البحث

عبارات مقترحة:

الواسع

كلمة (الواسع) في اللغة اسم فاعل من الفعل (وَسِعَ يَسَع) والمصدر...

الكبير

كلمة (كبير) في اللغة صفة مشبهة باسم الفاعل، وهي من الكِبَر الذي...

الجميل

كلمة (الجميل) في اللغة صفة على وزن (فعيل) من الجمال وهو الحُسن،...

مقاصد الحج

العربية

المؤلف الشيخ د عبدالرحمن السديس
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات الحج
عناصر الخطبة
  1. أعظم مقاصد الحج وأهدافه .
  2. فضل البلد الحرام .
  3. وجوب شُكر نعمة الوصول إلى المشاعِر المُبارَكة .
  4. التحذير من الدخول في جدالات وسِجالاتٍ عقيمةٍ .
  5. وصايا إلى الحُجَّاج. .

اقتباس

الحجُّ فريضةٌ من أعظم الفرائض، وهي ليست شِعاراتٍ سياسية، ولا دعوات عنصرية وطائفية، وإنما هي رحلةٌ إيمانية، مُفعَمةٌ أجواؤُها بالمعاني السامية، والأهداف النَّبيلَة، وفُرصةٌ عظيمةٌ للتوبةِ إلى الله، والإقبالِ عليه - سبحانه -، ولُزُوم صراطه المستقيم بعيدًا عن اللوثات العقدية والفكرية، والمخالفات المنهجية والسلوكية. فاغتنِمُوا - يا رعاكم الله - فيه الأوقات، ولا تُضيِّعُوها في الجِدالات والمُساجَلات، فلعلَّ بعضَكم لا يتمكَّنُ من تَكرار المجيءِ، فيندمُ حيثُ لاتَ ساعةَ مندَمُ...

الخطبة الأولى:

إنَّ الحمدَ لله، نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، نحمدُه سبحانه على فضلِه الدائِم، ونشكُرُه على نِعَمهِ العظائِم.

لك الحمدُ حمدًا نستلذُّ به ذِكرًا 

وإنه لا نُحصِي ثناءً ولا شُكرًا

لك الحمدُ حمدًا سرمديًّا مُبارَكًا 

يقلُّ مِدادُ البحرِ عن كُنهِهِ حَصرًا

وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، شرعَ أركانَ الإسلامِ على أثبَتِ الدعائِم، وأشهدُ أن نبيَّنا وسيِّدَنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه رفعَ اللهُ به مَنارَ الحقِّ ونكَّس أعلامَ ذوي الجرائم، صلَّى الله عليه وعلى آلهِ وأصحابِه، أئمة الهدى لكلِّ مُريدٍ رائِم، ومن تبِعَهم بإحسانٍ في بديعِ الشمائلِ وأسمَى الكرائم، وسلَّم تسليمًا دائمًا دِيَمَ الغمائِمِ.

أما بعد:

فاتَّقُوا الله - عباد الله -، وسارِعُوا باغتِنامِ المواسِمِ والنسائِمِ، (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى) [البقرة: 197].

عليكَ بتقوىَ اللهِ سرًّا وجهرةً

ففيها جميعُ الخيرِ حقًّا تأكَّدَا

لتُجْزَى من اللهِ الكريمِ بفضلِهِ

مُبوَّأ صدقٍ في الجِنانِ مُخلَّدَا

واجتهِدُوا - رَحِمكُم الله - في تعظيمِ الشعائِرِ والمشاعِرِ، (ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ) [الحج: 32].

معاشرَ المُسلمين:

ها هي فريضةُ الحجِّ الزَّهراء قد أضاءَتْ في سماءِ الأمةِ أنوارُها، وتلألأَت لياليها وأشرقَ نهارُها، وعَبَقَتْ بالبشائرِ أزهارهُا، وبالخيراتِ والبركاتِ ثِمارُها، وسَطَعَتْ في أفئِدةِ الحَجيجِ فضائلُها وآثارُها، وها هي طلائِعُ وفودِ بيتِ اللهِ الحرامِ قد أناخَتْ مطاياها، وحطَّت ركائِبَها.

