البحث

عبارات مقترحة:

الكريم

كلمة (الكريم) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل)، وتعني: كثير...

المؤمن

كلمة (المؤمن) في اللغة اسم فاعل من الفعل (آمَنَ) الذي بمعنى...

التواب

التوبةُ هي الرجوع عن الذَّنب، و(التَّوَّاب) اسمٌ من أسماء الله...

فقه الفكر والتأمل (1)

العربية

المؤلف ملتقى الخطباء - الفريق العلمي
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات التربية والسلوك - التاريخ وتقويم البلدان
عناصر الخطبة
  1. أهمية التفكر ومنزلة أهله .
  2. معنى التفكر والتدبر .
  3. مراتب الفكر والتأمل .
  4. آيات وعبر في النفس والأكوان .
  5. التفكر في أسماء الله وصفاته وأفعاله .
  6. فوائد التفكر .
  7. أدب المؤمن مع الله .
  8. هل أدينا حق الله علينا؟. .

اقتباس

إن إبداع هذا الكون، وضخامته الهائلة، وتناسقه، وجريانه وفق نظام دقيق، وتنوع مخلوقاته عددًا وشكلاً وحجمًا وصفةً، يُنبئ عن عظمة مُبدِعه، وهذا يهدي المتأمِّل فيها إلى قدرة الله -عز وجل-، فتنجذب النفوس إلى الإيمان، وتتفجَّر ينابيع التسبيح والإقرار بتلك العظمة والقدرة من قلبه على لسانه...

الخطبة الأولى:

إِنّ الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَسْتَهْدِيهِ وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا , مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ, وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِي لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ قال الله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران آية 102 ]، وقال تعالى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [ النساء آية 1 ]، وقال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب آية 70-71 ].

أيها الأخ الكريم: إذا طاف عقلك في الكائنات، وامتد نظرك في الأرض والسماوات والكواكب والمجرات، والنجوم السايرات، رأيت على صفحاتها قدرة الله الباهرة، وامتلأ قلبك بالإيمان بالله، وانطلق لسانك بالتنزيه، والتعظيم والتسبيح، والتهليل، وخضعت مشاعرك وجوارحك لسلطان الخالق العظيم والمبدع الحكيم، فلا خالق غيره ولا رب سواه، وصدق الله العظيم: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [آل عمران: 191].

عباد الله: أليس الله -جل وعلا- هو الذي خلق الْحَبِّ وَالنَّوَى، وأخرج الميت من الحي، وأخرج الحي من الميت، أليس خالقنا -سبحانه- هو الذي فلق الإِصْبَاحِ، وجعل الليل ساكنًا والشمس والقمر في حسبان دقيق، واستمعوا إلى ذلك كله في كلمات وجيزة وعبارات بليغة تدل على عظيم صنع الله، قال ربنا تعالى: (إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنْ الْحَيِّ ذَلِكُمْ اللَّهُ فَأَنَّا تُؤْفَكُونَ * فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) [الأنعام: 95- 96].

تفكر -أيها الإنسان- أليس الله -جل وعلا- هو الذي يحيي الأرض بعد موتها، ويُنبت فيها من الحبوب والثمار ما يكون فيه معاش الخلائق، وهم يرون ذلك بأم أعينهم صباح مساء، وهي مشاهد واقعية تدل على عظمة الخالق -سبحانه-، قال تعالى: (وَآيَةٌ لَهُمْ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ * وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنْ الْعُيُونِ * لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ * سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ) [يس: 33- 36].

التفكر والتأمل هو تصرف القلب في معنى الأشياء للوصول إلى المطلوب، وهو التدبر والاعتبار، وهو عبادة تُمَارس بالقلب والعقل، وتشترك فيها الحواس، والتفكر في أي موضوع من المواضيع يعني إعمال الفكر إعمالاً واسعًا وعميقًا ومنظمًا، وهو زناد القلب، وغذاء الروح، وروح المعرفة، ودم الحياة الإسلامية، وروحها وضياؤها.

أيها الأحباب: أمر الله تعالى الإنسان أن يستخدم هذا العقل، الذي أنعم به عليه فيما يعود عليه بالنفع، ويستخدمه في النظر فيما حوله من المخلوقات العظيمة، التي تحيط به من كل جانب، بل يتفكر في خلق نفسه، إلا أن الناس في ذلك أقسام، وخيرها من وصفهم الله بقوله -سبحانه-: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [آل عمران: 191]، وشرها من قال الله فيهم: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) [الأعراف: 179].

