الحفيظ
الحفظُ في اللغة هو مراعاةُ الشيء، والاعتناءُ به، و(الحفيظ) اسمٌ...
العربية
المؤلف | عبد العزيز بن عبد الله السويدان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب |
ومما خَصَّ به جزيرة العرب أن جعلها حرم الإسلام، وللحرم حرماته التي لا تنتهك، فهي دار الإسلام الأولى، وعاصمته على مَرّ العصور، وكَرّ الدهور، إلى يوم النشور، وهي قصبة الديار الإسلامية كلها؛ فمن جزيرة العرب فاضت أنوار النبوة لتمحو ظلمات الجاهلية، ومنها أشرق التوحيد ليبيد ظلمة الشرك.
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضِلّ له، ومَن يُضْلِلْ فلا هاديَ له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]. (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
مما بينه القرآن الكريم أن الله -تبارك وتعالى- يختار من خلقه ويصطفي ما شاء ومن شاء، قال -جل وعلا-: (اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) [الحج:75]، وقال -سبحانه- في اصطفائه الأنبياء بأسمائهم: (إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ) [آل عمران:33].
وقال -جل وعلا- في اختيار الشهداء: (وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) [آل عمران:140]، وكذلك يختار الأزمنة -سبحانه وتعالى-: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ) [التوبة:36]. ذو القعدة، وذو الحجة، ومحرم، ورجب؛ هذه هي الأشهر الحرم، اختارها الله -تبارك وتعالى-.
وبين الله -تعالى- وحدانيته في خلق ما شاء، واختيار ما يشاء، وفرض ما يشاء: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) [القصص:68].
قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: "وإذا تأملت أحوال هذا الخلق، رأيت هذا الاختيار والتخصيص فيه دالا على ربوبيته -تعالى- ووحدانيته وكمال حكمته وعلمه وقدرته، وأنه الله الذي لا إله إلا هو؛ فلا شريك له يخلق كخلقه، ويختار كاختياره، ويدبر كتدبيره، فهذا الاختيار والتدبير والتخصيص المشهود أثره في هذا العالم من أعظم آيات ربوبيته، وأكبر شواهد وحدانيته، وصفات كماله، وصدق رسله".
ولذلك اختار الله -تعالى- أمة العرب وخصها ببعض الأماكن المقدسة، ففضل مكة على المدينة، والمدينة على القدس، والقدس على غيرها من الأماكن.
بل وجعل أجر وثواب العبادة في مسجد مكة البيت الحرام أعظم أجرا من الصلاة في المسجد النبوي، وفي المسجد النبوي أعظم أجرا من المسجد الأقصى، وجعل الصلاة في هذه المساجد الثلاثة خاصة أعظم أجرا من الصلاة في سائر المساجد؛ فالله -تعالى-، (اللَّهُ يَصْطَفِي)، ويفضل بعضها على بعض.
ومن ذلك اختص هذه الأمة وفضلها على سائر الأمم، وجعلها خير أمة أخرجت للناس، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ) [آل عمران:110]
واختصها وشرفها بأفضل الأنبياء والرسل محمد بن عبدالله عليه أفضل الصلاة والتسليم. ولقد خص الله -تبارك وتعالى- بعض بلاده في الأرض بميزات ليست في غيرها، فالله يصطفى من العباد والبلاد ما شاء.
فاليمن -مثلا- من حديث أبي هريرة في صحيح البخاري قال -صلى الله عليه وسلم-: "الإيمانُ يمانٍ، والحكمة يمانية".
وقال في الشام، كما صح في السنن: "طوبى للشام!"، فقلنا: لأي ذلك يا رسول الله؟ قال: "لأن ملائكة الرحمن باسطة أجنحتها عليه".
وقال في العراق، كما في السلسلة الصحيحة، من حديث ابن عمر: "اللهم بارك لنا في مدينتنا"، إلى قوله: يا رسول الله وفي عراقنا، فأعرض عنه وقال: "فيها الزلازل، والفتن، وبها يطلع قرن الشيطان".
ومما خَصَّ به جزيرة العرب أن جعلها حرم الإسلام، وللحرم حرماته التي لا تنتهك، فهي دار الإسلام الأولى، وعاصمته على مَرّ العصور، وكَرّ الدهور، إلى يوم النشور، وهي قصبة الديار الإسلامية كلها؛ فمن جزيرة العرب فاضت أنوار النبوة لتمحو ظلمات الجاهلية، ومنها أشرق التوحيد ليبيد ظلمة الشرك.
عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ" رواه مسلم. ومعنى هذا الحديث أن الشيطان يئس من اجتماع أهل الجزيرة على الإشراك بالله -تعالى-.
أيها الإخوة: منذ بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم- وإلى يومنا والجزيرة هي دار الإسلام ولله الحمد، حماها الله وسائر أوطان المسلمين من كل سوء، ولم يعرف الشرك فيها إلا جزئيا على فترات في فرد أو أفراد، ثم يهيئ الله على مدى الأزمان من يردهم إلى دينهم الحق.
ويكفيها فخرا ومجدا وجود أفضل مدينتين على وجه الأرض: مكة المكرمة، والمدينة المنورة؛ يقصدهما المسلمون من كل فج وصوب عابدين حامدين مشتاقين.
بل إن كل مسلم على وجه الأرض إذا أراد أن يصلي بحث عن جهة جزيرة العرب ثم ولى وجهه شطر المسجد الحرام عند كل صلاة: (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ) [البقرة:144].
أيها الإخوة: لم يتطرق حديث اليوم إلى آراء العلماء حول الأحكام المتعلقة بالسكنى الدائمة لغير المسلمين في جزيرة العرب بناء على ما صح عنه -صلى الله عليه وسلم- لما قال: "لئن عشت -إن شاء الله- لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب"، فهذه خصيصة أخرى لها تفاصيلها وأقوال العلماء فيها؛ ولكن القصد من الحديث هو بيان مزية جزيرة العرب، واختيار الله -تعالى- لها دون سائر البقاع، وإسباغه عليها، وإدخال خصوصيات فريدة لم يخص بها أي بلاد أخرى على وجه الأرض؛ فنحن -ولله الحمد- نعيش على أرض لها من القدسية ما يسر الخاطر من جهة، ويُشعر بالمسؤولية من جهة أخرى.
فالله -تعالى- إذا اختار المكان -جل وعلا- وفضله وجلله، واختار لحمايته وصيانة حرمته من يقوم على ذلك من أهله؛ كان ذلك تشريفا عظيما منه -سبحانه وتعالى-؛ ففضلا عما تقدم من خصائص لجزيرة العرب، فإننا -ولله الحمد- ننعم ببلاد ضمن حدود جزيرة العرب قائمة منذ نشأتها على التوحيد، وولي الأمر فيها يتشرف بلقب خادم الحرمين الشريفين.
ومن ثم؛ فإن تبعات هذا التشريف جليلة وعظيمة، فنحن لسنا كغيرنا من سائر البلدان والأماكن؛ بل لنا خصوصيتنا التي مَنّ الله -تعالى- بها علينا.
وبالرغم من شناعة ما يجري في سائر بلدان الأرض من مخالفات ومعاصٍ ظاهرة فإنها -قطعا- لا تليق بأرض التوحيد، ومأرز الإسلام، ومهبط الوحي، ومبعث النبوة، ودار قبلة المسلمين على وجه الأرض.
فاللذين ينكرون خصوصيات هذه البلاد من الليبراليين وأمثالهم ويقولون نحن كغيرنا لا فرق هم ينكرون بالضرورة كل ما تقدم من نصوص ثابتة؛ (وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيمًا) [النساء:27].
قد صح في مسلم من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- قوله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ، وهو يأرز بين المسجدين كما تأرز الحية في جحرها".
جاء في المشكاة: أرزت الحية إلى جحرها إذا رجعت إليه، فالحية تنتشر من جحرها في طلب ما تعيش به، فإذا راعها شيء رجعت إلى جحرها وانكمشت فيه. اهـ. والمراد أن أهل الإيمان يفرون بدينهم وإيمانهم إلى تلك الأماكن ما بين المسجد الحرام والمسجد النبوي وقاية لدينهم؛ لأنهما وطن هذا الدين العظيم.
وبهذا كله وغيره يكون لجزيرة العرب مزايا ربانية ليست لغيرها من بلاد الأرض.
أسأل الله -تعالى- أن يحفظ علينا ديننا، وأن يبارك في بلادنا وبلاد سائر المسلمين الموحدين...