المحسن
كلمة (المحسن) في اللغة اسم فاعل من الإحسان، وهو إما بمعنى إحسان...
العربية
المؤلف | أحمد شريف النعسان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - المنجيات |
إنَّ الشَّدَائِدَ والمِحَنَ تُحتَمَلُ بالثِّقَةِ باللهِ، وبِعَظِيمِ الرَّجَاءِ, وكُلَّما عَظُمَ البَلاءُ, واشتَدَّتِ المِحَنُ والخُطُوبُ على المُؤمِنِ, كُلَّما عَظُمَ رَجَاؤُهُ وثِقَتُهُ باللهِ. المُؤمِنُ الحَقُّ لا تُزَلزِلُهُ المِحَنُ والشَّدَائِدُ, ولا تَهُدُّهُ المَتَاعِبُ, بل...
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين, وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد, وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فيَا عِبَادَ اللهِ: إنَّ أَمَلَ الإنسانِ في الأزَماتِ وفي الشَّدَائِدِ وأيَّامِ المِحَنِ والابتِلاءاتِ والرَّزَايا لَيسَ وَهْماً, ولا مُكَابَرَةً, ولا تَعَامِياً عن الوَاقِعِ والأحدَاثِ, ولكنَّهُ عَقِيدَةٌ رَاسِخَةٌ في قَلبِهِ, يَعمَلُ مِن خِلالِهَا, وبِهِ يُوَاجِهُ الصِّعَابَ والشَّدَائِدَ, وذلكَ من خِلالِ قَولِهِ تعالى: (وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) [يوسف: 87].
ومن خِلالِ قَولِهِ تعالى: (وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ) [الحجر: 56].
يا عباد اللهِ: إنَّ الشَّدَائِدَ والمِحَنَ تُحتَمَلُ بالثِّقَةِ باللهِ -تعالى-, وبِعَظِيمِ الرَّجَاءِ, وكُلَّما عَظُمَ البَلاءُ, واشتَدَّتِ المِحَنُ والخُطُوبُ على المُؤمِنِ, كُلَّما عَظُمَ رَجَاؤُهُ وثِقَتُهُ باللهِ -تعالى-.
المُؤمِنُ الحَقُّ لا تُزَلزِلُهُ المِحَنُ والشَّدَائِدُ, ولا تَهُدُّهُ المَتَاعِبُ, بل تَزِيدُهُ ثَباتاً ويَقِيناً باللهِ -تعالى-.
المُؤمِنُ الحَقُّ لا تُذِيبُهُ المِحَنُ والشَّدَائِدُ, ولا يَذُوبُ فِيها, فَضْلاً عن أن يَذُوبَ في البَاطِلِ, وذلكَ لِثِقَتِهِ باللهِ -تعالى-, وثِقَتِهِ بِغَلَبَةِ الحَقِّ وأهلِهِ مَهما أُصِيبَ بِجُرُوحٍ في حَيَاتِهِ الدُّنيا, وذلكَ انطِلاقاً من قَولِهِ تعالى: (وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ واللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ) [آل عمران: 141 - 139].
يا عباد اللهِ: الثِّقَةُ باللهِ -تعالى- هيَ مِفتَاحُ السَّعَادَةِ في الدُّنيا والآخِرَةِ, وبِدُونِها يَعِيشُ النَّاسُ في شَقَاءٍ وضَنْكٍ وبَلاءٍ.
الثِّقَةُ باللهِ -تعالى- أنَّهُ الخَالِقُ الرَّازِقُ.
الثِّقَةُ باللهِ -تعالى- أنَّهُ المُعطِي المَانِعُ.
الثِّقَةُ باللهِ -تعالى- أنَّهُ الخَافِضُ الرَّافِعُ.
الثِّقَةُ باللهِ -تعالى- أنَّهُ المُعِزُّ المُذِلُّ.
الثِّقَةُ باللهِ -تعالى- أنَّهُ المُحيي المُمِيتُ.
الثِّقَةُ باللهِ -تعالى- أنَّهُ الفَعَّالُ لِما يُريدُ, تَجعَلُ المُؤمِنَ سَعِيداً في وَسَطِ المِحَنِ, وتَجعَلُهُ يَعِيشُ في الأمَلِ وإن كَانَ في وَسطِ الألَمِ.
