الرءوف
كلمةُ (الرَّؤُوف) في اللغة صيغةُ مبالغة من (الرأفةِ)، وهي أرَقُّ...
العربية
المؤلف | محمد بن سليمان المهنا |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الصيام |
إن صيام التطوُّع من أعظم شُعب الإيمان، وأجلِّ خصال التعبُّد، ولذا تظافرت أدلَّة الكتاب والسُنَّة في الحثِّ عليه، ومدح أهله، وعِدتهم بالأجر العظيم، والثواب الكريم. من ترك لله طعامه وشرابه وشهوته، عوَّضه الله...
الخطبة الأولى:
إنِ الْحَمْدَ لِله، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، ونَعُوذُ بِالله مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70 - 71].
أما بعد:
أيها المسلمون: فإن صيام التطوُّع من أعظم شُعب الإيمان، وأجلِّ خصال التعبُّد، ولذا تظافرت أدلَّة الكتاب والسُنَّة في الحثِّ عليه، ومدح أهله، وعِدتهم بالأجر العظيم والثواب الكريم، قال الله -تعالى-: (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) [التوبة: 112]، والسائحون: هم الصائمون..
وقال تعالى: (وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 35].
وقال عزَّ وجلَّ وهو يذكر نداءه لأهل الجنة: (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ) [الحاقة: 24] قال مجاهد بن جبر إمام التفسير: "نزلت هذه الآية في الصائمين".
قال ابن رجب -رحمه الله-: "من ترك لله طعامه وشرابه وشهوته، عوَّضه الله خيراً من ذلك: طعاماً وشراباً لا ينفد، وأزواجاً لا تموت"..
ومن هنا كان من الخير للمؤمنين أن يتواصوا على صيام التطوع لا سيما وقد ثّقفهم شهر الصبر، وصقلتهم مدرسة الصيام، ليستقبلوا عامهم بنية صالحة، وعزيمة ماضية على مواصلة هذا العمل الصالح الذي يحبه الله ويحب أهله.
فأفضل صيام التطوع -يا عباد الله- صيام داود -عليه السلام-، كان يصوم يوماً ويفطر يوماً، وبه نصح النبي -صلى الله عليه وسلم- عبد الله بن عمرو بن العاص حينما بلغه أنه يصوم الدهر، فنصحه بصيام ثلاثة أيام من كل شهر، فقال: "إني أطيق أكثر من ذلك، فزاده، فقال: إني أطيق أكثر من ذلك، فما زال به حتى قال له: "صم أفضل الصيام عند الله صومَ داود كان يصوم يوما ويفطر يوما"، فقال عبد الله: إني أطيق أفضل من ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: "لا أفضل من ذلك".
وسبب نصيحة النبي -صلى الله عليه وسلم- لعبد الله أن لا يقوم الليل كله، ويصوم الدهر كله؛ أنه خشي عليه من الملل والفتور المفضي إلى ترك العبادة بالكلية، ولذلك قال له عليه الصلاة والسلام كما في هذا الحديث المخرج في الصحيحين: "إنك إذا فعلت ذلك نَفِهَت له النفس، وهجمت له العين".
ومن أفضل الصيام: ما وردت به الأحاديث النبوية كصيام الاثنين وحديثه في صحيح مسلم، وصيام الخميس وحديثه في السنن، وصيام الأيام البيض، وحديثها في السنن أيضاً.
ومن لم يصم الاثنين والخميس أو أحدهما، فليصم ثلاثة أيام من كل شهر، سواء كانت متتابعةً أو متفرقةً، وهي وصية النبي -صلى الله عليه وسلم- لعدد من أصحابه، قال أبو هريرة: "أوصاني خليلي -صلى الله عليه وسلم- بثلاث: صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أُوتر قبل أن أنام" [متفق عليه].
وعن عبد الله بن عمرو -رَضِيَ الله عَنهُما- قال: قال رَسُول الله -صلى الله عليه وسلم: "صوم ثلاثة أيام من كل شهر صوم الدهر كله" [مُتَّفقٌ عَلَيه].
ومن صام الاثنين من كل أسبوع تحصّل له صوم أربعة أيام أو خمسة من كل شهر.
نسأل الله من فضله وقبوله وبركاته.
ومن السُنن: صيام الست من شوال والعشر من ذي الحجة وشهر شعبان، وشهر الله المحرم وآكده عاشوراء.
فيا متبعي السُّنَّة، يا طلَّاب الجنة، أيها المشتاقون إلى باب الريان، يا من امتلأت قلوبهم بحب الله وتعظيمه والشوق إلى لقائه وثوابه: قدِّموا ما يحبُّه الملك القدوس على ما تهواه هذه النفوس: (وَقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلاَقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) [البقرة: 223].
(وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [المزمل: 20].
الخطبة الثانية:
أما بعد:
أيها المسلمون: صيامُ السِت من شوال سُنةٌ ثابتةٌ عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: "من صام رمضان وأتبعه سِتاً من شوال، كان كصيام الدهر" [رواه مسلم].
وكثيرٌ من الصالحين يبدؤون صيامها من اليوم الثاني من شوال، وفعلهم "بلا شك" دليل خير وحرص وحزم، وهو الأفضل والأكمل -والله أعلم-؛ لعموم قوله تعالى: (فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ) [البقرة: 148].
لكنَّ جماعةً من السلف استحبُّوا تأخير الصوم، واستحسنوا أن لا يبدأ الإنسان به إلا بعد مضي بضعة أيام من شوال، من أجل أن يستمتع بأيام العيد، فإن أيام عيد الفطر كأيام عيد الأضحى: أيامُ أكل وشرب. وهذا قول معْمَرْ، وقولُ عبد الرزاق، ويُروى عن عطاء بن أبي رباح -رضي الله عنهم-.
ويتأكَّد هذا المعنى حين يُدعى المسلم إلى طعام، فإن تطييب خاطر الداعي بتناول الطعام أولى من المبادرة إلى صيام الست؛ كما في الحديث الذي أخرجه البيهقي والدار قطني عن أبي سعيد الخدري أنه قال: "صنعت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- طعاما فأتاني هو وأصحابه فلما وُضع الطعام قال رجل من القوم: إني صائم، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "دعاكم أخوكم وتكلف لكم! ثم قال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: : "أفطر وصم مكانه يوما إن شئت".
والآن -يا عباد الله- وقد مضى ثلث شوال، فإننا نقول لمن فرغ من صيام السِت: أحسنت وأجملت، وتقبل الله منا ومنك.
ونقول لمن لم يصم بعدُ: استعن بالله وابدأ في صيامها سواء كانت متتابعة أو متفرقة، وسواءً صُمتها الآن أو بعد بضعة أيام، المهم أن لا ينقضي شوال إلا وقد أتممت صيامها.
اللهم قوِّنا على العمل الصالح، ووفقنا لاتباع السنة، وأعِنَّا على ذِكرك وشكرك وحسن عبادتك.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إبراهيم وعلى آل إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إبراهيم وعلى آل إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حميد مجيد.