الحيي
كلمة (الحيي ّ) في اللغة صفة على وزن (فعيل) وهو من الاستحياء الذي...
العربية
المؤلف | عمر بن عبد الله المقبل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - الحكمة وتعليل أفعال الله |
كم من مريض كان المرض فرصةً له لمحاسبة نفسه، وكم من مريض كانت أيام مرضه أسعد أيام حياته؛ حين شرح الله صدرَه للتوبة والأوبة، بعد أن وجد فرصةً للتفكير في مستقبله الأخروي الباقي، بدلاً من الركض في هذه الدار الفانية.. ومن حِكم الله في المرض: أنه يكسر النفس، فتكون أقرب إلى الله منها في حال الصحة غالباً، وتستخرج به عبودية التذلل لله –تعالى-، والافتقار إليه سبحانه، فالصحيح الذي يتحرك، ويمشي في مناكب الأرض؛ قد يغفل وقد ينسى، أما المريض فهو -غالباً- أقرب وأكثر انكساراً..
الخطبة الأولى:
الحمد لله يعطي ويمنع، ويخفض ويرفع، يبتلي بالسراء والضراء، والشدة والرخاء، وهو العليم الحكيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أثنى عليه خليله الأول فقال: (وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ)[الشعراء: 80].
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي تقلّب في أنواع العبودية لرب العالمين، وعلّم أمتَه أنهم في شدتهم ورخائهم، وعسرهم ويسرهم؛ مربوبون للرحمن الرحيم، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الغر الميامين، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، الحمد لله الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل، وهو على كل شيء قدير.
أما بعد: فإن الله ينوِّع على عباده الأحوال، ويقلّب عليهم الأمور، ليستخرج بذلك أنواعاً من العبودية لم تكن لتخرج لولا هذا التنوع والتقليب، فيرفع الله بذلك أقواماً ويضع آخرين!
ومِن تلكم الأحوال التي يبتلي الله بها عباده: حال المرض بعد الصحة ذلك أن الصحة في الأبدان من أعظم نعم المنان، فبالصحة ينشط العبدُ للقيام بحقوق نفسه وحقوق غيره، ومع المرض يضعف ذلك وربما ينقطع.
ولكن المؤمن -وليس غير المؤمن- ينظر لهذه الأحوال نظرةً أخرى تختلف عن غيره، فهو كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء، صبر فكان خيراً له»(صحيح مسلم ح: 2999).
وفي البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَن يرِد الله به خيراً يُصَبْ منه" (صحيح البخاري ح: 5645) فالمرض للمؤمن علامة على إرادة الله بصاحبه الخير.
فسبحان مَن رحم عباده في حال قوتهم وضعفهم، فأكرمهم بأنواع من الكرامات حال المرض، لا تتحقق لهم حال الصحة، فمنها:
1- استخراج عبودية الضراء في حال المرض، يقول ابن القيم -رحمه الله-: "فإن الله –سبحانه- لم يبتله ليهلكه، وإنما ابتلاه ليمتحن صبره وعبوديته، فإن لله -تعالى- على العبد عبودية الضراء، وله عبودية عليه فيما يكره، كما له عبودية فيما يحب، وأكثر الخلق يعطون العبودية فيما يحبون، والشأن في إعطاء العبودية في المكاره، ففيه تفاوت مراتب العباد، وبحسبه كانت منازلهم عند الله تعالى"(الوابل الصيب من الكلم الطيب، ص5).
2 - تكفير الذنوب والخطايا التي لا يكاد ينفك عنها العبد: وهي داخلة تحت عموم قوله تعالى: (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ)[الشورى:30]، وفي الصحيحين عنه -صلى الله عليه وسلم- قال: «ما يصيب المسلم، من نصب ولا وصب، ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه» (انظر: صحيح البخاري ح:5641، واللفظ له، وصحيح مسلم ح: 2572).
