الرحيم
كلمة (الرحيم) في اللغة صيغة مبالغة من الرحمة على وزن (فعيل) وهي...
العربية
المؤلف | عبد العزيز بن عبد الله السويدان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
إن عزة النفس على الباطل وارتفاعها عما يقلل من قيمتها فضيلة من الفضائل ترفع من قدر الإنسان، وإن مما يهين النفس ويهبط بالإنسان إلى الهوان الشعور بفقر النفس، ومن ثم الشعور بحاجتها إلى التذلل من أجل الدنيا، كالذين أغناهم الله ولكن نفوسهم ما زالت فقيرة، يقفون بزينتهم طوابير بالساعات على أبواب من يعطيهم ألفين من الريالات أو ثلاثة من الأمراء والوجهاء وغيرهم، من أجل هذا أهينوا! قد صح في البخاري من حديث أبي هريرة قوله -صلى الله عليه وسلم-: "لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ".
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضِلّ له، ومَن يُضْلِلْ فلا هاديَ له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]. (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ما الذي يرفع قدر الإنسان، وما الذي ينزل قدره؟ سؤال يهم من يدرك قيمته الإنسانية بين الخلائق. (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً) [الإسراء:70].
لكن هذا التكريم قد يفقد تدريجيا شيئا فشيئا؛ فيسقط الإنسان بعده فيتردى في أسفل سافلين، كما قال -تعالى-: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ) [التين:4-5]، وعلى تفسير بعض علماء التفسير: أي: رددناه أسفل سافلين في جهنم، (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) [التين:6].
فهذه الآية تبين أن الإنسان مخلوق على حالة الفطرة الإنسانية التي فطرها عليه ربه، فطرة إنسانية كاملة، (فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ)، فهو مستقيم على الفطرة ما لم يلقن تلقينا خاطئا منحرفا، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: "ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه"، صح ذلك في البخاري من حديث أبي هريرة. ومعنى أن المولود يولد على الفطرة: أنه يولد مستعدا في تكوينه إذا تفتح عقله وعرض عليه الإسلام وضده أن يؤثر الإسلام على ضده، فهو مهيأ لذلك، ويختار الإسلام دينا ما لم يمنعه من ذلك مانع كالهوى أو التعصب.
فالإنسان إذا وصل إلى السن الذي يكون فيه مخاطبا شرعا فإن خُوطب وأقيمت عليه الحجة وأسلم بلسانه وقلبه وجوارحه لله فهو مسلم، وإن اختار غير ذلك فهو على ما اختار.
معاشر المسلمين: مما يرفع الإنسان التوحيد، فالموحد محق عدل في عبادته؛ لأنه يؤله من يستحق التأليه والإفراد بالعبادة؛ ولذلك فإن الإسلام دين العدل والإنصاف.
وفي الوجه المقابل مما يخفض الإنسان الشرك، وهو صرف العبادة أو شيء منها لغير الله -تعالى-، فهذا من الحيف والظلم من جهة، ومن الضلال والغباء من جهة أخرى؛ فالذي خلق العبد هو مالك الملك ورب كل شيء، الله -جل وعلا- هو رزقه وأعطاه من كل خير، ومكن له، ثم يذهب يستغيث بغيره -جل وعلا-: يا فلان! يا عباس! يا جيلاني! يا زهراء! يطلب منهم الرزق والتوفيق دون خالقه ورازقه، هذا ظالم لنفسه وجائر.
ولذلك صح في مسلم من حديث أبي موسى قوله -صلى الله عليه وسلم-: "ما أحد أصبر على أذى يسمعه من الله تعالى"، إنهم يجعلون له ندا ويجعلون له ولدا وهو مع ذلك يرزقهم ويعافيهم ويعطيهم. فالشرك هو أكبر ما يخفض قدر الإنسان ويهوي به إلى قعر الحضيض.
ومما يرفع قدر الإنسان الثبات على الحق وعلى المبدأ القويم، ومن ذلك الثبات على الطاعة: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ) [فصلت:30]. لم يقولوا ربنا الله فقط، بل استقاموا عليها، (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا).
أما الحور بعد الكور، أي الرجوع من الشيء إلى الشيء، والمقصود الرجوع من الاستقامة إلى الضلال ومن الزيادة إلى النقصان، نسأل الله العفو والعافية، فهذا مما يخفض الإنسان ويحط من قدره، قال -تعالى-: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ) [الأعراف:175].
وفي صحيح مسلم من حديث ابن عمر: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا سافر يتعوذ من وعثاء السفر، وكآبة المنقلب، والحور بعد الكور" الحديث.