حطَّت مواكِبُ للحَجيجِ متَاعَها

والكلُّ من فَرطِ السعادةِ يجأَرُ

أهلاً بكم ومَرحبًا وفودَ الرحمنِ في مهدِ الدينِ والإسلام، في مَوئِلِ الإِجلالِ والإِعظام، في مكةَ المكرَّمة، أقدَسِ الديارِ والبقاعِ، وأطهرِ الأرجاءِ والأصقاع.

مرحبًا بالوفودِ من كُلِّ طائفِ

والمُلبِّين بين بادٍ وعاكِفِ

مرحبًا بالإخاءِ في ألَقِ الشّمسِ 

وبالطُّهرِ في نقيِّ المعاطِفِ

أنتم - يا حُجَّاجَ بيتِ اللهِ الحرام - في مكةَ البلدِ الحرام، وما أدراكُم ما مكةُ البلدُ الحرام! بها الكعبةُ الغرّاء المُعظَّمة، والقِبْلةُ المُيمَّمة، على ثَراها أشرَقَت شمسُ الهِداية، وعلى رُباها رُفِعَت للحقِّ أعظمُ رَاية. قُنَّةُ الأمن والأمان، بيتُ الله الحرام، تَهفُو له النفوسُ وتشتَاق، وتفدِيهِ بالمُهَجِ والأحدَاق.

إذا عايَنَتُه العينُ زالَ ظَلامُها

وزالَ عن القلبِ الكئِيبِ التَّألمُ

فلا يعرِفُ الطَّرفُ المُعايِنُ حُسنَه

إلى أن يعودَ الطَّرفُ والشَّوقُ أعظمُ

فمن أجل ذا كلُّ القلوبِ تُحِبُّه

وتخضَعُ إجلالاً له وتُعظِّمُ

أيُّها الحجاجُ الميَامِين:

اشكُرُوا اللهَ على ما منَّ به من سلامةِ الوصولِ، وحُصولِ المأمول، واستحضِرُوا دومًا عظمةَ المكانِ وحُرمَتَه، وطهارتَه وقداسَتَه. فأنتم في رحابِ البيتِ العتيق؛ حيث تُسكبُ العبَرَات، وتُجابُ الدَّعوات، وتُغفَرُ الزلاَّت، وتُقالُ العَثَرَات، فليكُن حالَكم ذكرٌ وترتيلٌ، وتلبيةٌ، وقنوتٌ، وخشوعٌ، ورجاءٌ، وخُفُوت، ودعاءٌ، ونداءٌ، وتضرعٌ بأبهَى النُّعُوت، ودموعٌ تتحدَّرُ على الوَجنَاء، واستغفارٌ للذنوب والحَوبَاءِ، واستِمناحٌ للعفوِ وكريمِ الفضلِ والجزاءِ.

معاشرَ المؤمنين:

هذا البلدُ المُبارَك اختصَّهُ الباري - جلَّ في عُلاه - بخصائِصَ وفضائلَ عِظام، من أهمِّها: إضافتُه إلى ذاتِه العَليَّة، قال - جل وعلا -: (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) [الحج: 26].

وإلمَاعًا بفضلِه وإشادَةً بنُبلِه، أقسَم به في مواضِعَ من كتابِه العزيزِ، وما تعدُّدُ الأسماء لهذا المكانِ المُبارَك، إلا دَلالةٌ على فضلِ المَبنى، وطيِبِ المَعنى والمَغَنَى والمَغَزى، وسمُوِّ المُسمَّى. واعلَم بأن كثرةَ الأسامي دلالةٌ أن المُسمَّى سامي.

