الحميد
(الحمد) في اللغة هو الثناء، والفرقُ بينه وبين (الشكر): أن (الحمد)...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | أركان الإيمان - التوحيد |
والهادي -سبحانه- هو الذي غرس في الفطرة السوية معرفة الصحيح من الخطأ، والنافع من الضار، ومعرفة طريق الخير من طريق الشر، يهدي ويرشد عباده إلى جميع المنافع وإلى دفع المضار، ويعلّمهم ما لا يعلمون، غرس الهادي -سبحانه- في كل مخلوقاته وكائناته فطرة نقية ترشدهم إلى ما يصلح معيشتهم...
الخطبة الأولى:
إنَّ الحمدَ لله نحمدُه ونستعينه ونستغفره، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَنْ يَهْدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له ومَنْ يُضْلِل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله, اللهم صلِّ على سيدنا محمد النبي، وأزواجِه أمهاتِ المؤمنين، وذرِّيته وأهل بيته، كما صليتَ على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70، 71].
أما بعدُ: فإنَّ أصدقَ الحديث كتابُ الله تعالى، وخيرَ الهدي هديُ محمد صلى الله عليه وسلم، وشرَّ الأمور مُحْدثاتُها، وكلَّ محدَثة بدعةٌ، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. [حديث خطبة الحاجة أخرجه أبو داود (2118) وصححه الألباني].
يا عباد الله: اتقوا الله حق تقاته، واحذوا من الفتن المضلة، واعلموا أنه لا عاصم من الضلال، ولا منجي من الفتن، ولا هادي إلا الله، فاطلبوا الهداية من ربكم، واعلموا أن ربكم كريم -سبحانه-، من تقرب إليه آواه، ومن سلك سبيله وقاه، ومن طلب منه أعطاه، ومن أطاعه هداه ووفقه ورعاه.
أيها المسلمون: هدى الله -تبارك وتعالى- كل مخلوقاته لما ينفعهم، فهدى كل مخلوق لما يصلحه في معيشته، ومطعمه، ومشربه، ومنكحه، وتقلبه، وتصرفه بإرادته، وخصَّ كل عضو بهداية تليق به؛ فقد هدى الرِّجْلين للمشي، واليدين للبطش والعمل، واللسان للكلام، والأذن للاستماع، والعين لكشف المرئيات، وكل عضو هداه لما خُلق له، وهدى الزوجين من كل حيوان إلى الازدواج والتناسل، وتربية الولد، وهدى الوليد إلى معرفة أمه دون غيرها فيتبعها أينما ذهبت، وهدى الطير إلى ما ينفعه من المراعي دون ما يضرّه منها، وهدى الطير والوحش إلى الأفعال العجيبة التي يعجز عنها الإنسان. فسبحان من أعطى كل شيء خلقه ثم هداه ووفقه وأرشده.
ولا شك -إخواني- أن شرف العلم يُعرف بشرف المعلوم، وليس ثمة معلوم أشرف من الله -جلَّ جلاله-؛ إذ هو المتصف بصفات الكمال، المنزه عن صفات النقص، وما عرف العارفون، ولا ذكر الذاكرون، أشرف ولا أجلّ من الخالق -سبحانه وتعالى-. لذلك كان العلم بالله من أجلّ العلوم وأعظمها، بل هو أعظمها على الإطلاق، والقرآن الكريم لا تكاد تخلو آية من آياته من صفة لله -سبحانه-، أو اسم من أسمائه الحسنى، وهذه مِنَّة مَنَّ الله بها على عباده؛ إذ عرّفهم بنفسه -جل وعلا-، حتى تكون عبادتهم له على علم وبصيرة.
أيها المؤمنون: وقد غرس الله -سبحانه- في الفطرة البشرية معرفة الله والتعلق به، ومحبته، قال الله الهادي: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ) [الأعراف: 172]، إن كل لحظة تعبد الله فيها أو تشتاق فيها له، وكل دمعة عين، كل تسبيحة، كل تحميدة، كل مرة تقول: لا إله إلا الله، كان سببه الفطرة التي فطرك الله الهادي عليها.
