اللطيف
كلمة (اللطيف) في اللغة صفة مشبهة مشتقة من اللُّطف، وهو الرفق،...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - أركان الإيمان |
والرضا كلمة طيبة تزرع في قلوب طيبة التزامها عبادة، وثمرتها سعادة, ينزل على قلب العبد سكينةً لا تتنزّل عليه بغيره ولا أنفع له منها, والرضا يخلّص العبد من مخاصمة الرب في الشرائع والأحكام والأقضية, فإبليس لما أُمِر بالسجود عصى ورفض, كيف أسجد لبشرٍ خلقتَه من ترابٍ؟ فعدم الرضا من إبليس أدّى إلى اعتراضٍ على أمر الله...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي لم يزل بصفات الكمال متصفاً، جوادٌ كريم إذا وعد أنجز ووفى، تواب حليم إذا عُصي تجاوز وعفا، أحمده -سبحانه- وأشكره على ما بسط من آلائه وأوفى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له هو حسبي وكفى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، أزكى البرية أصلاً، وأعلى الأنام شرفاً، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه الأئمة الحنفاء السادة الخلفاء، والتابعين ومن تبعهم بإحسان وسار على نهجهم واقتفى.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله -عز وجل-، فمن اعتصم بتقوى الله وَقَتْهُ من كل نائبة.
عباد الله: إنها لحياة ربانية تلك التي يحياها القريبون من ربهم، يستعينون به في شتى شؤون حياتهم؛ يسلمون لقضائه، ويرضون بما يحصل لهم في دنياهم، ويقنعون بما آتاهم. ويستغنون بالله عما في الدنيا من متاع، فتراهم سعداء قريري العين مطمئنين مهما أصابهم، غير متصارعين على ما يتصارع عليه الناس، همهم رضوان الله، ويقينهم هو الرضا به -سبحانه-، فيفيض عليهم ببركاته التي لا يعلمها إلا هو، ويحيطهم برعايته وعونه ويؤنسهم بمعيته وفضله.
أيها الإخوة: لقد ذكرت منزلة الرضا في القرآن الكريم والسنة المشرفة، أما في القرآن فقد مدح ربنا الجليل -سبحانه- الجيل القرآني الفريد من الصحابة الكرام وأخبر أنه رضي عنهم وأنهم رضوا عنه، فقال تعالى: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة: 100].
وأخبر -سبحانه- عن رضاه عمن يسارعون في رضاه ويفعلون الخير لا يأملون إلا وجهه الكريم، فقال -سبحانه-: (لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) [النساء: 114]، فليس كل من تدخل لإصلاح ذات البين أو أمر بصدقة أو معروف ينال هذا الأجر، بل من فعل ذلك يرجو رضا الله مخلصًا له، فهذا الذي ينال الرضا والدرجات العلى.
وقد أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الرضا وخصال الراضين وجزائهم، فعن العباس بن عبد المطلب، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ذَاقَ طَعْمَ الإِيمَانِ، مَنْ رَضِيَ بِالله رَبّاً وَبِالإِسْلامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولا" [مسلم (34)]، فمن رضي بالله ربًّا مقسمًا للأرزاق ومشرِّعًا وحكَمًا عدلاً, ورضي بالإسلام منهجًا وشريعة، ورضي برسوله -صلى الله عليه وسلم- مبلّغًا ومبشرًا ونذيرًا واتبع سنته وأطاعه، فهذا الذي يجد لذة الإيمان وحلاوة الإيمان وتلك لمحات من ظلال الرضا وحياة المقربين.
عباد الله: إن الرضا يعني: سكون القلب إلى فاطره ومعبوده ومحبوبه، ورضاه عما اختاره الله له, فهو راضٍ بمحبوبه, راضٍ بما يناله من محبوبه.
ومن أعظم أسباب حصول الرضا: أن يلزم العبد ما جعل الله رضاه فيه، والرضا يتحقق بثلاثة أمور: باستواء الحالات عند العبد، وسقوط الخصومة مع الخلق، والخلاص من المسألة والإلحاح، فالراضي الموافق تستوي عنده الحالات من النعمة والبلية في رضاه بحسن اختيار الله له؛ لأنه مفوض، والمفوض راضٍ بكل ما اختاره الله له، ولأنه جازم بأن لا تبديل لكلمات الله ولا راد لحكمه، فالنعمة والبلية بقضاء سابق، وما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وهو عبد محض لا يسخط جريان أحكام سيده المشفق البار المحسن الناصح عليه، بل يتلقاها بالرضا به وعنه، ولأنه محب راضٍ بما يعامله به حبيبه، وهو جاهل بعواقب الأمور، وسيده أعلم بمصلحته وبما ينفعه، ولأنه لا يعرف مصلحة نفسه من كل وجه، وربه -سبحانه- يريد مصلحته، ويسوق إليه أسبابها, ومن أعظم أسبابها ما يكرهه العبد، فإن مصلحته فيما يكره أضعاف أضعاف مصلحته فيما يحب.