فيتبين بهذا أن التفكر في خلق الله تعالى من صفات المؤمنين الصادقين، أولي الألباب، وأصحاب العقول السليمة الراشدة، فينبغي للمسلم أن يعتني به، فالإنسان مع طول الزمن والغفلة قد يتبلد إحساسه، فيغفل عن النظر والتفكر فيما حوله من المخلوقات العظيمة في هذا الكون الفسيح.

إن التفكر في مخلوقات الله يفتح أبوابًا مغلقة من نور البصيرة في العلوم والأفهام، وتحرير الإنسان من الغفلة والجهل والعصيان، وقد أثنى الله على المتفكرين في كتابه العزيز، قال تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآياتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ) [آل عمران: 190]، وقال تبارك وتعالى: (يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ) [النور: 44].

فعلى العبد أن ينظر في هذا الكون نظر تفكر وتدبر واعتبار؛ ليزداد إيمانًا ويقينًا، قال عمر بن عبد العزيز -رحمه الله-: "التأمل في نعم الله أفضل عبادة"، وقال أبو الدرداء: "تفكر ساعة خير من قيام ليلة"، وقال يوسف بن أسباط: "إن الدنيا لم تُخلق لينظر إليها، بل لينظر بها إلى الآخرة". وعلى هذا، فقد حرص الصالحون على أن يتفكروا وهم يسبّحون الله ويحمدونه أو يكبرونه أو يوحدونه؛ لأن الذكر والفكر يعمّقان معرفة الله في القلب.

أيها المسلمون: لقد خلق -سبحانه- العقل والدماغ والمخ، وأمرنا باستعمالها حسب أمره، بالتفكر في عظمة الله وجلاله وجماله، وآياته ومخلوقاته، واستقبال الوحي والعمل بموجبه، وتعليمه والدعوة إليه، كما أنه خلق القلوب وجعلها محل الإيمان، وأمرنا بالتفكر في الآيات الكونية، والآيات القرآنية، ليزيد الإيمان، فتأتي الطاقة والمحبة والرغبة للقيام بأعمال الدين، وامتثال أوامر الله في جميع الأحوال.

فلله -عزَّ وجلَّ- على العبد في كل عضو من أعضائه أمرٌ، وله عليه فيه نهي، وله فيه نعمة، وله به منفعة ولذة، فإذا قام العبد لله في ذلك العضو بأمره، واجتنب فيه نهيه، فقد أدى شكر نعمته عليه فيه، وسعى في تكميل انتفاعه ولذته به، وإن عطَّل أمر الله ونهيه فيه، عطَّله الله من انتفاعه بذلك العضو، وجعله من أكبر أسباب ألمه ومضرته.

ولله -عز وجل- على كل عبد في كل وقت من أوقاته، عبودية تقدّمه إليه، وتقرّبه منه، وتحبّبه إليه، وكل عضو من أعضاء الإنسان آلة لشيءٍ، إذا استُعمل فيه فهو كماله، فالقلب للتوحيد والإيمان والمعرفة، والعقل للتفكر والتدبر والتذكر، وإيثار ما ينفع على ما يضر، وتقديم المصالح، ودرء المفاسد، والعين آلة للنظر، والأذن آلة للسمع... والعبد كالشجرة آلة للعمل والإنتاج، فمتحرك بطاعة، ومتحرك بمعصية، وداع إلى الخير، وداع إلى الشر، وحامل مسك، وحامل بعر.

يا عباد الله: الفكر والتأمل ليس على درجة واحدة، بل مراتب؛ فأعلى الفكر وأجله، وأعظمه وأنفعه، وأكبره وأشرفه، ما كان لله والدار الآخرة، فما كان لله -تبارك وتعالى- فهو أنواع:

أحدها: التفكر في أسمائه وصفاته وأفعاله، ومعرفة عظمة الله وجلاله، وجماله وكماله من خلال ذلك.

الثاني: التفكر في آيات الله الكونية، والاعتبار بها، والاستدلال بها على أسماء الله وصفاته وأفعاله، وحكمته وإحسانه، وبره وجوده.

الثالث: التفكر في آيات الله المنزّلة، وتعقّلها، وفهم المراد منها.

الرابع: التفكر في آلائه وإحسانه، وإنعامه على خلقه بأصناف النعم، ومعرفة سعة رحمته ومغفرته وحلمه، ودوام الفكر والذكر فيما سبق يزيد الإيمان، ويصبغ القلب بمعرفة عظمة الله، وجماله وكماله صبغة تامة.