يا عباد اللهِ: مُشكِلَةُ الكَثِيرِ من النَّاسِ اليَومَ, وخَاصَّةً في هذهِ الأزمَةِ هيَ: عَدَمُ الثِّقَةُ باللهِ -تعالى- القَائِلِ: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ * وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انتِقَامٍ) [الزمر: 36 - 37].
يا عباد اللهِ: نَحنُ بِأَمَسِّ الحَاجَةِ؛ لأنْ نَرجِعَ إلى اللهِ -تعالى-؛ لأنْ نَصطَلِحَ مَعَ اللهِ -تعالى-؛ لأنْ نُقَوِّيَ إيمَانَنا وثِقَتَنا باللهِ -تعالى-.
"كم تَعبُدُ من إلهٍ؟":
يا عبادَ اللهِ: لِنَسمَعْ إلى هذا الحِوَارِ بَينَ سَيِّدِنا رَسولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ-, وبَينَ حُصَينِ بنِ عِيدٍ عَظِيمٍ من عُظَماءِ قُرَيشٍ, جَاءَ إلى سَيِّدِنا رَسولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ-؛ فقالَ: ما هذا الذي بَلَغَنا عَنكَ أَنَّكَ تَشتُمُ آلِهَتَنا وتَذكُرُهُم، وقد كَانَ أَبُوكَ حَصِينَةً وخَيراً؟ فقالَ: "يا حُصَينُ، إنَّ أبي وأَبَاكَ في النَّارِ؛ يا حُصَينُ، كم تَعبُدُ من إلهٍ؟" قالَ: سَبعاً في الأرضِ وواحِدَاً في السَّماءِ، قالَ: "فإذا أَصَابَكَ الضُّرُّ من تَدعُو؟" قالَ: الذي في السَّماءِ، قالَ: "فَيَستَجِيبُ لَكَ وَحدَهُ وتُشرِكُهُم مَعَهُ، أَرَضِيتَهُ في الشُّكرِ أم تَخَافُ أن يُغلَبَ عَلَيكَ؟" قالَ: ولا وَاحِدَةً من هَاتَينِ. قالَ: وعَلِمتُ أنِّي لم أُكَلِّمْ مِثلَهُ. قالَ: "يا حُصَينُ، أَسلِمْ تَسلَمْ".
يا عبادَ اللهِ: لَفتَةٌ كَرِيمَةُ من سَيِّدِنا رَسولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ- لهذا الرَّجُلِ المُشرِكِ, الذي جَعَلَ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخرَى, هَلَّا تَنَبَّهَ إلَيها أهلُ القُرآنِ العَظِيمِ؟ هَلَّا تَنَبَّهَ إلَيها الذينَ قالَ اللهُ -تعالى- فِيهِم: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا) [فاطر: 32]?.
يا أيُّها العَبدُ المُصطَفَى من سَائِرِ المَخلُوقاتِ والبَشَرِ: هَلَّا رَجَعتَ إلى كِتَابِ رَبِّكَ تَائِباً ومُصطَلِحاً, وخَاصَّةً في أيَّامِ الشَّدَائِدِ؟ إذا كَانَ المُشرِكُ يَلتَجِئُ إلى اللهِ -تعالى- في الشَّدَائِدِ, فالمُؤمِنُ يَجِبُ عَلَيهِ ذلكَ من بَابِ أَولَى وأَولَى.
يا عباد اللهِ: لِمَ لَمْ تَرجِعِ الأُمَّةُ إلى اللهِ -تعالى-؟ لِمَ لَمْ يَرجِعْ حُكَّامُنا ومَحكُومُونَا إلى اللهِ -تعالى-, ويَصطَلِحُوا مَعَ اللهِ -تعالى-؟ لقد أعرَضَتِ الأُمَّةُ حُكَّاماً ومَحكُومِينَ -إلا من رَحِمَ اللهُ تعالى- عن اللهِ -تعالى-, وفَقَدُوا الثِّقَةَ باللهِ -تعالى-, فهل رَأَوْا خَيراً؟
واللهِ ما رَأَتِ الأُمَّةُ خَيراً عِندَما أعرَضَت عن اللهِ -عزَّ وجلَّ-, ما رَأَتْ خَيراً عِندَما فَقَدَت ثِقَتَها باللهِ -تعالى-, بل على العَكسِ من ذلكَ تَماماً.