ولأنه عبد مسلم، والمسلم من قد سلم نفسه لله، ولم يعترض عليه في جريان أحكامه عليه، ولم يسخطه ذلك، ولأنه يعلم بأن قضاء الرب تعالى خير له، وعلمه أن تمام عبوديته في جريان ما يكرهه من الأحكام عليه, فلا تتم عبوديته لربه إلا بالصبر والشكر، والتوكل والرضا، فليس الشأن في الرضا بالقضاء الملائم للطبيعة، إنما الشأن في الرضا المؤلم المنافر للطبع، ولأنه يعلم أن رضاه عن ربه -سبحانه- في جميع الأحوال يثمر رضى ربه عنه.
فإذا رضي العبد عن ربه بالقليل من الرزق رضي ربه عنه بالقليل من العمل، ووجده أسرع شيء إلى رضاه إذا ترضاه وتملقه، ولأنه عارف بربه حسن الظن به، وذلك يوجب له استواء الحالات عنده، ورضاه بما يختاره له سيده -سبحانه-، ولأنه يعلم أن الرضا يوجب له الطمأنينة، وينزل عليه السكينة التي لا أنفع له منها، ومتى نزلت عليه السكينة استقام وصلحت حاله.
أيها الإخوة: ومقامات الدين تدور على أربعة أمور: الرضا بربوبية الله, والرضا بألوهيته, والرضا برسوله -صلى الله عليه وسلم- والانقياد له, والرضا بدينه والتسليم له, ومن اجتمعت فيه هذه الأربعة فهو الصديق حقاً.
فالرضا بربوبية الله يتضمن الرضا بتدبيره لعبده، وإفراده بالتوكل عليه، والاستعانة به، والثقة به، والرضا بكل ما يفعله به، والرضا بإلهيته يتضمن الرضا بمحبته وحده، وخوفه ورجائه، والإنابة إليه، والتبتل إليه، وذلك يتضمن عبادته، والإخلاص له؛ فالأول يتضمن رضا العبد بما يقدر عليه، والثاني يتضمن رضاه بما يؤمر به.
وأما الرضا بنبيه رسولاً فيتضمن كمال الانقياد له، والتسليم المطلق إليه، بحيث يكون أولى به من نفسه، فلا يتلقى الهدى إلا من مواقع كلماته، ولا يحاكم إلا إليه، ولا يحكّم عليه غيره، ولا يرضى بحكم غيره البتة، فعن أنس، قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا يؤمن أحدكم، حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين" [البخاري (15)].
وأما الرضا بدينه، فإذا قال -سبحانه- أو حكم، أو أمر أو نهى، رضي كل الرضا، ولم يبق بقلبه حرج من حكمه، وسلم له تسليماً ولو كان مخالفاً لمراد نفسه أو هواها كما قال -سبحانه-: ( فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [النساء: 65].
عباد الله: والرضا عن الله لا يصح -كما قدمنا- إلا بثلاثة شروط: الأول: استواء النعمة والبلية عند العبد, ومن هذا الباب ما حدث مع بعض السلف حين ابتلوا بالشدائد فصبروا لها، وظهر منهم الرضا، فهذا عمر بن عبد العزيز يموت ولده عبد الملك فيدخل عليه سليمان بن الغاز معزيًّا، فيقول له عمر: "وأنا أعوذ بالله أن يكون لي محبةٌ في شيء من الأمور يخالف محبة الله، فإن ذلك لا يصلح لي في بلائه عندي وإحسانه إليَّ". وعن إبراهيم النخعي: "أن أم الأسود أُقعدت من رجليها، فجزعت ابنة لها، فقالت: لا تجزعي، اللهم إن كان خيرًا فَزِدْ".
الثاني: سقوط الخصومة عن الخلق إلا فيما كان حقًّا لله ورسوله، فالمخاصمة لحظ النفس تطفئ نور الرضا وتُذهب بهجته، وتُبدِّل بالمرارة حلاوته، وتُكدِّر صَفْوه.