ومما يرفع قدر الإنسان عند ربه ترفعه عن الذلة والهوان من أجل الدنيا، يقول -سبحانه-: (لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً)، أي: لا يحرفون دينهم ليستبقوا على رئاستهم ويحافظوا على مكانتهم.
وقال -تعالى- في وصف عباده الصالحين: (وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا) [الفرقان:72]، أي أنهم إذا مروا بأهل اللغو والمشتغلين به مروا معرضين عنه كراما مكرمين أنفسهم عن الخوض معهم في لغوهم تقربا إليهم؛ فإن لعاعة الدنيا لا تغر الكريم.
ذكر ابن كثير في البداية والنهاية أن يزيد بن المهلب أصاب من جرجان أموالاً كثيرة جدا، وكان من جملتها تاجٌ في جواهرَ نفيسةٍ، فقال يزيد: "أترون أحدا يزهد في هذا؟"، قالوا: لا، فدعا بمحمد بن واسع وكان في الجيش مغازيا، فعرض عليه أخذ التاج، فقال: "لا حاجة لي فيه"، فقال: "أقسمت عليك لتأخذنه!"، هو يزهد في أي شيء من الدنيا أصلا، جاء مغازيا في سبيل الله، "أقسمت عليك لتأخذنه"، فأخذه وخرج به من عنده، فأمر يزيد رجلا أن يتبعه فينظر ماذا يصنع بالتاج، فمر بسائل، فطلب السائل منه شيئاً لله، فأعطاه ابن واسع التاج بكماله وانصرف، هكذا بكل سهولة! فبعث يزيد إلى هذا السائل فأخذ منه التاج وعوضه عنه مالا كثيرا.
أيها الإخوة: إن عزة النفس على الباطل وارتفاعها عما يقلل من قيمتها فضيلة من الفضائل ترفع من قدر الإنسان، وإن مما يهين النفس ويهبط بالإنسان إلى الهوان الشعور بفقر النفس، ومن ثم الشعور بحاجتها إلى التذلل من أجل الدنيا، كالذين أغناهم الله ولكن نفوسهم ما زالت فقيرة، يقفون بزينتهم طوابير بالساعات على أبواب من يعطيهم ألفين من الريالات أو ثلاثة من الأمراء والوجهاء وغيرهم، من أجل هذا أهينوا! قد صح في البخاري من حديث أبي هريرة قوله -صلى الله عليه وسلم-: "لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ".
ومن ثم؛ فإن الإنسان قد يبدو في ظاهره عزيزا كريما ذا جاه وهو في الحقيقة فقير النفس في أذل حال، ولهذا قال صاحب المنار في تفسيره لقوله -تعالى-: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [آل عمران:26]، لا تلازم بين العز والملك؛ لأن الآية فرقت بين الملك والعز، فإيتاء الملك ليس بالضرورة إيتاء للعز، قال: (تُؤْتِي الْمُلْكَ)، ثم قال: (وَتُعِزُّ)، فلا تلازم بين الملك والعز، فقد يكون صاحب الملك والمال والجاه ذليلا إذا ساءت سياسته وفشل تدبيره واستعبدته أمواله ومصالحه، فأصبح ينفقها في غير محلها إرضاء للمخاليق في معصية الخالق، وانقلب فأصبح موطئا ومركبا لأهل الظلم والفساد، عزيزا مستكبرا على أهل الصلاح والطاعة، فهذا هو عين الذل، قال محمد رشيد رضا: "كم من ذليل في مظهر عز".
وكما قال -تعالى- في المنافقين: (يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ) [المنافقون:8]. قال ابن القيم: "إن المعصية تورث الذل ولا بد، فإن العز كل العز في طاعة الله"؛ ولذلك قال بعض السلف: "اللهم أعزني بطاعتك، ولا تذلني بمعصيتك"، وقال الحسن البصري: "إنهم وإن طقطقت بهم البغال، وهملجت بهم البراذين، إن ذل المعصية لا يفارق قلوبهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه".
فإن الإنسان إما أن يسمح لنفسه أن تعز وترتفع أو يرضى لها أن تذل وتنخفض، وقد قال -تعالى-: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاء) [الحج:18]، فالذي يهينه اللهُ -تعالى- لن يشفى أبداً، ولا شيء يرفع مَن خفضه الله -تعالى-: (وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ). وقد جاء في دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت".
وصح في مسلم من حديث أبي هريرة قوله -صلى الله عليه وسلم-: "بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا، أو يمسي مؤمنا ويصبح كافرا، يبيع دينه بعرض من الدنيا"، فبيع الدين من أجل الدنيا من أقبح أسباب الهبوط والتردي.
أسأل الله العفو والعافية وأن يرفعنا بذكره وعبادته.
أيها الإخوة: المظاهر تغر؛ فلنحرص على ما يرفعنا عند الله -تعالى-.