وفي صحيح مسلم: «ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها إلا كتبت له بها درجة، ومحيت عنه بها خطيئة» (صحيح مسلم ح: 2572)، فالمريض لا تكفّر ذنوبه فحسب، بل ترفع درجاته عند الله.
ولمّا دخل النبي -صلى الله عليه وسلم- على أم السائب أو أم المسيب فقال: «ما لك؟ يا أم السائب أو يا أم المسيب تزفزفين؟» قالت: الحمى، لا بارك الله فيها، فقال: «لا تسبِّي الحمى، فإنها تذهب خطايا بني آدم، كما يذهب الكير خبث الحديد» (مسلم ح: 2575).
وفي الترمذي وصححه: "ولا يزال البلاءُ بالمؤمن في أهله وماله وولده حتى يلقى اللهَ وما عليه خطيئة"(صحيح ابن حبان ح: 2913، سنن الترمذي ح: 2399). فأي كرمٍ إلهي هذا! حتى الشوكة التي نكره المشي عليها نؤجر! حتى الهمّ الذي يصيبنا بسبب دنيوي يُكفّر الله به عنا! حتى المرض الذي لا تحبه النفوس فطرةً هو محرقة لسيئاتنا! ولهذا قال بعض السلف: "لولا مصائب الدنيا لوردنا القيامة مفاليس" (صفة الصفوة: 2/ 251).
3- ومن حِكم الله في المرض: أنه يكسر النفس، فتكون أقرب إلى الله منها في حال الصحة غالباً، وتستخرج به عبودية التذلل لله –تعالى-، والافتقار إليه سبحانه، فالصحيح الذي يتحرك، ويمشي في مناكب الأرض؛ قد يغفل وقد ينسى، أما المريض فهو -غالباً- أقرب وأكثر انكساراً، وهذا يظهر على صفحات وجوه المرضى! فكم من متكبر كسره المرض! وكم من طاغية شامخ بأنفه أرغمه الله في التراب فكسره بالمرض!
وفي الوقت ذاته، فكم من مريض كان المرض فرصةً له لمحاسبة نفسه، وكم من مريض كانت أيام مرضه أسعد أيام حياته؛ حين شرح الله صدرَه للتوبة والأوبة، بعد أن وجد فرصةً للتفكير في مستقبله الأخروي الباقي، بدلاً من الركض - دون وعي - في هذه الدار الفانية، وهذا المعنى يظهر لمن تأمل قوله تعالى: (وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)[الأعراف: 168].
4 - استخراج عبودية الصبر: التي هي من أعظم مقامات العبودية، كما قال -تعالى- عن صفوة خلقه من الأنبياء: (كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ)[الأنبياء: 85]، وهي سبب لمعية العبد: (وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ)[الأنفال: 66]، والصابرون لهم أجرٌ لم يذكر في القرآن مثله: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ)[الزمر: 10]، ويتأكد هذا حين يشتد المرض، ويعظم البلاء.
5 - ومن فوائد المرض: أن العبد تكون له عند الله منزلةٌ لا يبلغها بعمله، فيبتليه الله بأنواع من الابتلاءات -ومنها المرض- فيرتفع رفعةً يتمنى معها أن لو عاش حياته كلها ابتلاءات، لولا أننا مأمورون بسؤال الله العافية.
روى الإمام أحمد وابن حبان في صحيحه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الرجل ليكون له عند الله المنزلة فما يبلغها بعمل، فما يزال يبتليه بما يكره حتى يبلِّغه إياها" (مسند أحمد ح: 22338، صحيح ابن حبان ح: 2908).
6- ومن فوائد المرض: معرفة قيمة العافية والصحة، ومن مشهور الحكم: "الصحة تاج على رؤوس الأصحاء لا يراها إلا المرضى"، فيعتَبِر بذلك عند معافاته؛ فيغتنم صحته قبل مرضه، ونشاطه قبل ضعفه، وشبابه قبل هرمه.