الثالث: الخلاص من الإلحاح في مسألة الخلق، قال الله -تعالى-: (يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافاً) [البقرة:273]. عن ثوبان -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من يتقبل لي بواحدة وأتقبل له بالجنة قال: قلت: أنا قال: لا تسأل الناس شيئاً". فكان ثوبان يقع سوطه وهو راكب فلا يقول لأحد: ناولنيه حتى ينزل فيتناوله" [ ابن ماجه(1837) وصححه الألباني].
أيها الإخوة: وجميع ما في الكون أوجبته مشيئة الله، فهو موجب لأسماء الله وصفاته، فمن لم يرض بما رضي به ربه لم يرض بأسمائه وصفاته، وكل قدر يكرهه العبد ولا يلائمه فلا يخلو من أمرين: إما أن يكون عقوبة على الذنب، فهو دواء لمرض لولا تدارك الحكيم إياه بالدواء لترامى به المرض إلى الهلاك، أو يكون سبباً لنعمة لا تنال إلا بذلك المكروه، فالمكروه ينقطع، وما ترتب عليه من النعمة دائم لا ينقطع، فإذا شهد العبد هذين الأمرين انفتح له باب الرضا عن ربه في كل ما يقضيه ويقدره له.
ولا يقضي الله لعبده قضاءً إلا كان خيراً له، فقضاؤه لعبده المؤمن المنع عطاءً وإن كان في صورة المنع نعمة، وإن كان في صورة محنة، وبلاؤه عافية وإن كان في صورة بلية، ولكن لجهل العبد وظلمه لا يعد العطاء والنعمة والعافية إلا ما التذ به في العاجل، وكان ملائماً لطبعه، ولو عرف ربه لعد المنع نعمة، والبلاء رحمة.
فالراضي: هو الذي يعد نعم الله عليه فيما يكرهه أكثر وأعظم من نعمه عليه فيما يحبه، وإذا علم العبد أن ربه -عز وجل- تفرد بالخلق، وتفرد بالاختيار والتدبير، وليس للعبد شيء من ذلك، فإن الأمر كله لله، فإذا عرف ذلك لم يكن له غير الرضا بمواقع الأقدار من ربه.
أيها المسلمون: إن رضا الله -سبحانه- عن العبد أكبر من الجنة وما فيها؛ لأن الرضا صفة الله، والجنة خلقه، وهذا الرضا جزاء على رضا المؤمنين عنه في الدنيا، ولما كان هذا الجزاء أفضل الجزاء كان سببه أفضل الأعمال كما قال -سبحانه-: (وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة: 72].
والمحبة لله، والإخلاص له، والإنابة إليه، لا تقوم إلا على ساق الرضا، فالمحب راضي عن حبيبه في كل حالة، والرب -عز وجل- شكور، إذا وصل إليه عمل عبده جمل به ظاهره وباطنه، وأثابه عليه من حقائق المعرفة والإيمان بحسب عمله، وأعمال الجوارح تضاعف إلى حد معلوم محسوب، وأما أعمال القلوب فلا ينتهي تضعيفها، فهي دائمة متصلة، وإن توارى شهود العبد لها، والله -عز وجل- ينظر إلى القلوب والهمم والعزائم لا إلى صور الأعمال.
ودرجات الرضا ثلاث: الرضا بالله رباً, والرضا عن الله، وهو الرضا عنه في كل ما قضى وقدر؛ فالرضا به متعلق بأسمائه وصفاته، والرضا عنه متعلق بثوابه وجزائه. والرضا برضا الله، فيغيب برضى ربه عن رضاه هو (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي) [الفجر: 27 - 30]، والمؤمن الموفق من باع نفسه وأرخصها وبذلها طلباً لمرضاة الله، ورجاءً لثوابه، فمن بذلها للعلي والوفي الرؤوف بالعباد، استحق رضاه، وفاز بجنته: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ) [البقرة: 207]، وقال في الصدقات، قال تعالى: (وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ) [البقرة: 265].
عباد الله: والرضا نوعان: رضاً مشروع, وهو نوعان: أحدهما: الرضا بفعل ما أمر الله به، وترك ما نهى الله عنه، ويتناول ما أباحه الله من غير تعد إلى المحظور كما قال -سبحانه-: (فاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ) [التوبة: 62]. والثاني: الرضا بالمصائب كالفقر والرضى والذل، فهذا الرضا مستحب، فإن لم يكن فلا أقل من الصبر.
ورضا غير المشروع وهو الرضا بالكفر والفسوق والعصيان, فلا يرضى العبد بذلك؛ لأن الله لا يرضاه، ولا يحبه كما قال -سبحانه-: (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ) [الزمر: 7]، فهذا مع أن الله أراده وقدره فهو لا يحبه ولا يرضاه.
