العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
فإذا فشل الشيطان في إيقاع المسلم في الشرك بالله أو في البدعة فإنه يسعى إلى إيقاعه في الكبائر حتى تنكسر حدة إيمانه, فإذا انكسرت حدة إيمانه أصبح سهلا عليه أن يوقعه فيما شاء من الضلالات؛ لذلك عندما أسرَ...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)[الأحزاب:70-71].
أما بعد:
أيها المؤمنون: مداخل الشيطان على ابن آدم كثيرة؛ فالعداوة بينه وبين الخلق قائمة والصراع مستمر حتى يرث الله الأرض ومن عليها، وقد طلب إبليس من ربه أن يَنظره إلى يوم الدين حتى يتمكن من إغواء من يقدر عليهم، قال الله تعالى حكاية عنه: (قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ)[الحجر:40]؛ فالواجب على المسلم أن يتعرف على مداخل الشيطان وطرقه وأساليبه؛ حتى يستطيع دفعها وردها وارغام الشيطان وهزيمته.
يقول الإمام الغزالي: "اعلم أن مثال القلب مثال حصن، والشيطان عدوٌ يريد أن يدخل الحصن فيملكه ويستولي عليه .. ولا يقدر على حفظ الحصن من العدو إلا بحراسة أبواب الحصن ومداخله ومواضع ثلمه، ولا يقدر على حراسة أبوابه من لا يدري أبوابه؛ فحماية القلب من وسواس الشيطان واجبة وهي فرض عين على كل عبدٍ مكلف، وما لا يتوصل إلى الواجب إلا به فهو أيضًا واجب، ولا يتوصل إلى دفع الشيطان إلا بمعرفة مداخله، فصارت معرفة مداخله واجبة".
فإذا فشل الشيطان في إيقاع المسلم في الشرك بالله أو في البدعة فإنه يسعى إلى إيقاعه في الكبائر حتى تنكسر حدة إيمانه, فإذا انكسرت حدة إيمانه أصبح سهلا عليه أن يوقعه فيما شاء من الضلالات؛ لذلك عندما أسر الروم عبدالله بن حذافة السهمي وجاءوا به إلى قيصر الروم وعرضوا عليه الرغائب والرهائب حتى يجندوه لهم وهو رافض وثابت على الحق, قال كبير القساوسة لقيصر: أدخل عليه امرأة جميلة في سجنه واجعلهما بمفردهما؛ فإنه إن زنى بها انكسرت حدة إيمانه فيسهل علينا أخذ ما نريد منه, فلما فعل قيصر بوصية القسيس, ما كان من سيدنا عبدالله إلا أن أغمض عينيه وأعرض عنها حتى الصباح, فلما فتحوا عليهما الزنزانة, وجدوا المرأة تقول شعرا من عجب ما رأت, فقالت: أأدخلتموني على بشر؟ أم أدخلتموني على حجر؟ والله منذ دخلت عليه ما رفع في البصر، وما أظنه يدري أنثى أنا أم ذكر".
معاشر المسلمين: الكبائر مدخل عظيم من مداخل الشيطان على المسلم، والكبائر جمع كبيرة، وهي كل ما كبر من المعاصي وعظم من الذنوب.
وقد اختلف العلماء في وضع ضابط للكبيرة، لكن الذي اُتفق عليه أن الكبيرة هي كل ذنب أو معصية حدد لها الشرع عقوبة في الدنيا كحد السرقة وحد الزنا وحد شرب الخمر، أو توعد عليها بنار أو لعنة أو غضب أو عذاب كأكل الربا وعقوق الوالدين والتنمص والوشم والنميمة.
إن أكبر الكبائر هو الشرك, فقد جاء في صحيح البخاري، وغيره قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "أكبر الكبائر الإشراك بالله وقتل النفس وعقوق الوالدين وقول الزور أو قال وشهادة الزور".
ومنها: السبع الموبقات أي المُهلكات؛ كما في الصحيحين البخاري ومسلم وغيرهما قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "اجتنبوا السبع الموبقات"، قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال: "الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات".
وقد قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "هي إلى السبعين أقرب منها إلى السبع".
ويدخل في هذا: السحر وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات وأكل مال اليتيم وأكل الربا وعقوق الوالدين واليمين الغموس وشهادة الزور وشرب الخمر والكذب والغيبة والنميمة..، وغيرها مما ثبت في النصوص أنه من الكبائر.
عباد الله: وبسبب خطورة الكبائر وأثرها السيء على حياة الفرد والمجتمع في الدنيا والآخرة؛ فقد اجتهد العلماء في بيان أنواع الكبار وأقسامها من خلال النصوص الشرعية في الكتاب والسنة، وهناك كتب ومؤلفات وشروح لها؛ فبينوا أن الكبائر تنقسم باعتبار أنواعها إلى قسمين:
الأول: كبائر القلوب؛ كالكفر والشرك والنفاق ونحوها.
