الوهاب
كلمة (الوهاب) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعّال) مشتق من الفعل...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
القلب يصدأ كما يصدأ النحاس والفضة وغيرها، وجلاؤه بالذكر فإنه يجلوه حتى يدعه كالمرآة البيضاء، وصدأ القلب بأمرين بالغفلة والذنب، وجلاؤه بشيئين: بالاستغفار والذكر. إنه جلاء القلوب ودواؤها إذا غشيها اعتلالها، وكلما ازداد الذاكر في ذكره استغراقًا ازداد محبة إلى لقائه للمذكور واشتياقًا، وإذا واطأ في ذكره قلبه للسانه نسى في جنب ذكره كل شيء...
الخطبة الأولى:
الحمد لله خلق كل شيءٍ فقدره تقديراً، أبدع ما خلق وأتقن ما صنع؛ حكمةً وتدبيراً، أحمده -سبحانه- وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كان على كل شيءٍ قديراً، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، أرسله إلى الخلق بالحق بشيراً ونذيراً، وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، والتابعين ومن تبعهم بإحسان، وسلَّم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيها الناس: أوصيكم ونفسي بتقوى الله -عز وجل-، فاتقوا الله -رحمكم الله- حيثما كنتم، فهو -سبحانه- يعلم ما أخفيتم وما أعلنتم، فزكُّوا نفوسكم بالتوبة وطهّروها، وأيقظوها من سِنَة الغفلة وذكّروها أن لكم موعداً لن تُخلَفوه، وموقفاً بين يدي ربكم لا بد أن تقفوه، ولسوف تأتي كل نفس تجادل عن نفسها، ثم توفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون.
عباد الله: إن ذكر الله نعمة كبرى، ومنحة عظمى، به تستجلب النعم، وبمثله تستدفع النقم، وهو قوت القلوب، وقرة العيون، وسرور النفوس، وروح الحياة، وحياة الأرواح، ما أشد حاجة العباد إليه، وما أعظم ضرورتهم إليه، لا يستغني عنه المسلم بحال من الأحوال. ولما كان ذكر الله بهذه المنزلة الرفيعة والمكانة العالية فأحرى بالمسلم أن يتعرف على فضله وأنواعه وفوائده.
إن الذكر هو المنزلة الكبرى التي منها يتزود العارفون، وفيها يتجرون وإليها دائمًا يترددون، وهو منشور الولاية الذي من أعطيه اتصل ومن منعه عزل، وهو قوت قلوب العارفين التي متى فارقتها صارت الأجساد لها قبورًا، وعمارة ديارهم التي إذا تعطلت عنه صارت بورًا، وهو سلاحهم الذي يقاتلون به قطاع الطريق، وماؤهم الذي يطفؤون به التهاب الطريق ودواء أسقامهم الذي متى فارقهم انتكست منهم القلوب، والسبب الواصل والعلاقة التي كانت بينهم وبين علام الغيوب. قال الله تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الرعد: 28].
عباد الله: قد رفع الله -تبارك وتعالى- منزلة الذاكرين وأخبر أن لهم أجرًا عظيمًا، قال -سبحانه-: (وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 35]، وأرشد الله -تبارك وتعالى- عباده لأهمية الذكر في آيات كثيرة، منها قول الله -عز وجل-: (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) [العنكبوت: 45] ، وقوله -جل وعلا-: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [الجمعة: 10].
وأشاد النبي -صلى الله عليه وسلم- بعظيم منزلة الذاكرين وفضلهم، فعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "أَلا أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ إِنْفَاقِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ" قَالُوا: بَلَى. قَالَ: "ذِكْرُ الله تَعَالَى" [الترمذي (3377) وصححه الألباني].
وأخبر -صلى الله عليه وسلم- وبيّن أنه إذا كان عُمّال الآخرة كلهم في مضمار السباق فالذاكرون هم أسبقهم في ذلك المضمار، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ تَعَالَى فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلا ظِلُّهُ: إِمَامٌ عَدْلٌ، وَشَابٌّ نَشَأ فِي عِبَادَةِ الله وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ، وَرَجُلانِ تَحَابَّا فِي الله، اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ، فَقال: إِنِّي أخَافُ اللهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ، فَأخْفَاهَا حَتَّى لا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللهَ خَالِياً فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ" [البخاري(660) ومسلم (1031)].
فيا عبد الله: لا تخشَ غماً، ولا تشكُ هماً، ولا يصبك قلقٌ ما دام أمرك بيد ربك -سبحانه-، فاذكره فذكر الله يمنحك قوة، وفيه أجر عظيم، قال الله تعالى: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ) [البقرة: 152]، وأحسن الظن بالله، وأكثر من ذكره لتستشعر الطمأنينة والسعادة، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يقول الله تعالى: أنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلإ ذَكَرْتُهُ فِي مَلإ خَيْرٍ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعاً، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعاً تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعاً، وَإِنْ أتَانِي يمْشِي أتَيْتُهُ هَرْوَلَةً" [البخاري (7405)].
عباد الله: للذكر آثاره المباركة ونتائجه الطيبة فدُور الجنة تبنى بالذكر، فإذا أمسك الذاكر عن الذكر أمسكت الملائكة عن البناء، وبذكر الله تسمو روحانية العبد، فيطهر قلبه ويحيا، وبحياته يحيا المجتمع؛ فيفوز الفرد بالله، وتفوز الأمة بالخيرية والوسطية والشهادة على العالمين. وقد ذكر ابن أبي الدنيا في كتابه عن حكيم بن محمد الأخنسي قال: "بلغني أن دور الجنة تُبنَى بالذكر، فإذا أمسك عن الذكر أمسكوا عن البناء، فيقال لهم فيقولون: حتى تأتينا نفقة".
إذا أكثر العبد من تسبيح الله وتنزيهه عما لا يليق بجلاله وعظمته، كتب الله له الأجر ومنحه القوة والفضل، قال الله تعالى: (فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى) [طه: 130]، وأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بفضل التسبيح وأنه يحط خطايا بني آدم، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: "مَنْ قَالَ: سُبْحَانَ الله وَبِحَمْدِهِ، فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ، حُطَّتْ خَطَايَاهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ" [البخاري (6405) ومسلم (2691)].
وعن مصعب بن سعد، حدثني أبي قال: قال -صلى الله عليه وسلم-: "أيَعْجِزُ أحَدُكُمْ أنْ يَكْسِبَ كُلَّ يَوْمٍ ألْفَ حَسَنَةٍ؟" فَسَألَهُ سَائِلٌ مِنْ جُلَسَائِهِ: كَيْفَ يَكْسِبُ أحَدُنَا ألْفَ حَسَنَةٍ؟ قَالَ: "يُسَبِّحُ مِائَةَ تَسْبِيحَةٍ، فَيُكْتَبُ لَهُ ألْفُ حَسَنَةٍ، أوْ يُّحَطُّ عَنْهُ ألْفُ خَطِيئَةٍ" [مسلم(2698)].
وأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بأن ذكر الله والمداومة على التسبيح والثناء عليه -سبحانه- وحمده يرفع درجات العبد يوم يلقى ربه، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ وَحِينَ يُمْسِي: سُبْحَانَ الله وَبِحَمْدِهِ، مِائَةَ مَرَّةٍ، لَمْ يَأْتِ أحَدٌ، يَوْمَ الْقِيَامَةِ، بِأفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ، إِلا أحَدٌ قَالَ مِثْلَ مَا قَالَ أوْ زَادَ عَلَيْهِ" [مسلم (2692)].
وأرشدنا النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى أن الذكر يتميز عن غيره من العبادات بأنه سهل في العمل، وعظيم في ميزان العباد، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال -صلى الله عليه وسلم-: "كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ، حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ: سُبْحَانَ الله وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ الله الْعَظِيمِ" [البخاري(6406) ومسلم (2674)].
عباد الله: وحمد الله والثناء عليه وشكره يعود على العبد بكل خير، ويكسبه الأجر والزيادة، قال الله تعالى: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) [إبراهيم: 7]، وعن أبي مالك الأشعري قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيمَانِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلأُ الْمِيزَانَ، وَسُبْحَانَ الله وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلآن (أوْ تَمْلاُ) مَا بَيْنَ السموات وَالأَرْضِ" [مسلم (223)].
أيها الإخوة: إن لا إله إلا الله من أفضل الذكر، والتوحيد أساس القبول، وإذا أكثر العبد من التهليل منحه ذلك قوة كبيرة، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ قَالَ: لا إِلَهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، فِي يَوْمٍ، مِائَةَ مَرَّةٍ، كَانَتْ لَهُ عَدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ، وَكُتِبَتْ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ، وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِائَةُ سَيِّئَةٍ، وَكَانَتْ لَهُ حِرْزاً مِنَ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ حَتَّى يُمْسِيَ، وَلَمْ يَأْتِ أحَدٌ أفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ إِلا أحَدٌ عَمِلَ أكْثَرَ مِنْ ذَلِك" [البخاري(3293) ومسلم (2691)].