يا عبادَ اللهِ: لِنَرجِعْ إلى اللهِ -تعالى-, ولنصطَلِحْ مَعَ اللهِ -تعالى- القَائِلِ: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [يــس: 82].
والقَائِلِ: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا) [فاطر: 44].
لِنَرجِعْ ولنَصطَلِحْ مَعَ اللهِ -تعالى- الذي قُلُوبُ العِبَادِ بَينَ إِصبَعَينِ من أَصَابِعِهِ؛ كما جاءَ في الحَديثِ الشَّريفِ الذي رواه الإمام مسلم عن عَبْدَ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ -رَضِيَ اللهُ عنهُما- أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "إِنَّ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ كُلَّهَا بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ, كَقَلْبٍ وَاحِدٍ, يُصَرِّفُهُ حَيْثُ يَشَاءُ".
ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ-: "اللَّهُمَّ مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ, صَرِّفْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ".
لِنَرجِعْ ولنَصطَلِحْ مَعَ اللهِ -تعالى- الذي يُنَادِينا وهوَ غَنِيٌّ عَنَّا, ونَحنُ الفُقَرَاءُ إلَيهِ, فَيَقُولُ: "يَا عِبَادِي, لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ, وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ, قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ, فَسَأَلُونِي, فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ, مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي, إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ" [رواه الإمام مسلم عَنْ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عنهُ-, عَن النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ- فِيمَا رَوَى عَن اللهِ -تَبَارَكَ وَتعالى-].
يَا عِبَادَ اللهِ, يا أهلَ هذا البَلَدِ الحَبِيبِ, يا أهلَ بِلادِ الشَّامِ, يا مَن تَتَطَلَّعُونَ إلى كَشْفِ الغُمَّةِ: تَعالَوْا لِنَصطَلِحْ مَعَ اللهِ -تعالى-, وخَاصَّةً في هذهِ الأيَّامِ الأخِيرَةِ من شَهرِ شَعبانَ, هذا الشَّهرِ العَظِيمِ الذي غَفَلَ عَنهُ الكَثِيرُ من النَّاسِ بَينَ رَجَبَ ورَمَضَانَ؛ كما جاءَ في الحَديثِ الشَّريفِ الذي رواه الإمام أحمد عن أُسَامَةَ بْنُ زَيْدٍ -رَضِيَ اللهُ عنهُ- عن النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ- قال: "ذَاكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ, بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ, وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الْأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ, فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ".
يا عبادَ اللهِ: هَلَّا أوقَفنا سَفْكَ الدِّمَاءِ, وتَهدِيمَ البُيُوتِ, وسَلْبَ الأموالِ؟! هَلَّا نَزَعنا من صُدُورِنا الحِقدَ والغِلَّ والحَسَدَ والبَغضَاءَ من بَينِنا, اِستِعدَاداً لاستِقبَالِ شَهرِ رَمَضَانَ المُبَارَكِ الذِي تُرمَضُ فِيهِ الذُّنُوبُ؟!
يا عباد اللهِ: من رَحمَةِ اللهِ -تعالى- فِينا أنَّهُ أبقَى لنا بَقِيَّةً في أعمَارِنا, فَهَلَّا استَغلَلنا أنفَاسَ أعمَارِنا المُتَبَقِّيَةَ في الاصطِلاحِ مَعَ اللهِ -تعالى-؟ وهَلَّا تَابَ كُلُّ وَحِدٍ مِنَّا من الذَّنبِ الذي هوَ وَاقِعٌ فِيهِ, وهوَ أدرَى بِنَفسِهِ من غَيرِهِ, ورَبُّنا -عزَّ وجلَّ- أدرَى بِنا من أنفُسِنا؟!
أسألُ اللهَ -تعالى- أن يَرُدَّنا إلَيهِ رَدَّاً جَمِيلاً, وأن يَكشِفَ عَنَّا هذهِ الغُمَّةَ عَاجِلاً غَيرَ آجِلٍ. آمين.
أقُولُ هَذا القَولَ, وأستَغفِرُ اللهَ لِي ولَكُم, فَاستَغفِرُوهُ إنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.