمريكا التي ادعت لنفسها من القدرات ما لا يليق إطلاقه إلاّ على الله -تعالى-، فهي تتعامل مع غيرها ولسان حالها: ( أنا ربكم الأعلى)، (ما أريكم إلا ما أرى)، (لا يسأل عما يفعل)، ولقد قال فرعونهم يوما لرئيس باكستان: إمّا أن تدخل في حلف الولايات المتحدة في حربها ضدّ الإرهاب، وإمّا أن نعيد باكستان إلى العصر الحجري.

إنّها دولة الظلم والاستبداد، فلا يختلف اثنان على الحجم الهائل للظلم الذي أوقعته أمريكا على الدول والشعوب والأفراد، فهي رائدة الظلم على المستوى السياسي والاقتصادي والعسكري.

وقد نهبت ثروات الأمم والشعوب، وضيقت على دول وحاصرتها وجوّعتها، وهي التي أبادت شعوبا بقنابلها الحارقة في أفغانستان وفيتنام والصومال والعراق، حتى بلغ حجم ما صبّ على العراق من القنابل والصواريخ في خمسة الأيام الأولى أربعة أضعاف حجم القنبلة التي ضربت اليابان! أطنانٌ من القنابل دون تمييز أو رحمة، فويلٌ لها من الجبّار القهّار جلّ جلاله!.

إنّه ظلمٌ عالميٌّ تقوده أمريكا، لم يشهد العالم له مثيلا على مرّ قرونه وتعاقب دهوره، فهل بدأت نهايتها كما قال الله، (وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ) [القصص:59].

إنّها دولة البطر وكفر النعم، وهي الرائدة في جميع أنواع الكفر والفساد والانحلال، وكلّ ذلك من أسباب إهلاك الله للأمم، (وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا) [القصص:58].

إنّها دولة الاستكبار والغرور والغطرسة، (وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُواْ وَاسْتَكْبَرُواْ فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلُيمًا) [النساء:173].

إنّ من سنن الله الواضحة أنّه -سبحانه- يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) [هود:102].

إنّ أمريكا اليوم تمكر بالمسلمين وتخادعهم، والله يمكر بهم، (وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ) [إبراهيم:46].

ولعلّ من مكر الله بهذه الدولة الطاغية أنّها الآن جاءت لتصطلي بنار البعث، ويصطلي هو بنارها، ولعلّ الله يرحم من بينهم من المسلمين المستضعفين، والله غالبٌ على أمره، ومن يغالب الله يغلب، وهو المهزوم المدحور الهالك لا محالة، (قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ) [النحل:26].

أيّها المسلمون: ومع ما في هذه الأحداث من مرارة وأسى، فلنعلم أنّ فيها خيرا كثيرا، بل هي أولّ بشائر النصر والغلبة إن شاء الله، فهي تبشر بولادة جديدة لهذه الأمة، ولادةٌ ترفع فيها رايات الجهاد، وتقال فيها كلمة الحقّ، ويضعف فيها جانب الكفر والنفاق، (فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً) [النساء:19].

إنّ من نعم الله على هذه الأمة أن يبتليها بالمصائب لتعود إلى دينها وربّها، ومن الخير للأمة أن يبتليها الله بالضراء كما يبتليها بالسراء، (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) [الشورى:27].

أيّها المسلمون: أبشروا وأمّلوا! فها هي الجنة تزف إليكم، (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) [آل عمران:139].

ها هي رأس الكفر ورائدة الظلم قد ألقت إليكم بفلذات أكبادها وبأحسن أسلحتها وعتادها، فعسى الله أن يجعلها غنيمة للمسلمين؛ تفاؤلا بقول الحق (وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَّمْ تَطَئُوهَا ? وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا) [الأحزاب:27].

إنّ نصر الله قريبٌ لمن ينصر دين الله، لكنه لا يقدم على صحن من ذهب، أو باقة من زهور، وإنّما يحتاج إلى تضحيات وجهاد مستمر، وخروج عن مألوف حياة الترف.

لا بدّ أن نوقن أنّ ما يحدث هو بإرادة الله وقضائه، وأنّه وحده هو المتصرف في هذا الكون وله الخلق والأمر، فليكن يقينك صادقا بذلك علما وعملا بتفرد الله -سبحانه- بالأمر، بعيدا عن أسطورة أنّ النصر محققٌ لأمريكا أو لغيرها، أو أنّها هي التي تتصرف في الكون، واعلم أنّ الأمور بنهايتها وليس ببداياتها، فقد تنتصر أمريكا فترة من الزمن، ثمّ يخرج الله قوما مجاهدين صادقين، يعذب الله جيوش الكفر بجهادهم، (فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) [الحشر:2].

وإلى أن تأتي ساعة النهاية لدولة الكفر والطغيان، فلا بدّ من العمل والاستعداد والتغيير والسعي في الصلاح والإصلاح، وأن لا نظل متكئين على الأرائك ننتظر صاعقة من السماء تحرق أمريكا وجنودها.

ولا بدّ -أيّها المسلمون- من الاستمرار في الدعاء في كلّ وقت وحين، ولنحذر من المثبطين المخذلين، واتق الله أن تخذل إخوانك في محنتهم؛ فيتخلى الله عنك أحوج ما تكون إليه.

إنّ من العار أن لا تشعر الأمة كلّها بالخطر، فتفزع إلى الدعاء واللجوء إلى الله، فادع -أخي- ربك في ظلمة الليل وأوقات الإجابة، وارفع يديك صادقا بالدعاء، فلعل دعوة مستجابة يرفع الله بها البلاء عن الأمة، وإيّاك والملل والاستعجال! فإنّ

 سهام الليل لا تخطيء ولكن

لها أمد وللأمد انقضاء

والدعاء يرفع البلاء أو يدفعه أو يخففه، فلا تيأسوا من نصر الله الكريم ولطفه وإجابته، وما يدريك؟ لعلّ دعواتك هي التي أسقطت طائراتهم، وهي التي أرسلت الريح على جنودهم، وهي التي أخرت انتصارهم، وما يدريك؟ لعل دعوتك قد صرفت شرا وكيدا قد خطط له الأعداء.

كن على يقين بنصر الله ولا تغرنّك قوة العدوّ، فما من يد إلاّ يد الله فوقها، وأكثر من قول: "حسبنا الله ونعم الوكيل"، وعلمها أهل بيتك وجيرانك، فالله كافِ المؤمنين وحافظهم.

اللهمّ إنّا نسألك وأنت القوي القادر، وأنت العزيز القاهر أن تنزل على أمريكا وحلفائها عذابا من عندك، وأن تسلط عليها جندا من جندك...