7- ومن فوائد المرض البدنية: أنه سبب في استخراج بعض الأمراض التي سبب وهنه، وطرد ما فيه من سموم، وخلايا ميتة، فيتجدد بذلك نشاطه، وتعود عافيتُه، وقد يكون ذلك أنفع له من كثير من الأدوية.
هذه يا عباد الله غيض من فيض، من فوائد الابتلاء بالمرض، وما لم يُذكر أكثر، وإنما هي إشارة تذكِّر الغافل، وتنبِّه الناسي، وصدق الشاعر إذ يقول:
قد يُنعم اللهُ بالبلوى وإن عظُمت | ويَبتلي اللهُ بعضَ القوم بالنعم |
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ....
الخطبة الثانية:
الحمد لله ... أما بعد:
فيكاد يستولي الحديثُ عن انتشار فيروس "كورونا" على حديث المجالس هذه الأيام، وهذا شيء طبعي، ولكن هل من المقبول أن تتوقف أحاديثُنا على نقل أخبار أعداد المصابين والموتى به؟ والتحليل؟ وربما وصل الأمر إلى رصد المؤامرات في هذا الموضوع!
إن المؤمن له في كل شيء فكرة وعبرة، ومن ذلك أخبار أمثال هذه الأمراض والفيروسات والأوبئة التي تقع بين حين وآخر، وفي أمكنة متفاوتة من العالم! ومن العِبَر في هذا:
أولاً: أن في انتشار هذا الوباء عبرة وعظة! ودلالة على قدرة الرب عز وجل وضعف المخلوقين مهما أوتوا من قوة، ففيروس صغير، يُقلق دولاً، ويُفزع ما شاء الله أن يفزِع، وهو فيروس لا يُرى إلا بالمجاهر الدقيقة!
وقبل أعوام كان الفزع مِن حمى الوادي المتصدع، الذي هو عبارة عن حشرة بعوض! ثم أنفلونزا البقر، ثم الدجاج ... تُعْمَلُ الاحتياطات الشديدة لمحاصرته، ومع ذلك لا يحصل المطلوب كله! فمن الذي سلّط هذه المخلوقات الضعيفة على الحيوانات والبشر، التي هي أكبر منه بمئات المرات؟ إنه الله عز وجل، فهل عرف العبادُ ضعفهم؟
ثانياً: أن يتأمل العبدُ لطفَ الله بعباده، فإنه لو شاء سبحانه لسلّطه على البلاد كلها، ولحصد ما حصد من الأموال والأنفس والثمرات، لكنه الله -تعالى- لطيف رحيم.
ثالثاً: هل تُحدِث أمثال هذه الأخبار توبةً وأوبةً وإنابة؟ (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ * ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ)[الأعراف: 94، 95].
وتقدير الكلام: أنه ابتلاهم بالشدة ليتضرعوا، فما فعلوا شيئاً من الذي أراد الله منهم، فقلب الحال إلى الرخاء ليختبرهم فيه؛ ولهذا قال: (ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ) أي: حوَّلنا الحال من شدة إلى رخاء، ومن مرض وسقم إلى صحة وعافية، ومن فقر إلى غنى؛ ليشكروا على ذلك، فما فعلوا، فابتلاهم بهذا وهذا ليتضرعوا وينيبوا إلى الله، فما نجع فيهم لا هذا ولا هذا، ولا انتهوا بهذا ولا بهذا، بل قالوا: قد مسنا من البأساء والضراء، ثم بعده من الرخاء مثل ما أصاب آباءنا في قديم الدهر! وإنما هو الدهر تارات وتارات! ولم يتفطنوا لأمر الله فيهم، ولا استشعروا ابتلاء الله لهم في الحالين، وهذا بخلاف حال المؤمنين الذين يشكرون الله على السراء، ويصبرون على الضراء" (ينظر: تفسير ابن كثير: 3/ 450).
اللهم تقبل من مات بهذا الوباء، واشف من مرض به، وانشر عافيتك على عبادك، وارحمهم ولا تؤاخذنا بذنوبنا ولا بما فعل السفهاء منا.