وفي قَسَمٍ يَهمِي حُبًّا ووُلُوعًا، ويزخَرُ شوقًا ونُزُوعًا، يقول - صلى الله عليه وسلم - عن مكةَ شرَّفها الله: «والله إنِّكِ لخيرُ أرضِ اللهِ، وأحبُّ أرضِ اللهِ إلى اللهِ» (أخرجه الترمذيُّ، وقال: "حديثٌ حسنٌ صحيحٌ").

أُمة الإيمان:

وهذه العَرَصَات، والبِطاحُ المُبارَكات قد سوَّرَها البارِي بالأمنِ والتّحريم، فهي منطقةٌ آمِنةٌ حرامٌ إلى يوم القيامة، يقول - جلَّ شأنُه -: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) [العنكبوت: 67]، ويقول - سبحانه -: (أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ) [القصص: 57]، ويقول - سبحانه -: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا) [البقرة: 125].

يطمئِنُّ فيه المُضطربُ القَلِق، ويأمَنُ في جنَبَاته الفَزِعُ الفَرِق، يقولُ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ هذا البلَدَ حرَّمَهُ اللهُ يومَ خلق السماواتِ والأرضِ، فهو حرامٌ بحُرمَةِ الله إلى يومِ القيامةِ» (متفقٌ عليه).

وهذا الأمنُ المكينُ، والأمانُ المَتين لم يثبُت بالتقريرِ والتأصيلِ فحَسب؛ بل استقرّ واشمَخَرَّ بالوعيدِ والزَّجر الشديدِ الأكيدِ لمن حاوَلَ خَرقَه، أو رامَ فَتقَه، (وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) [الحج: 25].

ذلك لمن همَّ، فكيف بمن يُباشِر؟! فالأمرُ أنكَرُ وأخطَر.

الله أكبر! إنها دعوةُ الخليل إبراهيم - عليه السلام -: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الْأَصْنَامَ) [إبراهيم: 35].

تلكُم هي مكّةُ المكرَّمة، مكةُّ الإسلام والإيمان والتأريخ والشموخ، مكةُ التوحيد والأمنِ والأمانِ والرُّسُوخ، وذلك غَيضٌ من فيضِ عظَمَة أم القُرَى، وأشرفِ بِقاعِ الوَرَى.

سأعشقُ موطنَ القُربى وإنّي

على حُبِّ القَداسَةِ لن أُلامَا

فتلك مواطِنُ الذِّكرَى سَنَاها

على الآفاقِ يكْتسِحُ الظلامَا

أمة الإسلام:

الحجُّ عبادةٌ من أعظمِ العبادات، له من المقاصِدِ والمنافِعِ، والحِكَمِ والآدابِ ما ينبغي لكل حاجٍّ أن يستشعِرَه، ليحصُلَ له بِرُّ الحجِّ، ويعودَ بشيءٍ من منافِعِه وآثارهِ.

فأهمُّ المقاصِد والغايات، وأعظم الحِكم والواجبات: أن يكون الحجُّ مُنطَلَقًا لتحقيق التوحيد الخالصِ لله، (وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا) [الحج: 26].

والتَّجافِي عن كلِ ما يُخالِفُ الكتابَ والسنَّة، ومن كلِ عقيدةٍ لم يكن عليها سلَفُ هذه الأمة.

لقد آنَ لنا أن نأخُذَ من هذا التجمُّعِ الإسلاميِّ العظيمِ الدروسَ والعِبَر في الوَحْدَةِ والتضامن، والبُعد عن الفُرقة والتعصُّب، والتشاحُنِ والتحزّب، وتجاهُل المُزايَدَات والشائعات، والتصدّي للمَقُولات الكاذبات.

وإنَّ على الأمة الإسلامية جميعًا أن تكون مُدرِكةً واعِيةً لحمَلات استِهدافِها من وسائل إعلامٍ مُعادِية، ومن دُعاة الشرِّ والفتنة، مما يتطلَّبُ توخِّي الدقَّة، والتثبُّت والحكمة، واجتماعِ الكلمة.