الثاني: كبائر الجوارح، وهي خمسة أقسام:
كبائر العلم والجهاد، وكبائر العبادات، كبائر المعاملات، وكبائر المعاشرات، وكبائر الأخلاق.
وتنقسم كبائر الجوارح باعتبار مصدرها إلى ستة أقسام:
كبائر اللسان؛ كالغيبة والنميمة وشهادة الزور ونحو ذلك، وكبائر الأذن؛ كسماع الغناء ونحوها، وكبائر اليد كالقتل والضرب والسرقة ونحو ذلك، وكبائر البطن؛ كأكل السم وشرب الخمر ونحو ذلك، وكبائر الفرج؛ كالزنا وعمل قوم لوط وإتيان المرأة بالدبر.
عباد الله: لقد أثنى الله سبحانه وتعالى, على من يجتنب كبائر الذنوب، قال الله تعالى: (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ)[النجم:32]، وقال تعالى: (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ)[الشورى:37]، وقال تعالى: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا)[النساء:31].
مع وجود هذه التحذيرات الربانية, إلا أن الشيطان له طرقه وخططه التي يخدع بها الإنسان عندما يضعف إيمانه ويبتعد عن شع به, فما من كبيرة من الكبائر إلا وغلفها الشيطان بغلاف الحق والمصلحة والفائدة, فيتعامل المرء بالربا لأن الشيطان أخبره أنه مجرد فوائد بنكية, أو لأنها أصبحت ضرورة حتمية, ويزين له القتل بحجة الدفاع عن المذهب والقبيلة دون وجه حق، وزين الخمور بأنها مشروبات روحية ولن تؤثر على دين المرء وعقيدته، وهذا هو السبيل الذي كان الشيطان، ولا يزال الشيطان يزين الباطل والمعصية وهذا دأبه حتى يرث الله الأرض ومن عليها .
يقول ابن القيم: "ومن مكايده أنه يسحر العقل دائماً حتى يكيده، ولا يسلم من سحره إلا من شاء الله، فيزين له الفعل الذي يضره، حتى يخيل إليه أنّه أنفع الأشياء، قال تعالى: (تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)[النحل:63].
اللهم إنا نعوذ بك من شر الشيطان وشركه.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
قلت ما سمعتم واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، والصلاة والسلام على رسوله الداعي إلى رضوانه، وعلى آله وأصحابه وإخوانه.
أما بعد:
عباد الله: ويتساءل المرء منا: هل للكبائر كفارات أو توبة؟
والجواب: بأن كفارة الكبائر، التي لها عقوبة في الدنيا؛ كالزنا والسرقة وشرب الخمر، هو إقامة الحدود المقدّرة فيها كما رأى جمهور العلماء ذلك؛ لقوله عليه الصَّلاة والسَّلام في الصَّحيحين عن عبادة بن الصامت قال: كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مجلس، فقال: "تبايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تزنوا، ولا تسرقوا، ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله إلا بالحق، فمن وفّى منكم فأجره على الله، ومن أصاب شيئاً من ذلك فعوقب به، فهو كفارة له، ومن أصاب شيئاً من ذلك فستره الله، فأمره إلى الله إن شاء عفا عنه، وإن شاء عذبه"؛ فالحد المقدّر في ذنب كفّارة لذلك الذنب.
أما من ستره الله وتاب مما وقع فيه فإن توبته تُكفر ذنبه بمشيئة الله ورحمته، وكل الكبائر التي عقوبتها في الآخرة تكفرها بفضل الله التوبة النصوح وكثرة الاستغفار والإنابة إلى الله وكثرة الطاعات؛ لقوله تعالى: (وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا)[الفرقان:71].
وأما من ستره الله -عز وجل- ولم تقم عليه هذه الحدود ولم يتب منها فأمره مفوض لخالقه -عز وجل-؛ لقوله تعالى: (إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا)[النساء: 48].
أيها المسلمون: إن النجاة من الشيطان ومداخله بالعمل بالكتاب والسنة، ودعوة الناس إلى ذلك، والحذر واليقظة الدائمة، سئل الحسن البصري: أينام إبليس؟ قال: "لو نام لوجدنا راحة".
والالتجاء إلى الله والاحتماء به، والاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، والإكثار من قراءة القرآن الكريم له خاصية في طرده، وكلما أكثر العبد من التلاوة حصّن نفسه من الشيطان، ومداومة ذكر الله بالتسبيح والتحميد والتكبير والتهليل والاستغفار والدعاء، وشهود مجالس الخير والعلم، والبعد عن مجالس اللهو واللعب، والباطل والغفلة.
نسأل الله تعالى أن يتفضل علينا برحمته، وأن يحفظنا من كل سوء، وأن يسترنا بستره الجميل في الدنيا والآخرة.
وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).