أيها المسلمون: ربما يكون المسلم أشد حاجة إلى هداية الله وتوفيقه أكثر من حاجته للطعام والشراب، ولذلك أرشدنا ربنا -تبارك وتعالى- في آية عظيمة يقرؤها المؤمن المصلي في كل صلاة بل في كل ركعة أن نحرص بصدق على طلب الهداية من الله وحده، وأن نحذر -خائفين وجلين- من مصير من ضلوا عن جهلٍ، أو غُضب عليهم؛ بسبب عنادهم وإصرارهم على الغي والباطل، قال تعالى: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) [الفاتحة: 6]. وهذا الدعاء من أنفع أدعية القرآن، فمن هداه الله وفَّقه ونجاه من مضلات الفتن، بخلاف من ضلَّ واتبع هواه، نسأل الله لنا ولكم الهداية والتوفيق.
عباد الله: لقد أثنى الله -تبارك وتعالى- على ذاته العلية، فوصف نفسه بأنه الهادي، قال تعالى: (وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا) [الفرقان: 31]، وقال -جل وعلا-: (وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [الحج: 54]، وقال -تبارك وتعالى-: (وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى) [الأعلى: 3]. ونفى أن يكون سواه هاديًا للخلق, قال -سبحانه-: (مَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ) [الأعراف: 186].
أيها المسلمون: وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يعلّم أصحابه أن يطلبوا الهداية من الله وحده؛ إذ هو مالكها -سبحانه-، ومن ذلك ما ثبت عن أَبِي ذَرٍّ -رضي الله عنه-، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فِيمَا يرويه عَنِ ربه َتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: "يَا عِبَادِي! كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ..." [مسلم (2577)]. فالبشر فيهم شيء من الضلال، وفيهم شهوات الغي، وفي أنفسهم شبهات، لا نجاة من ذلك كله إلا بهداية الله تعالى.
وقد أدرك النبي -عليه الصلاة والسلام- أن الهداية من الله تُستجلب، وهو الذي يعطيها -سبحانه- لمن يشاء من خلقه، فعن عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ -رضي الله عنها- قالت: كَانَ نَبِيُّ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ افْتَتَحَ صَلَاتَهُ قائلاً: "اللهُمَّ رَبَّ جَبْرَائِيلَ، وَمِيكَائِيلَ، وَإِسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ، إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ" [مسلم(770)]. فكان يدعو بذلك -صلى الله عليه وسلم-، ويسأل الله الهداية والتوفيق؛ لعلمه -صلى الله عليه وسلم- أن الهادي -سبحانه- هو المرشد لعباده وجميع خلقه، الدالّ لهم على الخير.
يا عباد الله: والهادي لغةً: هو الدليل والمرشد، والذي يدل على طريق الخير برفق. والهادي -سبحانه- هو الذي هدى ومنَّ بهدايته على من يشاء من عباده، وقد دلَّ خلقه على معرفته بربوبيته وأسمائه وصفاته وألوهيته، ودلّهم على سبيل النجاة، وهو الإسلام واتباع الرسول، ويهديهم بهداية التوفيق والتسديد، ويلهمهم التقوى، ويجعل قلوبهم منيبة إليه، منقادة لأمره.
وهذه هي هداية الإيمان، ومعناها أن يدلك الله على طريقه، وهذه لا تحصل لكلّ المخلوقات, ولا لكل البشر، بل لا يحصل عليها إلا من شاء الله أن يحصل عليها, فهي مرتبطة بمشيئة الله، وإرادته, قال تعالى: (قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [البقرة:142]، وقال -جل وعلا-: (فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [البقرة:213], وقال -سبحانه-: (لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) [البقرة:272], فهي لأهل الإيمان والصلاح، ومن أراد الله به الخير، فسلك طريقها. وهي منفية عن القوم الظالمين, والقوم المجرمين والكافرين والفاسقين، فالله لا يهدي كيد الخائنين, و(لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ)[الزمر:3], و(لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ)[غافر: 28].
