العلي
كلمة العليّ في اللغة هي صفة مشبهة من العلوّ، والصفة المشبهة تدل...
العربية
المؤلف | عبد الله المؤدب البدروشي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - المنجيات |
من صفات القلوب القاسية: عدم التأثر بالقرآن، فلا ينشرح القلب عند سماع آيات النعيم وذكر الجنة، ولا يعرف الخوف ولا الخشية من ذكر عذاب النار وأهوال الجحيم؛ فكأن الأمر لا يعنيه؛ فانظر -أيها المؤمن- لعلاقتك بالقرآن هل تخشع عند قراءته؟ هل تبكي عند تلاوته؟ هل تتأثر عند سماعه ..
الحمد لله الذي وفق قلوب أوليائه لشرعه المتين، وملأها ذكراً؛ فنهلت من أصفى معين، واهتدت بهديه للإيمان والحق المبين، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة المخلصين له الدين، العاملين بأمره المتبعين لهدي الصادق الأمين.
وأشهد أن سيدنا وحبيب قلوبنا وأسوتنا وقدوتنا محمداً عبده ورسوله، سيد الأولين والآخرين، وخاتم الأنبياء والمرسلين، والرحمة المهداة للخلق أجمعين؛ اللهم صل عليه وعلى آله الأكرمين الأطهرين، وعلى صحابته السادة الغر الميامين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الإخوة في العقيدة: أعز ما في الإنسان قلبه الذي بين جنبيه؛ جعل الله لهذا القلب إرادة فاعلة، وخصه بالقدرة على توجيه الإنسان في هذه الحياة؛ فإن كان قلباً ذاكراً شاكراً خاشعاً منفتحاً على طاعة الله، وعمل الصالحات؛ سعد صاحبه في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
وإن كان قلباً غافلاً لاهياً جشعاً منصرفاً إلى المعاصي والمحرمات لا يزن أعماله إلا بميزان الربح والفائدة، ولوكان ذلك على حساب إيمانه وأمانته؛ جر صاحبه إلى شقاء الدنيا وعذاب الآخرة، أورد الإمام البخاري في صحيحه قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ".
هذا القلب القائد والمتحكم؛ حدثنا عنه الحبيب المصطفى -صلى الله عليه وسلم-؛ فقال: "إِنَّمَا سُمِّىَ الْقَلْبُ مِنْ تَقَلُّبِهِ إِنَّمَا مَثَلُ الْقَلْبِ كَمَثَلِ رِيشَةٍ مُعَلَّقَةٍ في أَصْلِ شَجَرَةٍ يُقَلِّبُهَا الرِّيحُ ظَهْراً لِبَطْنٍ" رواه الإمام أحمد.
ولا يثبت القلب إلا بالإيمان، ولا يصلح القلب إلا بالدين؛ فالقلب الثابت هو القلب الذي عَمَرَ أرجاءَه الإيمانُ بالله، والقلب الثابت هو القلب الذي طهرته شرائع هذا الدين؛ لكنّ الإنسان شديد النسيان، كثير الغفلة منسوب إلى الخطأ؛ فيخطئ، وتتسرب إلى القلب المعاصي؛ فيضعف الإيمان قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا أَذنَبَ كَانَتْ نُكْتَة ٌسَوْدَاءُ فِي قَلْبِهِ، فَإِنْ تَابَ وَنَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ؛ صُقِلَ قَلْبُهُ، وَإِنْ زَادَ زَادَتْ حَتَّى يَعْلُوَ قَلْبَهُ ذَلكَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ: (كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [المطففين:14]" رواه الإمام أحمد.
ويقول الحبيب المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، والحديث من صحيح كنوز السنة: "إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب -الإيمان يبلى- فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم".
ونسألك اللهم أن تجدد الإيمان في قلوبنا.
ومن هنا؛ فإن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، فإذا توالت المعاصي على القلوب؛ قست القلوب، والله جل جلاله توعد أصحاب القلوب القاسية بالويل والثبور؛ فقال جل جلاله: (فَوَيلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [الزمر:22].
فما هي صفات القلوب القاسية؟ تعالوا نستعرضها؛ لكي نحذر منها، وإن وجدنا بعضها في قلوبنا طهرنا قلوبنا منها.