ألا فلتكُن الانطلاقةُ لحلِّ مُشكِلات الأمة المتأزمة ضَعفًا وانقسامًا، فُرقةً واختلافًا، من هذا المكان المبارك، مهبِط الوحي، ومنبَع الرسالة، وعلى رأس هذه القضايا المتأزمة: قضية الزمان، قضيةُ العقيدة والإيمان "قضية فلسطين، والمسجد الأقصى الأسير"؛ حيث اعتادَ الصهايِنةُ المُعتَدون رفعَ عقيرته في انتِهَاك حُرمَته، والمحاولات المتكررة للنَّيل من شُمُوخه وعزَّته.

وكذا بلادُ الشامُ الصابِرة، وقد لاحَت بُشرياتُ النصر - بإذن الله - وهبَّت نسائِمُه من دمشق الصامِدة، وحلَب الشَّهباء. وأين نحن من مُسلِمِي بُورما وأراكان، وإخواننا في العراق واليمن؟!

أليست لهذه الأمصار حقوقٌ على عموم المسلمين قبل خاصَّتهم؟! فها هو الزمانُ والمكانُ وقد تُوِّجَا بمناسبة المناسبات: فريضة الحج، فاجعَلُوها - يا رعاكم الله - انطلاقةً للوحدة على أساس التوحيد؛ فإن شعائر الإسلام تَجْمَعُ ولا تُفرِّق، وتؤلِّف ولا تُشتِّت، (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا) [آل عمران: 103].

معاشرَ الحُجَّاج الكرام:

ما أروعَ أن يستشعِرَ الحاجُّ والزائِرُ مكانةَ هذا البيت العتيق، وقَداسَةَ هذه البِقاع المُبارَكة، وما أُحيطَت به من التعظيم والمهابَة، فلا يُسفَكُ فيها دم، ولا يُعضَد فيها شجَر، ولا يُنَفَّرُ فيها صيد، ولا تُلتَقَطُ لُقَطَتُها إلا لمن عرَّفها، ولا يجوزُ أبدًا أن يُحَوَّلُ هذا المكان إلى ما يُنافِي مقاصِدَ الشريعة ومنهجَ الإسلام، ولا تكونُ فيه دعوةٌ إلا لله وحده، ولا يُرفعُ فيه شِعارٌ إلا شِعارُ التوحيد لله والتلبِيَة: "لبَّيْكَ اللهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنََّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لاَ شَرِيكَ لَكَ".

وفي "صحيح مسلم"، من حديث جابرٍ - رضي الله عنه - في سِياقِ حجَّة النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أهلَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بالتوحيد".

ولا يحِلُّ لمن يُؤمِنُ بالله واليوم الآخر أن يُؤذِيَ فيه المسلمين، أو يُرَوِّعَ الآمِنِين، أو يصرِفَ الحجَّ إلى ما يُخالِفُ سُنَّةَ سيد المرسلين؛ فالحجُّ فريضةٌ وعبادةٌ وتقدِيس، ليس محلاًّ للشِّعارات والتسيِيس، ولا مجالاً للسياسة والشِّعارات، أو المسيرات والمُظاهرات، أو المُناظَرات والمُزايَدات، أو الجدال والمُناسبات، (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) [البقرة: 197].

لا وألفُ لا لمن يريدُ تحويلَ الشعائِرِ والمشاعِرِ إلى تسجيل مواقف، أو تصفِيَةِ حِسابات.

إن أمن الحرمين وقاصِدِيهما خطٌّ أحمر لا يجوزُ تجاوُزُه، ولا يُسمَحُ بانتِهاكِه، أو زَعزَعَة أمنِه، أو إحداثِ أي نوعٍ من الفوضَى والتشويشِ فيه، والإثارةِ والبَلبَلَة، أو مُخالَفَة الشرع والنظام.