وإياكم -إخوتاه- وطلب الهداية من غير الله -سبحانه-، فلا يملك أحد من البشر نفعًا ولا ضرًّا لغيره ولا هداية له، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- لا يملك هداية الخلق؛ لأن هداية الإيمان والتوفيق لا تكون إلا لله -سبحانه-, قال تعالى: (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) [القصص:56], ولكنّه -صلى الله عليه وسلم- يملك هداية الدلالة والإرشاد كما قال تعالى: (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [الشورى: 52].
والله -تبارك وتعالى- وحده هو الذي يهدي عباده هداية التوفيق؛ إذ يهدي الله العبد بعد الإيمان لتحصيل مزيد من الإيمان والخير والعمل الصالح، قال تعالى: (وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً...) [مريم: 76]، وقال -جل وعلا-: (...إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً) [الكهف: 13]، كما يهدي الله عباده هداية إلى طريق الجنة، قال الله -سبحانه-: (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ) [الأعراف: 43].
والهادي -سبحانه- هو الذي غرس في الفطرة السوية معرفة الصحيح من الخطأ، والنافع من الضار، ومعرفة طريق الخير من طريق الشر، يهدي ويرشد عباده إلى جميع المنافع وإلى دفع المضار، ويعلّمهم ما لا يعلمون، غرس الهادي -سبحانه- في كل مخلوقاته وكائناته فطرة نقية ترشدهم إلى ما يصلح معيشتهم، فكل مخلوق خلقه الله له نصيب من هذه الهداية.
عباد الله: كل من يبحث عن طريق الهداية وأسبابها، فليعلم أن من أهم الوسائل التي جعلها الله سببًا للهداية ونورًا وموعظة كتابَ الله الهادي، قال ربنا تعالى: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ...) [الإسراء: 9]، وقال لنبيّه ومصطفاه: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْإيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا) [الشورى:52].
ولقد شهدت الجن بهداية القرآن, فحين استمعوا إلى تلاوة النبي -صلى الله عليه وسلم- رجعوا إلى أقوامهم فقالوا: (...إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ) [الأحقاف:30], ولم يكتفوا بهذا بل آمنوا به؛ لإدراكهم هدايته، قال تعالى: (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ) [الجن: 2].
أيها المسلمون: إن هذا القرآن الكريم يرشد الناس ويدلهم ويهديهم -في جميع شئونهم الدينية والدنيوية- إلى الملة التي هي أقوم الملل وأعدلها؛ ملة الإسلام، فهو يهدي للتي هي أكثر استقامة وسلامًا، ويهدي لأعدل العقائد والأعمال والأخلاق، فمن اهتدى بما يدعو إليه القرآن؛ كان أكمل الناس وأقومهم وأهداهم في جميع أموره، فمنهم من يستجيب لهذه الهداية، فيظفر بالسعادة، ومنهم من يُعرض عنها فيبوء بالشقاء, قال تعالى: (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [المائدة:15-16].
أيها المؤمنون: إن الله -سبحانه وتعالى- برحمته جعل لكل عبدٍ طريقين ليصل إلى ربه، وليكون من المهتدين، ألا وهما: العقل والوحي، فالعقل يرشده إلى النظر والتدبر في الكون، ولكن كيف ستعرف منهج الله ومراده؟ لا يكون ذلك إلا بالوحي، فغرس في فطرتك الهداية، ثم أعطاك العقل، وهذا يمثّل تكاملاً بين العقل والوحي؟ فأنت إن عرفت الله عن طريق الكون، فأنت محتاج إلى منهج يكون عن طريق كتاب يهديك إلى الطريق.