من صفات القلوب القاسية: عدم التأثر بالقرآن، فلا ينشرح القلب عند سماع آيات النعيم وذكر الجنة، ولا يعرف الخوف ولا الخشية من ذكر عذاب النار وأهوال الجحيم؛ فكأن الأمر لا يعنيه؛ فانظر -أيها المؤمن- لعلاقتك بالقرآن هل تخشع عند قراءته؟ هل تبكي عند تلاوته؟ هل تتأثر عند سماعه؟ فالله عز وجل حدد عباده المؤمنين بقوله: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) [الأنفال:2]، فإن وجدت في قلبك خشية فالزمها وقوّها وكثـّرها، وإن لم تجد؛ فافتح لك صفحة جديدة مع كتاب الله، واعلم أنك أمام كلام الله، وأنه الحق هو الحق، وأنه الصدق عين الصدق، وتذكر أنك ملاقيه وراجع إليه.
كنْ رَابطَ الجَأشِ وارْفَع رايةَ الأمـلِ | وَسِر إلى الله في جِـدٍ بـلا هَـزَلِ |
وإن شَعرتَ بنقصٍ فيك تَعْرفهُ فَغَذ | ّ رُوحَـك بالقـرآنِ واكْتَـمِــلِ |
وحَارِب النفسَ وامْنَعْهـا غِوَايَتَهـا | فالنَّفسُ تَهوَى الذي يَدعُو إلى الذَّللِ |
ومن صفات القلوب القاسية: عدم شغفها بالعبادة إذا سمع نداء الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، إن لم يكن لديه ما يشغله؛ تراخى في الذهاب إلى أن تقام الصلاة، وإن شغله أمر؛ فيؤخرها لوقت فراغه، والله جل جلاله فرض الصلاة على المؤمنين في أوقات محددة؛ فقال -تبارك وتعالى-: (إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا) [النساء:103].
وجعلها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المساجد، وحبب إليها برفع الدرجات، وحط الخطيئات، وزيادة الحسنات، ولما علم -صلى الله عليه وسلم- أن أناساً لا يحضرون الجماعة؛ غضب وأقسم أمام أصحابه، -والحديث من صحيح الإمام البخاري- قال: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِحَطَبٍ فَيُحْطَبَ ثُمَّ آمُرَ بِالصَّلَاةِ فَيُؤَذَّنَ لَهَا ثُمَّ آمُرَ رَجُلًا فَيَؤُمَّ النَّاسَ ثُمَّ أُخَالِفَ إِلَى رِجَالٍ فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ".
كلمات سمعها الصحابة وأطاعوا، وبلغت إلى سلفنا الصالح؛ فحدثنا التاريخ عن حرصهم على الصلاة في بيوت الله، سيد التابعين سعيد بن المسيب -رحمه الله رحمة واسعة- يوم حضرته الوفاة إلتفت إلى بناته فرآهن يبكين، قال لهن: "علام البكاء؟ والله ما فاتتني تكبيرة الإحرام مع الإمام أربعين عاماً، وما رأيت ظهر مُصلٍّ في الصلاة أبدًا".
ثابت بن عامر بن عبد الله بن الزبير كان كثيراً ما يدعو الله فيقول: "اللهم أمتني الميتة الحسنة، قالوا له: وما الميتة الحسنة؟! قال: أن يتوفاني ربي وأنا ساجد"، واشتد به المرض، وحان وقت صلاة المغرب، وسمع النداء الله أكبر الله أكبر حي على الصلاة حي على الفلاح، قال لأبنائه: "أقعدوني واحملوني إلى المسجد، قالوا يا أبانا: عذرك الله، أنت في أشد المرض، قال: أو أسمع حي على الصلاة حي على الفلاح ولا أجيب؛ فحملوه على أكتافهم وأوصلوه إلى المسجد؛ فصلى معهم صلاة المغرب حتى الركعة الأخيرة فسجد مع الساجدين، ورفع المصلون من السجود، وبقي ثابت ساجداً فحركوه بعد الصلاة، فعلموا أن الله استجاب دعاءه، وتوفاه ساجداً".