الحجُّ فريضةٌ من أعظم الفرائض، وهي ليست شِعاراتٍ سياسية، ولا دعوات عنصرية وطائفية، وإنما هي رحلةٌ إيمانية، مُفعَمةٌ أجواؤُها بالمعاني السامية، والأهداف النَّبيلَة، وفُرصةٌ عظيمةٌ للتوبةِ إلى الله، والإقبالِ عليه - سبحانه -، ولُزُوم صراطه المستقيم بعيدًا عن اللوثات العقدية والفكرية، والمخالفات المنهجية والسلوكية.

فاغتنِمُوا - يا رعاكم الله - فيه الأوقات، ولا تُضيِّعُوها في الجِدالات والمُساجَلات، فلعلَّ بعضَكم لا يتمكَّنُ من تَكرار المجيءِ، فيندمُ حيثُ لاتَ ساعةَ مندَمُ.

اللهم زِد بيتَك هذا تعظيمًا وتشريفًا وتكريمًا ومهابةً، وزِد من عظَّمه وشرَّفه ممن حجَّه واعتَمَرَه تعظيمًا وتشريفًا وتكريمًا ومهابةً وبِرًّا.

أعوذُ بالله من الشيطان الرجيم: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) [آل عمران: 96، 97].

باركَ الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفَعني وإياكم بما فيهما من الآياتِ والحكمة، أقولُ قولي هذا، وأستغفِرُ اللهَ العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائر المُسلمين والمُسلمات من جميع الذنوبِ والخَطِيئاتِ، فاستغفِرُوا ربَّكم ثم توبُوا إليه، إنه كان توابًا رحيمًا.

الخطبة الثانية:

الحمدُ لله حمدًا لم يزَل فيَّاحًا، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له شهادةً أشرَقَ نورُها وضَّاحًا، وأشهدُ أن نبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه، أخلَصَ الدينَ لله دعوةً وإصلاحًا، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه ما تعاقَبَت الأزمانُ مساءً وصباحًا، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى اليوم الدين.

أما بعد:

فاتَّقُوا الله - عباد الله -، وأدُّوا مناسِكَكُم على وَفق سُنَّة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - القائل: «خُذُوا عنِّي مناسِكَكم».

إخوة الإيمان:

وإن من المقاصِد الشريفة، والحِكَم المنيفة، التي تغَيَّأها الإسلامُ من شِرعة الحج، ما عَمَدَ إلى الروح وما أكَنَّت من رُعُونات كي يُرقِّيَها، وشَخَص إلى الجوارح وما اجتَرَحَت من آثامٍ ليُزكِّيَها، وإلى المدارِكِ والحواسِّ، وما احتَقَبَت من أوزارٍ فيُجلِّيَها، وأشراطُ هاتِيكَ المعاني: ما وصَّى به النبيُّ العدنانِ - صلى الله عليه وسلم -؛ حيث قال: «من حجَّ هذا البيتَ فلم يرفُثْ ولم يفسُقْ؛ رجَعَ كيومِ ولدَتْه أمُّه» (متفقٌ عليه).

ألا وإن من فضلِ الله وعظيمِ آلائِه، وجزيلِ نعمائِه: ما مَنَّ به على هذه الأمة من تمكين الحرمَين الشريفَين، وما ينعَمَان به وقاصِدُوهُما من أمنٍ وأمانٍ، واستقرارٍ واطمِئنان، وما هيَّأَ لهما من قيادةٍ حكيمة تشرُفُ بخِدمتهما ورعايتهما، وتُقدِّمُ لقاصِدِيهما منظومةً مُتكامِلةً من بديع الخدمات، لتحقيق جليلِ الآمال والطموحات.