أيها المسلمون: ولا ينبغي للمسلم أن يحرص على هداية ونجاة نفسه فقط، بل يدعو غيره، وإن من أهم الوسائل المساعدة على هداية وإصلاح الناس: الدعوةَ إلى الله تعالى، وتدبر معي -أخي- كلام الإمام ابن القيم -رحمه الله- حيث يقول: "اعلم أن أعلى مقامات العبودية مقام الدعوة إلى الله؛ لأنه مقام الأنبياء, ولأنهم يدلون على الله، فهم أحبابه وأقرب الناس إليه؛ لأنهم يدلون على الهادي -سبحانه-".
ولقد كان من عظيم فضل الله -سبحانه- أن سخَّر كل هذه الوسائل حتى لا يكون لأحدٍ حجةٌ على الله، أنه لم تصله طرق الهداية، حتى أرشد الله موسى -عليه السلام- أن يدعو فرعون برفق؛ ليقطع عليه العذر، ويقيم عليه الحجة، فالهادي -سبحانه- يطلب من عباده أن يأخذوا بأيدي الناس إلى شرعه ودينه، برفق ولين، والثمن كما جاء عن سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ -رضي الله عنه-، أنه سَمِعَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ لعليٍّ -رضي الله عنه- يوم خيبر: "فَوَاللَّهِ لَأَنْ يُهْدَى بِكَ رَجُلٌ وَاحِدٌ خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ" [البخاري (2942)].
وعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم: "مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ" [مسلم (1893)]، فالذي يهتدي على يديك أو عن طريق إرشادك له على الخير، لك مثل حسناته في ميزانك يوم القيامة.
اللهم اهدنا، واهد بنا، واجعلنا سببًا لمن اهتدى، نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم وبما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
عباد الله: عظّموا ربكم واتقوه، واستهدوه يهدكم، فإن الله رب العالمين مَنَّ على خلقه فأعطى كل شيء خَلْقه، ثم هداه لما يُصلحه، فهل يستطيع أحد في العالم، أو أي كيان أو منظمة، أو مؤسسة، أو هيئة علمية، أن تدعي وتزعم أنها هي التي أعطت كل شيء خلقه ثم هدَت؟ لا، وألف لا، بل في كل مخلوق من مخلوقات الله تعالى آية، وفي كل حي حِكَم وأسرار، وفي كل دابة طرق هداية.
فملكة النمل -مثلاً- تنتج عددًا ضخمًا من البيوض يُقدر بالملايين، ومن رحمة الله بالبيوض الضعيفة والصغيرة والتي لا نكاد نشعر بوجودها أنه زوَّد النملة بمواد مطهرة ومعقمة تخرج من قنوات دقيقة تفرزها، لتحفظ هذه البيوض سليمة من أي بكتريا أو مكروه قد يصيبها.
والسؤال-إخوتي في الله- مَن الذي زوَّد هذه النملة بهذه المادة، ومن الذي سخَّر لها الطريق عبر شبكة أنابيب دقيقة لتفرزها، ومن الذي هداها، وعلّمها، وأخبرها أن هذه المادة يجب أن تعقّم بها بيوضها؟ فسبحان القائل في كتابه وعلى لسان نبيه موسى -عليه السلام- مخاطبًا فرعون عندما سأله من ربُّك يا موسى؟ (قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) [طه: 50].
إن النمل بنّاء ماهر وذكي جدًّا، فتأمل كيف يرفع النمل مدخل الجُحْر فوق مستوى سطح الأرض؛ خوفًا من الأمطار والمياه، مع العلم أن العشّ تحت سطح التراب، بينما المدخل يكون مرتفعا ظاهرًا!.
فسبحان الذي خلق النملة تهتدي إلى قدوم فصل الشتاء؛ حيث الأمطار والبرد، فتدخِّر قُوتَها من الصيف في مخازن تحت الأرض، حتى إذا جاء فصل الشتاء، كان عندها ما تعيش عليه، بل هداها الله إلى ما هو أبعد وأعجب من هذا! وهو أنها إذا خافت أن تنبت الحبوب التي خزَّنتها، قسمتها نصفين؛ لئلا تنبت، فمن علّمها؟ ومن بصَّرها؟ -سبحانه- الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى.