والمؤمن مأمور باتباع ما يحبه الله ويرضاه دون ما يقضيه ويقدره من الكفر والفسوق والعصيان، وأن يرضى بما أصابه من المصائب لا بما فعله من المعائب.
والرضا دليل على سلامة القلب وصفاء الروح وحب الله -عز وجل- فمن أحب الله، أحب ما قدره -سبحانه- له فالله -عز وجل- أعلم وأحكم بمصلحة عباده قال تعالى: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) [البقرة: 216].
عبدالله: كن لله كما يريد، يكن الله لك فوق ما تريد فالكل يريدك لنفسه إلا الله، يريدك لنفسك, بالرضا تقطف زهرة السعادة التي سقيتها بالرضا وكبرت بحب الله -عز وجل-؛ لتتذوق حلاوة الايمان قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من قال: رضيت بالله ربًّا، وبالإسلام دينا وبمحمد -صلى الله عليه وسلم- رسولا، وجبت له الجنة" [أبو داود (1529) وصححه الألباني].
اللهم ارزقنا الرضا وتمام الرضا، واغفر لنا يا رب العالمين فيما مضى، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي له ملك السماوات والأرض وما فيهن وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له نعم المولى ونعم النصير، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله البشير النذير والسراج المنير صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم المعاد والمصير وسلم تسليمًا.
عباد الله: إن رضا الله تعالى عن العبد هو أسمى منزلة وأرفع رتبة وأعظم منحة قال تعالى: (وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة: 72] فرضوان رب الجنة أعلى من الجنة, بل هو غاية مطلب سكان الجنة كما أخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "إن الله يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة! يقولون: لبيك ربنا وسعديك، فيقول: هل رضيتم، فيقولون: وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعطِ أحداً من خلقك فيقول: أنا أعطيكم أفضل من ذلك. قالوا: يا رب وأي شيءٍ أفضل من ذلك؟ فيقول: أُحِلَّ عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً" [البخاري (6549) ومسلم (2829)]. فما أجمل تلك اللحظات، وما أجمل ذلك اليوم إنها ثمرة الرضا بالله في الدنيا.
أيها الإخوة: الرضا جنة العارفين لذا لما قدم سعد بن أبي وقاص إلى مكة، وكان قد كُفَّ بصره، فجاءه الناس يهرعون إليه، كل واحد يسأله أن يدعو له، فيدعو لهذا ولهذا، وكان مجاب الدعوة. قال عبد الله بن السائب: "فأتيته وأنا غلام، فتعرفت عليه فعرفني وقال: أنت قارئ أهل مكة ؟ قلت: نعم. فقلت له: يا عم، أنت تدعو للناس فلو دعوت لنفسك، فردَّ الله عليك بصرك. فتبسم وقال: يا بُنَيّ قضاء الله -سبحانه- عندي أحسن من بصري".
إنه الرضا الذي وطَّنوا أنفسهم عليه، بحيث صارت أقدار الله -عز وجل- أحبَّ إليهم من هوى أنفسهم، بل صاروا لا يهوون غيرها، حتى قال عمر بن عبد العزيز -رحمه الله-: "ما لي هوىً في شيء سوى ما قضى الله -عز وجل-".
ومما يدل على علوِّ قدر الرضا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سأل الله الرضا بالقضاء، ومعلوم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يسال ربه إلا أعلى المقامات.
وقد كان السلف -رضي الله عنهم- يتواصون بالرضا وتربية النفس عليه، لعلمهم بعلو منزلته، فهذا عمر الفاروق -رضي الله عنه- يكتب إلى أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- فيقول: "أما بعد، فإن الخير كله في الرضا، فإن استطعت أن ترضى وإلا فاصبر".
وكان من وصايا لقمان -عليه السلام- لولده: "أوصيك بخصال تقربك من الله وتباعدك من سخطه: أن تعبد الله لا تشرك به شيئًا، وأن ترضى بقدر الله فيما أحببت وكرهت".
عباد الله: والرضا ذروة سنام الإيمان: قال أبو الدرداء -رضي الله عنه-: "ذروة سنام الإيمان أربع خلال: الصبر للحكم، والرضا بالقدر، والإخلاص للتوكل، والاستسلام للرب -عز وجل-". وقال ابن القيم -رحمه الله-: "الرضا من أعمال القلوب، نظير الجهاد الذي هو من أعمال الجوارح، فإن كل واحد منهما ذروة سنام الإيمان".