الخامس: الفكر في عيوب النفس وآفاتها، وعيوب العمل وآفاته.

السادس: الفكر في واجب الوقت ووظيفته، وجمع الهم كله عليه، فجميع مصالح الدنيا والآخرة إنما تنشأ من حفظ الوقت، ومن أضاعه ضاعت مصالحه الدنيوية والأخروية.

أيها الأحبة: إن كل ما في الوجود مما سوى الله فهو فعل الله وخلقه، فكل ذرة من الذرات، وكل قطرة من القطرات، وكل حركة من الحركات، وكل مخلوق من المخلوقات، كل ذلك فيه آيات وعجائب، تظهر بها حكمة الله وقدرته، وجلاله وعظمته، وإحصاء ذلك غير ممكن.

فقد أمرنا الله -عزَّ وجلَّ- بالنظر والتدبر والتأمل والتفكر في ذلك؛ لأن في كل ما خلق الله آية، فخلق السماء آية، وجمالها آية أخرى، وعلوها آية ثالثة، وعظمتها آية أخرى، وفي السماء آيات وعبر، فالشمس آية، وإنارتها آية، وجريانها آية. والقمر آية، وإنارته آية، وتغير أحواله آية، وسيره آية، وفي طلوع الشمس والقمر آية، وفي غروبهما آية... قال الخالق العظيم: (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا * وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا) [نوح: 15-16].

وكذا ففي الأرض آيات وعبر وعظات: نباتات متنوعة، وحيوانات مختلفة، وأنهار وبحار، وسهول وجبال، وجواهر ومعادن، وأزهار وثمار، وحجارة ورمال. فمن ينظر؟ ومن يتفكر؟ ومن يتدبر؟ قال الحق -سبحانه-: (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ * وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) [ق: 6- 8]، فما بين السماء والأرض آيات وعجائب: سحب وغيوم، ورعد وبرق، وأمطار وثلوج، وصواعق وشُهب، ورياح وعواصف، وطيور وذرات، وحرارة وبرودة، وليل ونهار. فهذه الأجناس في السموات والأرض وما بينهما، أصناف وأنواع لا يحصيها إلا الله، قال -سبحانه-: (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى) [الأعلى: 2- 3].

وجميع هذه المخلوقات مجال الفكر والتفكر، والنظر والتدبر، والاعتبار والاستبصار، فلا تتحرك ذرة في السماء والأرض من مَلَك وإنسان، وحيوان ونبات، وماء وجماد، ولا فلك ولا كوكب، إلا والله تعالى هو محرّكها ومجريها، وفي حركتها حِكَم وأسرار، وكل ذلك شاهد لله بالوحدانية، ودالّ على عظمته وجلاله، وحكمته وقدرته، وآلائه وإحسانه، وعظمة ملكه وسلطانه.

يا عباد الله: من أجل أنواع التفكر وأقسامه: الفكر في أسماء الرب وصفاته، وفي أفعاله وأحكامه، وهذا التفكر والتأمل يمنح العبد القدرة على التمييز بين الإيمان والكفر، والتوحيد والشرك، ووصف الله بما هو أهله من العزة والجبروت، والكبرياء والعظمة، والجلال والإكرام، وتنزيهه عما لا يليق به.

أيها الأحباب: إن أنفع شيء للقلب هو تدبر كلام الله -عزَّ وجلَّ-، والتفكر فيه، فهو الذي يولد التعظيم للمعبود، ويورث المحبة والشوق، والخوف والرجاء، والصبر والشكر، وسائر الأحوال التي بها حياة القلب، وكماله واستنارته، وكذلك تدبر القرآن يزجر العبد عن جميع الصفات المذمومة، والأفعال السيئة التي يحصل بها فساد القلب وهلاكه.

إن النظر والتدبر والتفكر من أعظم أنواع العبادة، وهذا الكون العظيم معرض هائل واسع لإبداع قدرة الرب، وعظمة خلقه، والتذكير بالخالق المبدع الذي خلق كل شيء. وذلك يبهر الإنسان، ويشعره بالعجز المطلق عن الإتيان بشيء منه أصلاً.

فعلى الإنسان أن يتفكر في آيات ربه المسموعة وهي القرآن، قال الله -جل وعلا-: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) [ص: 29]، ويتفكر في آياته المشهودة وهي المخلوقات قال -سبحانه-: (قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ) [يونس: 101].