وانظروا -إخواني- إلى الثعلب إذا اشتد به الجوع، انتفخ ورمى بنفسه في الصحراء كأنه جيفة فتحوم به الطير، فلا يُظهِر حركة ولا نفَسًا، فلا تشك أنه ميت، حتى إذا نقرته الطيور بمنقارها، وثب عليها فضمّها ضمة الموت، فمن علَّمه؟ ومن هداه؟! سبحان الهادي.
أيها المسلمون: وإن من رحمة الهادي -سبحانه- ولطفه بعباده أن الله -سبحانه- لا يعذّب أحدًا حتى يقيم عليه الحجّة، قال تعالى: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ) [القصص: 59].
ولا ينبغي للمسلم أن يغفل عن عِظَم الأجر العظيم المترتب على من قام بدعوة العباد، وتعريفهم طريق الهداية، وتعليمهم العلم النافع، فعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ -رضي الله عنه-، أنه سَمِعَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-، يَقُولُ لعليٍّ -رضي الله عنه- يوم خيبر: "فَوَاللَّهِ لَأَنْ يُهْدَى بِكَ رَجُلٌ وَاحِدٌ خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ" [البخاري (2942)]، كما أن الله -تبارك وتعالى- جعل الدعوة إليه, والسعي في هداية الناس هو أحسن القول وأجمله، قال تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [فصلت: 33].
يا عباد الله: يجب على العبد الموفق أن يتواضع لهداية الله -تبارك وتعالى-، ولا يغتر بعمله الصالح، فهو محض فضل وتوفيق من الله -سبحانه-، ولو شاء أن تكون غير ذلك لكنت، وليس لك أدنى فضل في ذلك، فلا حول ولا قوة إلا بالله، كما ينبغي لك -أخي الفاضل- أن تملأ قلبك رجاء وتفاؤلاً بقدرة الله على إصلاحك وهدايتك، واحذر أن تيأس أبدًا، فربك هو الهادي، ولا تشمت بالآخرين ممن لم يمن الله عليهم بالهداية، وترفق بهم, قال الله: (كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا) [النساء: 94].
ولا تعجب بعملك، وتتكبر على من دونك في الطاعة، أو من هم مبتلون بالمعاصي, فقد ورد في حديث وَاثِلَة بْنِ الأَسْقَعِ -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لَا تُظْهِرِ الشَّمَاتَةَ لِأَخِيكَ فَيَرْحَمَهُ اللَّهُ وَيَبْتَلِيكَ" [السلسلة الضعيفة (5426)] فربك الهادي ربما هداه، فأصلح حاله، فأصبح خيرًا عند الله منك، فالهداية فضل من الله ومنة يمنّها على من يشاء.
واسمع لهذا الحديث العجيب، عن أَبي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "كَانَ رَجُلاَنِ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ مُتَآخِيَيْنِ، فَكَانَ أَحَدُهُمَا يُذْنِبُ وَالآخَرُ مُجْتَهِدٌ فِي الْعِبَادَةِ، فَكَانَ لاَ يَزَالُ الْمُجْتَهِدُ يَرَى الآخَرَ عَلَى الذَّنْبِ، فَيَقُولُ: أَقْصِرْ. فَوَجَدَهُ يَوْمًا عَلَى ذَنْبٍ، فَقَالَ لَهُ: أَقْصِرْ، فَقَالَ خَلِّنِي وَرَبِّي، أَبُعِثْتَ عَلَيَّ رَقِيبًا، فَقَالَ: وَاللَّهِ لاَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ، أَوْ لاَ يُدْخِلُكَ اللَّهُ الْجَنَّةَ. فَقُبِضَ أَرْوَاحُهُمَا فَاجْتَمَعَا عِنْدَ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَقَالَ لِهَذَا الْمُجْتَهِدِ: أَكُنْتَ بِي عَالِمًا، أَوْ كُنْتَ عَلَى مَا فِي يَدِي قَادِرًا، وَقَالَ لِلْمُذْنِبِ: اذْهَبْ فَادْخُلِ الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِي، وَقَالَ لِلآخَرِ: اذْهَبُوا بِهِ إِلَى النَّارِ". قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَوْبَقَتْ دُنْيَاهُ وَآخِرَتَهُ. [أبو داود 4901 وصححه الألباني]. نعم تكلم بكلمة أفسدت عليه دنياه وآخرته، فالرفق في دعوة الناس سبيل نجاة للنفس والآخرين.