وعن عمر بن ميمون -رضي الله عنه- قال: قال -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ قَالَ: لا إِلَهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، عَشْرَ مِرَارٍ، كَانَ كَمَنْ أعْتَقَ أرْبَعَةَ أنْفُسٍ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ" [البخاري(6404) ومسلم(2693)].
ومن روائع الأخبار في فضل الذكر ما صح عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَا مِنْ عَبْدٍ يَشْهَدُ أنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ، وَأنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، إِلا حَرَّمَهُ اللهُ عَلَى النَّارِ" [مسلم(32)]، نسأل الله أن يذكرنا به فلا ننساه وأن يسعدنا بتقواه. آمين.
أيها الإخوة: وفي ارتياد مجالس الذكر والعكوف عليها قوة وأجر، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا يَقْعُدُ قَوْمٌ يَذْكُرُونَ اللهَ -عز وجل- إِلا حَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَنَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ" [مسلم (2699)].
وإذا ابتعد المرء عن وطنه وانتقل في طرقات الأسفار ونأت به الديار، كان ذكر الله له أعظم قوة، وخير معين له في سفره، وأفضل صديق، وأسعد أنيس، إذ يعين المسافر ويرشده ويملأ قلبه ثقة واطمئنانًا، فعن خولة بنت حكيم السلمية قال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "مَنْ نَزَلَ مَنْزِلا ثُمَّ قَالَ: أعُوذُ بِكَلِمَاتِ الله التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ، لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ، حَتَّى يَرْتَحِلَ مِنْ مَنْزِلِهِ ذَلِك" [مسلم(2708)].
هذا في الدنيا وقطع مراحلها، ومجاوزة آلامها والصبر على غوائلها، وأما في الآخرة فإذا انكشف الغطاء للناس يوم القيامة عن ثواب أعمالهم لم يروا عملاً أفضل ثوابًا من الذكر فيتحسر عند ذلك أقوام فيقولون ما كان شيء أيسر علينا من الذكر.
عباد الله: ذكر الله يمنح العبد قوة في قلبه وثقة في ربه، وحسن التوكل عليه، وقد أمر -سبحانه- نبيه محمدًا -عليه الصلاة والسلام-، عند قتال أعدائه أن يلهج بالذكر، ولا يفتر عنه ففي ذكره قوة وأمان وجلد، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [الأنفال: 45].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "إن الملائكة لما أُمروا بحمل العرش، قالوا: وكيف نحمل عرشك وعليه عظمتك وجلالك؟ فقال -سبحانه-: "قولوا لا حول ولا قوة إلا بالله"، فهذه الكلمة لها تأثير عجيب في تحمل الأشغال الصعبة، وتحمل المشاقّ، والدخول على الملوك، ومن يخاف، وركوب الأهوال، ولها أيضًا تأثير في دفع الفقر". [الوابل الصيب لابن القيم، ص164، 165].
والحكمة في قوة هذا العبارة أن العبد ضعيف ليس له قدرة على التحول من حال إلى حال إلا بالله، حتى ذهابه إلى الصلاة لأدائها مع الجماعة، لا حول له ولا قوة على ذلك إلا بالله، فيستشعر عجزه وضعفه، وأنه لا يقدر على إجابة هذا النداء إلا بحول الله وحده، وذلك أن في تلبية المؤذن من قبل المصلين فيه حركة فاستدعى أن يستعين العبد بربه ليمنحه التوفيق. فيقول عند الحيعلة: "لا حول ولا قوة إلا بالله"، وقد صح في ذلك حديث عمر -رضي الله عنه-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي رواه مسلم في صحيحه.
وكان حبيب بن سلمة يستحب إذا لقي عدوا أو ناهض حصنًا أن يقول: "لا حول ولا قوة إلا بالله"، وإنه ناهض يومًا حصنًا للروم فانهزم؛ فقالها المسلمون وكبروا فانهدم الحصن.