فكيف حالنا مع الجماعة؟ وكيف حالنا مع النداء؟ هل إذا سمعنا الآذان قلنا: لبيك يا نداء الرحمن؟ هل عمرنا بيوت الله كما أمر الله (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) [النّور:36] أن ترفع في القلوب، أن تحتويها الأفئدة، أن تحن إليها الأنفس، أن يأتيها المؤمن يحمل شوقه إليها.
فانظر لحالك -أيها المؤمن-؛ فإن وجدت خيراً وإقبالاً ومحبةً لبيوت الله، وحضوراً مستمراً للجماعات؛ فاحمد الله و ادع من الله الثبات، وإن وجدت دون ذلك؛ فاعلم أن الله سيسألك، أيهما أحب إليك بيتي أم بيتك؟ شغلك بلقائي أم شغلك بالدنيا؟
سيسألك ناديتك من سابع سماء فعصيتني ولم تجبني؟ ولو أجبتني لأتيت بك إلى بيتي تحفك ملائكتي، ولرفعت لك بكل خطوة درجة في الجنة، ولغفرت لك بكل خطوة سيئة، ولشهدت لك الديار والأشجار والأحجار والشمس والقمر والنجوم، وكل من رآك في مسعاك وفي مصلاك؛ أنك أجبتني، وأنك أطعتني، وأنك صليت لي؛ فاعمل -أيها المؤمن- على طاعة الله ومحبة بيوته، ورفعها في القلوب.
ومن صفات القلوب القاسية: الغفلة عن ذكر الله؛ فلا يذكر الله عند قيام ولا عند طعام، ولا يذكر الله في قول ولا يذكر الله في عمل؛ تحمله الغفلة ليله ونهاره، ومن الناس من لا يذكر الله إلا في الصلاة، ومن الناس من لا يذكر الله إلا في المسجد؛ والله بماذا أمر؟ والأمر في قرآنه وطاعته واجبة على كل مؤمن ومؤمنة، هل قال لنا: اذكروا الله في بعض الأحيان؟ هل قال لنا: اذكروا الله عند الحاجة؟ قال لنا -وقوله الحق-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) [الأحزاب:41-42].
فيا -أيها المؤمن- لك في كل لحظة ذكر، وفي كل وقفة ذكر، وفي كل جلسة ذكر، وفي كل عمل ذكر، وفي كل راحة ذكر، وعند كل منام ذكر، وعند كل يقظة ذكر.
ولذلك مدح الله المؤمنين من عباده بقوله: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ) [آل عمران:191] ، وبشرهم بما أعد لهم عنده، فقال جل جلاله: (وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) [الأحزاب:33] هذا الذكر سماه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بخير الأعمال، سماه بأطهر القربات إلى الله، سماه برافع الدرجات، خيـّره عن الصدقة بالذهب والورق، وفضـّله على الجهاد في سبيل الله.
فقال -فيما أورده الإمام أحمد في المسند-: "ألا أنبئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعِها في درجاتكم، وخير لكم من إعطاء الذهب والورق، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟" قالوا: و ذلك ما هو يا رسول الله؟، قال: "ذكر الله عز وجل".
فهل أنت من الذاكرين؟ هل تذكر الله في كل حين؟؛ فانظر لحالك -أيها المؤمن-؛ فإن وجدت خيراً وتذكّراً وذكراً؛ فاحمد الله وزد في ذكره، واعلم أن ذكر الله حصنه الحصين في الدنيا والآخرة، وإن وجدت دون ذلك؛ فتذكر أن لا سعادة للقلب، ولا هناء ولا اطمئنان إلا بذكر الله.
فالله الذي خلقك، وبالذكر أمرك، وعن ذكره أخبرك بقوله عز وجل: (أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الرعد:28]؛ فرطب لسانك بذكره، وزين أوقاتك بتسبيحه وحمده وشكره؛ ليسلم قلبك، لتلقى الله غانماً سالماً (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشعراء:88-89].
اللهم سلم قلوبنا من كل غفلة، وبعد قلوبنا عن كل جفوة، واجعلنا من عبادك الذاكرين، واجعل قلوبنا لينة بطاعتك هانئة مطمئنة بحسن بعبادتك، واكتبنا من الصالحين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الكريم لي ولكم.