فيا حُجَّاج البيت الحرام:

كونُوا عونًا لإخوانكم من رجال الأمنِ الأماجِد، الذين يحفَظُون النظام، ويُوجِّهُون الحُشُودَ لمنع التزاحُمِ والتدافُعِ، والمُرابِطِين على الثُّغُور والحدود لحفظ المُقدَّسات، بالدعاء لهم، وتثمِين دَورِهم.

وتعاوَنُوا مع القائِمِين على خِدمَتِكم من الجهات الإشرافيَّة على الحرمَين الشريفَين، إداريًّا وأمنيًّا، فإنهم يعمَلون بدأَبٍ واجتهادٍ. فكم أعدُّوا ورتَّبُوا، ونسَّقُوا وخطَّطُوا لخدمتكم، وإنهم ليُضحُّون لراحَتِكم، ويبذُلُون الغالِيَ والنفيسَ من أجل سلامَتِكم، فلا تتردَّدُوا في الرجوعِ إلى جِهات الإرشادِ والفتوَى الموثُوقة، إذا أشكَلَ عليكم أمرٌ من أمور دينِكم، وشعائركم، ومناسِكِكم، فهي - بفضلِ الله - مُنتشِرةٌ في الأرجاء والساحات.

عباد الله .. حُجَّاج بيت الله:

اجعَلُوا من حُسن أخلاقِكم عُنوانًا لكم، ساعِدُوا الضعيفَ والمُحتاجَ، وأرشِدُوا التائِهَ بلُطفٍ وإبهَاج، وعليكم بالسَّكينةِ والوَقار، والرأفَةِ والتراحُم، وتجنَّبُوا الإيذاءَ والتزاحُمَ، وسدِّدُوا وقارِبُوا، واشكُرُوا ربَّكم أن ذلَّلَ لكم الصِّعاب، ومكَّنَكم من الوصول إلى بيته الحرام في أمنٍ وأمانٍ، ويُسرٍ وسلام، فالحجُّ عبادةٌ وسلوكٌ حضاريٌّ، وهو رسالةُ أمنٍ وسلام، ومحبَّةٍ ووِئام، ومودَّةٍ واعتِصام، لا فُرقةٍ وانقِسام.

يا أمَّتِي استقبِلُوا حجَّكُم برُوحِ تُقَى

وتوبَةِ الصِّدقِ فالتأخيرُ إغواءُ

ربَّاهُ عفوًا وتوفيقًا ومغفرةً

وجُدْ بنصرٍ فإن النصرَ عليَاءُ

حفِظَ الله حُجَّاج بيته الحرام، وأدامَ أمنَهم وأمانَهم، ورخاءَهم واستقرارَهم، وأتمَّ عليهم مناسِكَهم بكل يُسر، وكتَبَ لهم عظيمَ المثوبة والأجر، وجعَلَ حجَّهم مبرورًا، وسعيَهم مشكُورًا، وذنبَهم مغفورًا، وأعادَهم إلى بلادهم سالمين غانِمِين، مأجُورين غير مأزُورِين، إنه جوادٌ كريم.

هذا وصلُّوا وسلِّموا - رحِمَكم الله - على النبيِّ المصطفى، والحبيب المُجتَبَى، كما أمرَكم بذلك ربُّكم - جل وعلا -، فقال تعالى قولاً كريمًا: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56]، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «من صلَّى عليَّ صلاةً صلَّى الله عليه بها عشرًا».

يا ربِّ صلِّ وسلِّم كلما لمَعَت

كواكِبٌ في ظلامِ الليلِ والسَّحَرِ

وآله وجميعِ الصحبِ قاطِبةً

الحائِزِين بفضلٍ أحسنَ السِّيَرِ

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ فِي الْعَالَمِينَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وارض اللهم عن الأئمة الخلفاء، الأربعة الخلفاء الحُنَفاء، ذوي الشرفِ الجلِيِّ، والقدرِ العلِيِّ: أبي بكرٍ، وعُمر، وعُثمان، وعليