العزيز
كلمة (عزيز) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعيل) وهو من العزّة،...
العربية
المؤلف | أحمد بن عبد العزيز الشاوي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
إنَّ الغيرةَ على دينِ الله وحُرماته من صفاتِ المؤمنين الأعزاء، فهي من مقتضياتِ الإيمان، تقوى بقوته، وتضعفُ بضعفه، وتُفقدُ الغيرة حيثُ لا يكون القلبُ مؤمناً، وفي الحديث: "المؤمنُ يغارُ، واللهُ أشدُّ غيرة".
الخطبة الأولى:
الحمد لله ذي الكرم والجود، أحمده وأشكره، وأعبده وهو خير معبود، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، إنّه هو الغفور الودود، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خير من صلى وصام، وجاهد واستقام، وأوفى بالعقود، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسانٍ من القائمين والصائمين والركع السجود، وسلم تسليماً.
أمَّا بعد: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [المائدة:54].
بعيداً عن جوِّ هذا الزمان القاتم بغبارِ الالتزام الأجوف، والمشوه بقترِ السلبية المُفرطة، والمظهريةِ الجوفاء، نحلقُ في فضاءِ الجيل السالف المعطر بورودِ الإيجابية، ونتفيأ ظلالَ شجرةِ البذلِ والعطاء، والتضحيةِ والفداء.
نعودُ بذكرياتنا إلى الصورِ الرائعة لسلفِ هذه الأمة، حيث يتجلى الإيمانُ الحقُّ، وتبرزُ حقيقة الهمِّ لهذا الدين.
تنقلنا الذاكرةُ إلى سوق بني قينقاع، حيثُ يعتدي يهودي على امرأةٍ مسلمة، ويكشفُ عورتها، فتثورُ ثائرة مسلمٍ ويأبى الدنية في دينهِ، وينهضُ بكلِّ عزةٍ وإباء، ويقتلُ ذلك اليهودي، رغمَ أنَّهُ بين أهلهِ وقومه.
إلى موقفِ شابٍ لم تمنعهُ حداثةُ عهدهِ بالزواجِ من الاستجابةِ لداعي الجهاد، فيخرجُ من زوجهِ وهو جنب ليلقى ربه شهيداً في أحد، فيحظى بتغسيلِ ملائكةِ الرحمة، ويُلقبُ بغسيلِ الملائكة، إنَّهُ حنظلة بن أبي عامر.
إلى موقف امرأةٍ مسلمةٍ تُشاهد استعدادات المسلمين، وبذلهم لتجهيزِ جيشِ المسلمين في إحدى المعارك، فلا تجدُ ما تُساهم به إلاَّ أن تقص شعرها، وتجعل منهُ ضفائرَ لخيلِ قائد جيش المسلمين!.
إلى مجموعةٍ من صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دفعهم الحماسُ للدين إلى أن يأتوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسألونهُ أن يحملهم للجهاد، ولمَّا لم يجد ما يحملهم عليه، تولوا وأعينهم تفيضُ من الدمعِ حزناً ألا يجدوا ما يُنفقون.
إلى موقف عُمير بن أبي وقاص، وهو شابٌ لما يبلغ الحُلم، يختفي في أحد المعاركِ خلف الرجال، حتى لا يراهُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيرده، ولما رآه -عليه الصلاة والسلام- وردَّهُ جعل يبكي، فأشفق عليه المصطفى -صلى الله عليه وسلم- وأذن له بالجهاد، فعقد لهُ أخوهُ سعد حمائلَ سيفهِ، فجعلت تخط في الأرض.
إلى عبد الله بن حذافة السهمي، يجوع وهو مأسور عند الروم ويعرضُ عليه الخمر ولحم الخنزير، فيأبى ويقول: "أما إنِّي أعلمُ أنَّها قد حلت لي بالضرورة، ولكن كرهتُ أن أشمتكم بالإسلام".
إلى وإلى ما لا يحصر، والصورُ المثاليةِ التي تذكر فيهتزُ لها القلبُ طرباً وشوقاً إلى أمثالها.
إنَّ موقفَ هذا وذاك، وتلك وأولئك، ينطلقُ من شعورٍ واحد، هو الغيرة على هذا الدين، والإحساسُ بالمسؤولية، والحميَّة للمبادئ التي آمنوا بها.
إنَّ الغيرةَ على دينِ الله وحُرماته من صفاتِ المؤمنين الأعزاء، فهي من مقتضياتِ الإيمان، تقوى بقوته، وتضعفُ بضعفه، وتُفقدُ الغيرة حيثُ لا يكون القلبُ مؤمناً، وفي الحديث: "المؤمنُ يغارُ، واللهُ أشدُّ غيرة".
الغيرةُ هي التألمُ والغضبُ على حقٍّ يُهانُ ويُقهرُ، أو باطلٌ يحمى وينصرُ، وينتجُ عن هذا التألم والغضب مساندة الحقِّ ومقاومة الباطل ودحره.
يا مسلمين: إنَّ من الغيرةِ على دينِ اللهِ الوقوف مع الحقِّ، ومناصرة أهل الحقِّ والخير، ومناوأة الباطل، ومقاومة المبطلين والمفسدين، مهما كانوا ولو كانوا أولى قربى.
الغيرةُ على دينِ الله تتمثلُ فيمن ينظرُ إلى الدليلِ، ويصدعُ بالحقِّ ولو كره المنافقون.
الغيرةُ على دينِ الله تكون بالمساهمةِ في نشره، والدعوة إليه، والجهاد في سبيلهِ بالنفسِ أو بالمال.
إنَّ الغيرةَ على دينِ اللهِ تشجيعُ كل مجالاتِ الخيرِ وسبل الدعوة، فحضور المحاضرات، والدعوةُ، وإحياء الدروس العلمية، ونشر الكتاب والشريط الإسلامي، والكتابة في الصحف والمجلات دفاعاً عن الإسلام ومبادئه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كل هذا يُعدُّ صورةً من صورِ الغيرةِ على دين الله، وبهذه الخطوات تُقمعُ راية النفاق، وتوأد خطوات التغريب.
الاعتزازُ بالدين، والافتخارُ بالانتساب إليه، والتمسكُ بشعائرهِ الظاهرة والباطنة، والتفاعلُ مع قضايا المسلمين، كلُّ ذلك مظهرٌ من مظاهر الغيرة.
إنَّ من الغيرةِ على دينِ الله مُناصرة المسلمين وقضاياهم، والتألم لآلامهم، والفرح بآمالهم، ولقد كان التحامُ المسلمين، ونصرة كل منهم لأخيه، مثالاً فريداً في تاريخ التلاحم والتواصل والتناصر، سواءً على مستوى الأمة أو الأفراد، ولن ينتصرَ المسلمون إلاَّ إذا تحقق فيهم صفاء العقيدة، وحبّ المسلم لأخيه ما يُحبُ لنفسه، وشعوره بآلام أخيهِ كشعورهِ بما يصيبهُ هو، وحبُّ نصرته كما يُحبُّ أن ينصره هو، والله ينصر من ينصره، وهو القوي العزيز.
وإذا كانت أوضح صورِ النُصرة هي الجهاد بالنفسِ في سبيل الله، فإنَّهُ، ومع وجود المعوقات في طريقه، حيثُ أصيبت الأمةُ بالوهن: "حبُّ الدنيا وكراهيةُ الموت"، فمع ذلك فإنَّ صور النُصرةِ للمسلمين كثيرة.
فالذبُ عن عرضِ المسلم وسُمعتهِ، والرد على أهل الباطل الذين يُريدون خدش كرامة المسلمين، والدعاء للمسلمين في ظهر الغيب، وتتبع أخبارهم، والوقوفُ على أحوالهم، كلُّ هذه تحقق للإنسان معنى النُصرةِ وتجعلهُ عضواً عاملاً صالحاً في كيانه الإسلامي.
وفي وقتٍ يتكالبُ أعداءُ الله على المسلمين، يغزونهم في عقرِ دارهم، ولا يجدُ هؤلاءِ المسلمون ما يدفعون به عن أنفسهم وأعراضهم وأحوالهم وأوطانهم، وقذائفُ الأعداءِ تُمزقُ لحومهم وتهشمُ عظامهم، وتقطعُ أجسامهم، في هذا الوقت يتأكدُ الجهادُ بالمال غيرةً على دين الله، ومُناصرةً للمستضعفين من المسلمين.
يا مسلمين: إنَّ ضعفَ الغيرة على الدين أو فقدها، نقيصة تنزل بصاحبها إلى الحضيض.
ألا وإنَّ من علامات فقدِ الغيرةِ، الهمّ والحزن لعلو الحقِّ، والمسرة لانخفاضهِ، والشماتة بالمنكوبين من المسلمين، والتوجع لفواتِ الباطلِ، والفرح بحصوله أو إدراكه.
ومن علاماتِ فقد الغيرةِ الانقباضُ عند ذكر الصالحين وأحوالهم...
إنَّ المسلم الغيور هو الذي لا يُغريه طمعٌ، ولا تخيفهُ رهبةٌ عن قول الحقِّ، فيدعو إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وينكرُ المنكر بحماسٍ، منضبطاً بضوابط الشرع.
إنَّ الغيرةَ على دينِ الله يجب أن تكون هاجس كل واحدٍ منا، وهماً في عروق كل مسلم، صغيراً كان أم كبيراً، ذكراً ًكان أم أنثى، عالماً أو جاهلاً، صالحاً أو فاسقاً، فلا يصحُّ أن تكون الذنوبُ والخطايا حاجزاً وهمياً بين العبد وبين العمل الإيجابي لهذا الدين، نريدُ أن يكون همّ هذا الدين يلاحقُ المرأةَ في بيتها، والرجل في متجره، والمعلم في فصله، والطالب مع زملائه، والموظف في دائرته، بل ويحملهُ الشاب على الرصيفِ وفي مدرجاتِ الملاعب، فلم تكن الخطيئةُ يوماً -مهما عظمت- حائلاً بين المسلمِ وبين أن يُساهم في نُصرةِ هذا الدين، فقد ذهب بعضُ الصحابة إلى غزوة أُحد بعد ليلة من شرب الخمر، كما في البخاري: "اصطبح ناسٌ الخمر يوم أُحد ثُمَّ قُتلوا شهداء".
وفي قصة أبي محجن الثقفي لنا عبرة وعظة، فقد كان يشرب الخمر، وفي القادسيةِ شربها، فعاقبهُ سعدٌ بأن حرمَه من القتال، وكبلهُ بالقيود، ولما اشتدَّ القتال، وحمي الوطيس، وانكشف المسلمون، أخذت أبا محجن الغيرة للدين، والحمية لأهله، فطلب من زوجةِ سعدٍ أن تفكَّ قيده، وأن تعطيه خيلَ سعدٍ، على أن يعود بعد المعركة إلى قيده، وتوسل إليها قائلاً:
كفى حزناً أن تلتقي الخيل بالقنا | وأترك مشدوداً علي وثاقيا |
إذا قمت عناني الحديد وغلقت | مصارع دوني قد تصم المناديا |
أريني سلاحي لا أبا لك إنني | أرى الحرب لا تزداد إلا تماديا |
ولله عهدٌ لا أخيس بعهده | لئن أفرجت ألاَّ ازور الحوانيا |
فرحمتهُ امرأة سعد، وأعطتهُ الخيل، فشقَّ الصفوف وأثخن في الأعداء، وأبلى بلاءً حسنا.
إن أقوى الناس ديناً أعظمهم غيرةً على حُرمات الله وحدوده، فمحبُّ الله ورسوله يغارُ لله ورسوله على قدر محبته وإجلاله، وإذا خلا قلبهُ من الغيرة لله ورسولهِ، فهو من المحبة أخلى وإن زعم أنَّهُ من المحبين، فكيف يصحُّ لعبدٍ أن يدعي محبةَ الله وهو لا يغارُ لمحارمه إذا انتهكت، ولا لحقوقه إذا ضيعت؟.
أخي المسلم: إن مما يقوي الغيرة في قلبك، أن تستشعر المسؤولية وجسامتها، وأن تُقدرَ الخطر الداهم على أمتك، وتستشعر استمرارية دُعاة الباطل في إشاعة باطلهم، (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) [التوبة:32]. (وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ) [ص:6]. (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ) [لأنفال:36].
أولم تسمع عن مُنصرين يمكثون سنوات في الصحاري القاحلة، والمناطق الآسنة، دون انتظار أجر دنيوي، وإنِّما نُصرةً لباطلهم ونشر الضلالة؟ فما بالنا -معشرَ المسلمين- يجلسُ الواحدُ منا شبعان متكئاً على أريكته، إذا طلب منه نصرة دينهِ الحق، أو كُلف بأبسط المهام، أو عُوتب لاستغراقهِ في اللهو والترفيه انطلق كالسهم مردداً: "يا حنظلة، ساعة وساعة"؟! هذا إذا سلمَ من قدحِ العاملين، ولمزِ المجاهدين، وتثبيطِ همم الباذلين!.
تبلدَ في الناس حسن الكفا | ح ومالوا لكسبٍ وعيش رتيب |
يكاد يزعزع من همتي | صدود الأمين وعزم المريب |
ألا فليستثر الشعور بالاستحياءِ من الله -عز وجل- في قلوبنا حين نرى من إخلاصهم... يضحون لنصرة باطلهم، ويوفون مع إمامهم إبليس بالعهد الذي قطعه على نفسه: فبعزتك لأغوينهم، في حين يتباطأ كثيرٌ من المسلمين عن نصرةِ دينهِ الحقِّ، مع أنهم عاهدوا على الانقياد لشرعه! (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) [المائدة:7].
أقول هذا القول...
الخطبة الثانية:
أما بعد: فإننا إذ نتحدثُ عن الغيرةِ على دين الله، وننظر بعين الأسى والحزن لواقع الأمة، فإننا ننظرُ بالعين الأُخرى إلى ما يجري في عراق العزِّ والإباء، فعن أيِّ شيءٍ نتحدث؟.
هل نتحدثُ عن عيدهم وعيدنا؟ عيدهم نارٌ ودمار، ودماءٌ وأشلاء، عيدهم جروحٌ غائرة، ونفوسٌ ثائرة، عيدهم أطفالٌ يتامى ونساءٌ أيامى، وشيوخٌ ثكالى، عيدهم مساجدُ تهدم، وجراحٌ تنزف، وجثثٌ ملقاةٌ في الشوارع، وعدوٌ صليبيٌّ يسومهم سُوءَ العذاب، هذا عيدهم، أما عيدنا فغناءٌ وطرب، ولهوٌ ولعب، رجالٌ يختلطون بالنساءِ، وشبابٌ يرقصون، عيدنا فنان يغني على ساحلِ البحر، في ليلةٍ الجمعة...
أهنئكم وعينُ القلب تجري | على أحبابنا في الرافدينِ |
وأشجبُ صمتكم وأقولُ إني | براءٌ من عميل أو خؤون |
ففي أعيادكم لعبٌ وحلوى | وألوانُ المعازفِ والمجون |
وفي فلوجةِ الأبطالِ قتلٌ | وحربٌ للصليب تجاهَ ديني |
هل نتحدثُ -يا مسلمين- عن الحضارة الغربية المزيفة، والمدنيةِ الغربية الكاذبة، والتي يُمجدها المستغربون، ويغني لها المنهزمون، والتي ظهرت معالمُها على أرض العراق، هدماً للبيوت على العزَّل، وإجهازاً على الجرحى، وتخريباً للمُدن، وإهلاكاً للحرث والنسل، وتترساً بالأطفال الأبرياء، وانتهاكاً لحُرمات المساجد، وتمزيقاً للمصاحف، وإهداراً لكرامةِ الإنسان؟ هذه هي حضارتهم، وتلك حريتهم التي جاءوا يبشرون بها، فيا ليت المنافقين يعقلون!.
هل نتحدثُ -يا مسلمين- عن الأسودِ المزمجرة، والصواعقِ المدمرة؟ عن الرجالِ حقاً والأبطال صدقاً، والذين رسموا بدمائهم وصمودهم أجملَ لوحاتِ العزِّ والشرف، في زمنِ الضعف والوهن، والذين مرغوا وجهَ الصليبية، وأرغموا أنوف الحاقدين، وأثبتوا للعالم أنَّ القوةَ قُوة الحقِّ، وأنَّ النصرَ مع الصبر، وأنَّ في أمةِ الإسلام (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ) [الأحزاب:23]، لا يلتفتون إلى الوراءِ، ولا ترهبهم قوةُ الأعداء، ولا تثبطهم أقاويل المرجفة؟.
إنَّ ما يجري -يا مسلمين- على أرضِ العراق إنَّما هو نصرٌ وعز، ولو قُتل من قُتل، وجُرح من جُرح، وأُسر من أسر، ولو سقطت مدنٌ، وخربت بيوتٌ، ليس النصر في ميزان الإسلام مدينة تفتح، أو بلدة تسرق، وإنَّما هو انتصارُ القيمِ والمبادئ، وارتفاعُ راية الحقِّ.
إنَ الناسَ يقصرون معنى النصر على صورةٍ معينة، معهودةٍ لهم، قريبة الرؤية لأعينهم، ولكن صورُ النصر شتى، وقد يتلبس بعضها بصورة الهزيمةِ عند النظرة القصيرة. إنَّ وعدَ اللهِ قاطعٌ جازم: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا) [غافر:51]، بينما يُشاهدُ الناس أنَّ الرسلَ منهم من يُقتل، ومنهم من يُهاجر من أرضهِ وقومهِ مكذباً مطروداً، وأنَّ المؤمنين منهم من يسام العذاب، ومنهم من يُلقى في الأخدود، ومنهم من يُستشهد، ومنهم من يعيشُ في كربٍ وشدةٍ واضطهاد، فأين وعد الله لهم بالنصر في الحياة الدنيا؟.
إنَّ الناسَ يعيشون بظواهرِ الأمورِ، وبفترةٍ قصيرةٍ من الزمان، وحيزٍ محدودٍ من المكان، وإنما النصرُ أوسع وأشمل، وكم من شهيدٍ ما كان يملكُ أن ينصر عقيدته ودعوته ولو عاش ألف عامٍ كما نصرها يوم استشهاده.
وإنَّ أعظمَ أنواع النصر: النصرُ على اللذات والشهوات، والسيطرةُ على الأهواءِ والمغريات، إنَّ معركة الإسلام مع الصليبيةِ لا تتوقفُ عند حدِّ فتح مدينة، والسيطرة على موقع، ولكنَّها حربٌ طويلة الأمد، فنهايتها تحقيقُ الغاية التي ذكر الله، (قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) [التوبة:29].
وحتى تصل الأمة إلى هذه الغاية، فلا بُدَّ من تضحياتٍ وبذل، وإنَّ كلَّ نقطة دمٍ من نفسٍ مسلمةٍ زكية لن تضيعَ عند الله سُدى، ولن تذهب هدراً، وإنَّما هي خطوةٌ لطريقِ النصر، ووقودٌ لنارِ العزة، ومنارات لمعالمِ القبلةِ والفتحِ المبين.