ومما يرشد إلى أهمية الذكر وقوته للإنسان ما ورد من أن فاطمة -رضي الله عنها- لما سألت رسول الله -عليه الصلاة والسلام- الخادم بعد غنائم حنين، وشكت إليه ما تقاسيه من الطحن والسعي والخدمة، فقال: "ألا أعلمكما خيرًا مما سألتماني، إذا أخذتما مضاجعكما: تكبرا أربعًا وثلاثين، وتسبحا ثلاثًا وثلاثين، وتحمدا ثلاثًا وثلاثين فهو خير لكما من خادم" [البخاري (3705) ومسلم(2727)]، فقيل: إن من داوم على ذلك وجد قوة في يومه تغنيه عن خادم، وقد حافظ على هذا العلاج النافع عليّ -رضي الله عنه- حتى في معركة صفين كما حدث بذلك عن نفسه.
ولكن لا يجد ذلك إلا من حاز الثقة واليقين برب العالمين، فما أجمل حياة أهل اليقين، إن أمتنا لو امتلكت اليقين لرأيت العجب العجاب! ولو تعاملنا مع ربنا -سبحانه وتعالى- باليقين في خبره وخبر رسوله -صلى الله عليه وسلم- لعشنا ورب الكعبة الحياة الطيبة التي أخبر عنها ربنا -جل وعلا-، ولقلنا بيقين: "إن كان أهل الجنة في مثل ما نحن فيه والله إنهم لفي عيش طيب".
يقول ابن قيم الجوزية -رحمه الله-: "شاهدت من قوة شيخ الإسلام ابن تيمية في سننه وكلامه وإقدامه وكتابته أمرًا عجيبًا، فقد كان يكتب في اليوم من التصنيف ما يكتبه الناسخ في جمعة وأكثر، وقد شاهد العسكر من قوته في الحرب أمرًا عظيمًا"، وكان ذلك بقوة إيمانه وكثرة ذكره لله تعالى فكان سلاحه الوحيد، وطعامه الثريد، وأنيسه الشهيد". [الوابل الصيب لابن القيم، ص144].
عباد الله: وأفضل الذكر ما تواطأ عليه القلب واللسان والجوارح، ومن لم يتيسر له ذلك داوم على ذكر اللسان حتى يفتح الله قلبه لأنوار الذكر المثمرة لمعرفة الله ومحبته -سبحانه-.
اللهم ارزقنا التفكر في آياتك وارزقنا الاتعاظ بذلك وارزقنا الانتفاع بما أنزلت من وحيك وما قدرته من قضائك، واغفر لنا وارحمنا إنك أنت الغفور الرحيم.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم منه بالآيات والذكر الحكيم، وأجارني وإياكم من عذابه الأليم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين، إنه هو الغفور الرحيم فاستغفروه.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، اللهم صل على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه وإخوانه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله حق التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، وأكثروا من ذكر الله تعالى، فللذكر منزلة رفيعة، وأهل الذكر من خير البشر، فبذكرهم لله تعالى يستدفعون الآفات، ويستكشفون الكربات، وتهون عليهم به المصيبات، إذا أظلَّهم البلاء فإليه ملجؤهم، وإذا نزلت بهم النوازل فإليه مفزعهم، فهو رياض جنتهم التي فيها يتقلبون، ورؤوس أموال سعادتهم التي بها يتجرون، يدع القلب الحزين ضاحكًا مسرورًا.
أيها الإخوة: لا ريب أن القلب يصدأ كما يصدأ النحاس والفضة وغيرها، وجلاؤه بالذكر فإنه يجلوه حتى يدعه كالمرآة البيضاء، وصدأ القلب بأمرين بالغفلة والذنب، وجلاؤه بشيئين بالاستغفار والذكر. إنه جلاء القلوب ودواؤها إذا غشيها اعتلالها، وكلما ازداد الذاكر في ذكره استغراقًا ازداد محبة إلى لقائه للمذكور واشتياقًا، وإذا واطأ في ذكره قلبه للسانه نسى في جنب ذكره كل شيء، وحفظ الله عليه كل شيء، وانقشعت الظلمة عن الأبصار.
عباد الله: ومن الأذكار التي تمنح العبد قوة وأجرًا، الاستغفار، وقد أرشد الله عباده إلى ذكره ودعائه واستغفاره، فقال تعالى على لسان نبيه هود -عليه السلام-: (وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ) [هود: 52].
وأخبر أن التوبة عمل صالح وقوة للعبد، فقال تعالى: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [النور: 31]، وقال -جل وعلا-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [التحريم: 8].