عباد الله: القرآن الكريم حثَّ على التدبر والاعتبار الذي هو مفتاح الأنوار ومبدأ الاستبصار، والنظر في نعم الله -عز وجل- من أعظم العبادة، وهو شبكة العلوم ومصيدة المعارف والفهوم، وأكثر الناس قد عرفوا فضله ورتبته، ولكن جهلوا حقيقته وثمرته ومصدره، وقد كان السلف الصالح على جانب عظيم من هذا الأمر، فكانوا يتفكرون في خلق الله، ويتدبرون آياته ويحثون على ذلك، يقول أحدهم: "ما طالت فكرة امرئ قط إلا فَهِمَ، ولا فهم إلا علم، ولا علم إلا عمل". ولما سألت أم الدرداء: "ما كان أفضل عبادة أبي الدرداء؟" قالت: "التفكر والاعتبار".

الأحبة الكرام: وللتفكر والتأمل فوائد كثيرة، منها: الاتصال الدائم بالله تعالى؛ لأن التفكر عبادة لله تعالى بأسمائه وصفاته وأفعاله، وذلك يورث الخشية والخشوع ودوام التوجه إليه، وتكثير العلم واستجلاب المعرفة، والعلم هو الثمرة الخاصة للتفكر، وإذا حصل العلم في القلب تغير حال القلب، وإذا تغير حال القلب تغيرت أعمال الجوارح إلى الأحسن والأفضل.

ومنها: ترسيخ الإيمان وتنميته إلى درجة اليقين: حيث إن التفكر في خلق الله، ودراسة الظواهر المختلفة، يرسخ الإيمان، ويبلغ به درجة اليقين.

ومنها: مخافة الله والشعور برقابته: عندما يشعر الإنسان بمخافة الله، ويحس بدوام وجوده معه، فهذا يبعده عن المعصية، ويصرفه عن السقوط في الجريمة والفساد، قال تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [آل عمران: 135].

ومن فوائد التفكر والتأمل: تحصيل محبة الله تعالى، فأصل المعرفة التفكر، وثمرة المعرفة المحبة، والمحبة غاية كل مؤمن صادق، ومحبة الله تحصل من التفكر في النعم؛ لأن النفس مجبولة على محبة من أحسن إليها.

أيها الأحبة: موضوع التفكر والتأمل هو دعوة لتذكر نعم الله علينا التي تغمرنا من فوقنا ومن تحت أقدامنا، قال الله تعالى: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا) [إبراهيم: 34]، صحة في بدن، أمن في وطن، غذاء وكساء، وهواء وماء، لديك الدنيا وأنت ما تشعر، تملك الحياة وأنت لا تعلم (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً) [لقمان: 20].

إيها الإنسان: لديك عينان، ولسان وشفتان، ويدان ورجلان (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) [الرحمن: 13]، فليست مسألة سهلة أن تمشي على قدميك، وقد بُترت أقدام، وأن تعتمد على ساقيك، وقد قُطعت سُوق، أيسير أن تنام ملء عينيك وقد أطار الألم نوم الكثير، وأن تملأ معدتك من الطعام الشهي، وأن تشرب من الماء البارد العذب وهناك من عُكر عليه الماء فلا يجده.

تفكر في سمعك، وقد عُوفيت من الصمم، وتأمل في نظرك، وقد سلمت من العمى، وانظر إلى جلدك وقد نجوت من البرص والجذام، والمح عقلك وقد أنعم عليك بحضوره ولم تُفجع بالجنون والذهول.

كيف تعيش مهمومًا مغمومًا كئيبًا وعندك الخبز الدافئ والماء البارد، والنوم الهانئ، والعافية في الجسد؟! تتفكر في المفقود، ولا تشكر الموجود؛ لنجعل لأنفسنا أوقاتًا نتأمل فيها أنفسنا، ومخلوقات الله، نتفكر بها بآيات الله وعظمته في بديع صنعه، يقول الله تعالى في كتابه العزيز: (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) [البقرة: 219].

والتفكر في خلق الله عبادة، ومن هنا كان هذا الخلق العظيم سمة من سمات المؤمنين المتقين، ولذلك رأينا السلف الصالح يكثر من التفكر، ولا يتكلمون سوى في أمر ذي بال، وإلا نبذوه وهجروه، وهذا ما نطمح إليه من شباب هذه الأمة التي جعلها الله تعالى خير الأمم، فالأجيال الناشئة والتي تعرضت وتتعرض يوميًّا لحملات غزو فكري غربي مدمر لم تقم بحسن التفكر في خلق الله، بل إن منهم من زيَّن له سوء عمله، فراح يتجرأ، ويدعي التفكر في ذات الله، ناسيًا حديث أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "تَفَكَّرُوا فِي خَلْقِ اللَّهِ، وَلَا تَفَكَّرُوا فِي اللَّهِ فَتَهْلِكُوا" [أخرجه أبو نعيم في الحلية وحسنه الألباني في صحيح الجامع (2976)].