إن فتح مكة لم يكن وليد تخطيط شهرٍ أو سنةٍ، لكن نتاج كفاحٍ دامٍ ثلاثةَ عشر عاماً في مكة، وهو ثمنُ دماءٍ أُريقت في بدرٍ وأحد، وجزاء نفوسٍ أُزهقت فداءً لدين الله.
فتحُ مكة لم يأت بارداً جاهزاً، لكنهُ أتى تتويجاً لدم زكي، قد خرج من عقبي النبي-صلى الله عليه وسلم- وثمناً للبلاءِ والإيذاءِ الذي تعرض له المصطفى-صلى الله عليه وسلم- وصحابته الكرام.
فتحُ مكةَ رسمَ معالمهُ دمُ أبي عمار وزوجه سمية، وخط خطوطهُ أنين بلال وعمار وخباب وصهيب تحت سياط العذاب.
فتح مكة جاءَ ليُعلن للناس أنَّ النصرَ عزيزٌ ولا بُد له من ثمن، وليقولَ للناسِ اليوم: لا تهنوا ولا تحزنوا، فإنَّ دماءً في العراق تُراق، وأُخرى في أقطارٍ وآفاق، إنَّما هي ثمنٌ تُقدمهُ الأمة للنصر القادمِ القريبِ بإذن الله.
النصرُ نورٌ مرتقبٌ وقوده دماءِ الشهداء، ودعوات الأتقياء، وأموال الأغنياء، وشروطهُ صبرٌ على البلاءِ، وشكرٌ عند الرخاء، ووفاءٌ مع خالقِ الأرضِ والسماء، (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) [الروم:5].
وأخيراً، وأرض العراق تشهدُ ملحمةً من ملاحمِ الإسلام، وتبرزُ للعالم صورَ الغدرِ والخيانةِ العلقمية، وتروي للعالم صورةَ الحضارةِ الأمريكية، وأرض العراق تُدكُ على أهلها، وتهدم بيوتها فوق سكانها، فما أكثر الشامتين من كُتَّابٍ وغيرهم! من يقولُ بلسان الحال: (لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَأُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) [آل عمران:168].
ولن تشغلنا أنفسنا بالحديث عن هؤلاءِ وإليهم، وإنَّما نوجِّهُ لهم تحذيرَ اللهِ ووعيده: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزّىً لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [آل عمران:156].
وأخيراً، أيُّ دينٍ وأيُّ خيرٍ فيمن يرى محارمَ الله تُنتهك، وحدودهُ تُضاع، ودينهُ يُترك، وسنة رسوله- صلى الله عليه وسلم- يرغب عنها، وعبادهُ يُهانون، وهو باردُ القلبِ، ساكتُ اللسان، شيطانٌ أخرس؟ وهل يلينُ الدينُ إلاَّ من هؤلاءِ الذين إذا سلمت لهم مآكلهم ورياستهم، فلا مبالاة بما جرى على الدين، وخيارهم المتحزن المتلمظ؟.
وهؤلاءِ -مع سقوطهم من عين الله ومقت الله لهم- قد بلوا في الدنيا بأعظمِ بليةٍ تكون وهم لا يشعرون، وهي موتُ القلوب، فإنَّ القلب كما كانت حياتُهُ أتم، كان غضبه لله ورسوله أقوى، وانتصاره للدين أكمل.
فلا بُدَّ يا مسلمين من الشعورِ بواجبِ النُصرة لهذا الدين، كلٌّ بحسبه ومرتبتهِ من العلم والقدرة والغنى وغيرها.
تكلم يحيى بن معاذ، يوماً في الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقالت له امرأته: "هذا واجبٌ قد وُضعَ عنَّا"، فقال، "هبي أنَّهُ قد وضُع عنَّا سلاح اليد، فلم يُوضعُ عنا سلاح القلب، واللسان"، فقالت: "صدقت جزاك الله خيراً".
اللهم صل وسلم...