وأرشد النبي -صلى الله عليه وسلم- لأهمية ذكر الله وحسن الثناء عليه مع الاستغفار وأن ذلك أولى بقبول العبد المستغفر، فعن شداد بن أوس -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "سَيِّدُ الاسْتِغْفَارِ أنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ أنْتَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلا أنْتَ، خَلَقْتَنِي وَأنَا عَبْدُكَ، وَأنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ وَأبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي، فَإِنَّهُ لا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا أنْتَ. قَالَ: وَمَنْ قَالَهَا مِنَ النَّهَارِ مُوقِناً بِهَا، فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ قَبْلَ أنْ يُمْسِيَ، فَهُوَ مِنْ أهْلِ الْجَنَّةِ، وَمَنْ قَالَهَا مِنَ اللَّيْلِ وَهُوَ مُوقِنٌ بِهَا، فَمَاتَ قَبْلَ أنْ يُصْبِحَ، فَهُوَ مِنْ أهْلِ الْجَنَّةِ" [البخاري (6306)].
ورفع النبي -صلى الله عليه وسلم- من شأن التوبة والاستغفار، وأخبر أنه ذكر وطاعة يحبها الله ويفرح بها، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لله أفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ أحَدِكُمْ، سَقَطَ عَلَى بَعِيرِهِ، وَقَدْ أضَلَّهُ فِي أرْضِ فَلاةٍ" [البخاري (6309) ومسلم (2675)].
عباد الله: والتكبير يمنح العبد ثقة وقوة وأجرًا، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لأنْ أقُولَ: سُبْحَانَ الله وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلا إِلَهَ إِلا اللهُ وَاللهُ أكْبَرُ، أحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ" [مسلم (2695)].
وقال -صلى الله عليه وسلم- كما في حديث أبي ذر -رضي الله عنه-: "يُصْبِحُ عَلَى كُلِّ سُلامَى مِنْ أحَدِكُمْ صَدَقَةٌ، فَكُلُّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةٌ، وَأمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنِ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ، وَيُجْزِئُ مِنْ ذَلِكَ رَكْعَتَانِ يَرْكَعُهُمَا مِنَ الضُّحَى" [مسلم(720)].
عباد الله: من تدبر في نفسه وفيمن حوله من الكون كله وجد الكون ناطقًا بحمد الله -تبارك وتعالى-، فالحمد كله لله -سبحانه- والشكر كله لوجه الله الذي ما في العالمين من نعمة فمنه وحده لا شريك له ويقلبنا باستمرار بالليل والنهار في عظيم بحار رحماته ومحيطات وخزائن عطاياه التي لا تحصى ولا تعد بغير حولٍ ولا قوةٍ ولا شيء منا ولو شاء ما فعل، فحمداً وشكراً يحبه ويرضيه ويُوافِي مننه ونِعَمَهُ وآلائهُ وآياته, وأفضاله وكرمه وإحسانه, ونفحاته ورحماته وبركاته وعطاياه التي لا تحصى ولا تعد ويكافئ مَزيدَهُ, ولا يغادر حمداً ولا شكراً إلا أحصاه وأكثر وأحب إليه وإلينا من كل شيء, ويفوق كل شيء وكل عدد دائماً إلى الأبد عَدَدَ خَلْقِهِ وَرِضَى نَفْسهِ وَزِنَةَ عَرْشِهِ وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ كلما ذكره الذاكرون وغفل عن ذكره الغافلون.
اللهم ارزقنا التفكر في آياتك وارزقنا الاتعاظ بذلك وارزقنا الانتفاع بما أنزلت من وحيك وما قدرته من قضائك، واغفر لنا وارحمنا إنك أنت الغفور الرحيم.
اللهم لا تدع لأحد منا في هذا المقام ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا ميتاً لنا إلا رحمته، ولا هماً إلا فرجته، ولا غماً إلا أزلته، ولا عاصياً إلا هديته، ولا طائعاً إلا زدته وثبته، ولا حاجة هي لك رضاً ولنا فيها صلاح إلا قضيتها يا رب العالمين! اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل فينا شقياً ولا محروماً، اللهم اهدنا واهد بنا، واجعلنا سبباً لمن اهتدى.
اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، اللهم اشف صدور قوم مؤمنين بنصرة الإسلام وعز الموحدين، برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم ارفع مقتك وغضبك عنا، ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، اللهم ارزقنا جميعاً قبل الموت توبة، وعند الموت شهادة، وبعد الموت جنة ونعيماً ورضواناً.