وقد بكى عمر بن عبد العزيز-رحمه الله- يومًا بين أصحابه، فسُئل عن ذلك. فقال: "فكَّرت في الدنيا ولذاتها وشهواتها، فاعتبرت منها بها، ما تكاد شهواتها تنقضي حتى تكدرها مرارتها، ولئن لم يكن فيها عبرة لمن اعتبر، إن فيها مواعظ لمن ادكر". وروي عن الشافعي -رحمه الله- أنه قال: "استعينوا على الكلام بالصمت، وعلى الاستنباط بالفكر". وعن الإمام مالك -رحمه الله- أن هارون الرشيد سأله: "ما دليل قدرة الواحد الأحد؟" فقال الإمام مالك: "اختلاف الأصوات، وتعدد اللهجات، واختلاف النغمات، تدل على فاطر الأرض والسماوات".

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:

أيها المسلمون: إن مشكلة أجيالنا الناشئة أنهم تعلموا الكلام، ولكنهم غفلوا عن التمييز بين الصالح وبين الطالح منه، أتقنوا المناقشات والحوارات، وفشلوا في الوصول إلى عبرة الصمت، وقد قيل: "من لم يكن كلامه حكمة فهو لغو، ومن لم يكن سكوته تفكرًا فهو سهو، ومن لم يكن نظره اعتبارًا فهو لهو".

التفكر والتدبر، وذكر الله -عز وجل- ينبغي على كل مسلم في كل حين عند العمل، وعند النوم، وعند الأكل، وعند الزواج، وكل أمر يقوم به بنية الطاعة لله، يقول المولى -سبحانه- وتعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً* هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا) [الأحزاب: 41 - 43].

لقد حرص علماؤنا وأئمتنا وسلفنا الصالح على فضيلة التفكر بصدق وخشوع وإخلاص، فأنعم الله تعالى عليهم بالعلم والقناعة، والرزق والصلاح والتقوى؛ فلنتق الله -عز وجل-، ولنتفكر في خلقه حق التفكر، ولنتدبر تمام التدبر؛ لنكون بحق مسلمين، ومن أتباع خاتم المرسلين وسيد العالمين محمد -عليه الصلاة والسلام-.

فيا أيها العبد الضعيف: عما ذا تبحث وفي ما ذا تتفكر، أمام ناظريك كون مليء بالمخلوقات، والكائنات، من حيوانات وسوائل وجمادات، والتي لا يمكن حصرها، ولا الوصول إلى قعرها، فبصرك كليل، وفكرك عليل، ألم يأن لك أن تستجيب لمن هذا خلقُه وصنعُه، ومن هذه حكمته وقدرته؟، فكيف يسوغ لعبد عرف من عظمة الله وقوته وقهره وجبروته ثم يبقى على عصيانه، ويستمر في طغيانه؟.

الأحبة في الله: من كان هذا ملكه، وهذا خلقه، وهذه قدرته، وهذه رحمته، يجب أن يُطاع فلا يعصى، ويشكر فلا يكفر، ويُذكر فلا ينسى: (فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآَنُ لَا يَسْجُدُونَ) [الانشقاق: 20، 21].

وخلاصة القول: إن إبداع هذا الكون، وضخامته الهائلة، وتناسقه، وجريانه وفق نظام دقيق، وتنوع مخلوقاته عددًا وشكلاً وحجمًا وصفةً، يُنبئ عن عظمة مُبدِعه، وهذا يهدي المتأمِّل فيها إلى قدرة الله -عز وجل-، فتنجذب النفوس إلى الإيمان، وتتفجَّر ينابيع التسبيح والإقرار بتلك العظمة والقدرة من قلبه على لسانه.

وخلاصة القول إن المتأمل بعين البصيرة يدرك أن هذا الكون بما فيه لم يُخلق عبثًا، ولا باطلاً، قال الله: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) [ص: 27]، فلا يملك الإنسان بعد كلِّ هذه الدلائل إلا أن يتوجَّه إلى خالقه، ومالكه، خاشعًا متضرِّعًا، معلنًا قناعته بحكمته تعالى في خلق المخلوقات، قائلاً: (رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [آل عمران: 191].

اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهوّن به علينا مصائب الدنيا، ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا من لا يرحمنا.