والرضا كلمة طيبة تزرع في قلوب طيبة التزامها عبادة، وثمرتها سعادة, ينزل على قلب العبد سكينةً لا تتنزّل عليه بغيره ولا أنفع له منها, والرضا يخلّص العبد من مخاصمة الرب في الشرائع والأحكام والأقضية, فإبليس لما أُمِر بالسجود عصى ورفض, كيف أسجد لبشرٍ خلقتَه من ترابٍ؟ فعدم الرضا من إبليس أدّى إلى اعتراضٍ على أمر الله, فإذاً منافقو عصرنا الذين لا يرضون بحكم الله في الربا والحجاب وتعدّد الزوجات في كل مقالاتهم هم في مخاصمةٍ مع الرب -سبحانه-, لماذا ؟! كلامهم يدور على مخاصمة الرب في شرعه وإن لم يصرّحوا بهذا! فالرضا يخلّص الإنسان من هذه المخاصمة.
والرضا عن الرب -عز وجل- في جميع الحالات يثبت الأقدام في مقام العبودية، والسخط يوجب التلون، ويفتح عليه باب الشك في الله وفي قضائه وقدره وحكمته وعلمه، والرضا بالقضاء يوجب له السعادة، والتسخط على القضاء من أسباب الشقاوة.
والرضا يوجب للعبد أن لا ييأس على ما فاته، ولا يفرح بما أتاه، وذلك أفضل الإيمان، والرضا بالقدر يفرغ القلب لله، والسخط يفرغ القلب من الله، ومن ملأ قلبه من الرضا بالقدر ملأ صدره غنىً وأمناً وقناعة، وفرغ قلبه لمحبته.
والرضا يثمر الشكر الذي هو أعلى مقامات الإيمان، وينفي عنه آفات الحرص على الدنيا. والرضا يخرج الهوى من قلب المؤمن، فالراضي هواه تبع لمراد ربه منه مما يحبه الله ويرضاه. والرضا عن الله يثمر للعبد رضا الله عنه، والراضي متلق أوامر ربه الدينية والقدرية بالانشراح والتسليم.
الرضا يقي من الهمّ والغمّ والحزن وشتات القلب وكسف البال وسوء الحال، ولذلك فإن باب جنة الدنيا يفتَح بالرضا قبل جنة الآخرة؛ فالرضا يوجب طمأنينة القلب وبَرْده وسكونه وقراره بعكس السخط الذي يؤدي إلى اضطراب القلب وريبته وانزعاجه وعدم قراره.
الرضا من العدل, الرضا يُشْعِر العبد بعدل الرب, ولذلك كان -صلى الله عليه وسلم- يقول: "عدلٌ فيَّ قضاؤك". والذي لا يشعر بعدل الرب فهو جائرٌ ظالمٌ، فالله أعدل العادلين حتى في العقوبات, فقطع يد السارق عقوبةٌ، فالله عدَل في قضائه وعقوباته فلا يُعْتَرض عليه لا في قضائه ولا في عقوباته.
الرضا يفتح باب السلامة من الغشّ والحقد والحسد؛ لأن المرء إذا لم يرضَ بقسمة الله سيبقى ينظر إلى فلانٍ وفلانٍ, فيبقى دائماً عينه ضيقةٌ وحاسدٌ ومتمنٍّ زوال نعمة الآخرين, والسخط يدخل هذه الأشياء في قلب صاحبه, الرضا يجعلك لا تشكّ في قضاء الله وقدره وحكمته وعلمه, فتكون مستسلماً لأمره معتقداً أنه حكيمٌ مهما حصل, لكن الإنسان الساخط يشكّ ويوسوس له الشيطان ما الحكمة هنا وهنا؟!! ولذلك فإن الرضا واليقين أخوان مصطحبان, والسخط والشكّ توأمان متلاصقان.
والطاعات كلها أصلها من الرضا، والمعاصي كلها أصلها من عدم الرضا، وعدم الرضا يفتح باب البدعة، والرضا يغلق ذلك الباب عنه. ولو تأمل العبد جميع البدع لرآها ناشئة من عدم الرضا بالحكم الكوني، أو الديني، أو كليهما.
اللهم ارزقنا الرضا بقضائك وقدرك وشرعك ودينك، وارض عنا يا رب العالمين، واهدنا وأصلح أحوالنا، اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق والأعمال لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنها سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت، اللهم وفقنا لفعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين، وأن تغفر لنا وترحمنا وإن أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين، اللهم إنا نسألك حبك، وحب من أحبك وحب عمل يقربنا إلى حبك.