ولا تيأس -أخي الحبيب- من دعوة الآخرين ولا تملّ من تباطؤهم في القبول، ولكن ادع بالحكمة والموعظة الحسنة، واسأل الله أن يهدي عباده، وأن يجعلهم كما يحب ويرضى، فلن تفلح في شيء إلا باستعانتك به، وهذا ما علمناه -عليه الصلاة والسلام-، فعَنْ عَبْدِ اللهِ بن مسعود -رضي الله عنه- أن النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَقُولُ: "اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى، وَالْعَفَافَ وَالْغِنَى" [مسلم (2721)]، فأي ثواب إن اختارك الهادي حتى تدل الناس عليه؟ وتلقاه يوم القيامة بذنوبك، فيشفع لك أنك كنت تدلّ الناس على ربهم. كيف سيكون مقامك؟ وكذا عليك ألا تملّ من طلب الهداية من الله والتوفيق والسداد والرشاد، فنحن أحوج إلى هداية الدلالة والإرشاد والتوفيق ربما أكثر من المال والولد والدنيا كلها.
وختامًا -يا عباد الله- لماذا لا نفكّر -نحن العصاة والحيارى- في تدبير الله لنا؟ إن الهادي يدل عباده على الهداية بالفطرة التي فطرهم عليها، وبالقرآن، وبالكون، وبدعاة يهدونك، كذلك يدلك عليه بأفضاله ومِننه ونِعمه، وكل منا كان سبب هدايته، إما سماع آية، أو حديث، أو قصة، أو ابتلاء، أو محاضرة، أو حدث معين، فهو يعرض عليك نعمة الهداية مرارًا وتكرارًا، ولو وقفت بين يديه وعلم صدق لجوئك وطلبك لهداك، ولكن ابدأ بإزاحة الغبار عن قلبك: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [المطففين: 14].
واحذروا -عباد الله- من أن تغلقوا على أنفسكم طرق الهداية بالذنوب والمعاصي، فما يزال الذنب على الذنب حتى يعمى القلب (وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ...) [الروم: 53]. والجأ -عبد الله- إلى ربك، وقِفْ على بابه، وارْجُ جنابَه، واعتصم به، وسلْهُ التوفيق والإعانة، فهو -سبحانه- تواب رحيم ودود.
والعجيب أننا بعد هذا كله قد نجد البعض يتباطأ عن فعل الخير وسلوك طريق الهداية؛ زاعمًا أن الله لم يهده، رغم أن الطريق واضح منذ أن خُلقت -أيها التائه- فقد أَشهدك قبل أن تُخلق، وفطَرك على الفطرة السليمة أساس الدين وقاعدته، وأنزل إليك القرآن، وأرسل إليك الرسل، وسخّر إليك أناسًا لدعوتك، فهل هناك حجة بعد كل هذا لمن هو بعيد عن الله بأن الله لم يأذن له بالهداية؟!.
اللهم اهدنا، واهد بنا، واجعلنا سببًا لمن اهتدى، اللهم اهدنا فلا نضل، اللهم ارزقنا التعظيم لك، والثقة بك، والتوكل عليك، والرضا بك، والطمأنينة بك، والأنس بذكرك، اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت على الحق أقدامنا، وتوفنا مسلمين، وألحقنا بالصالحين.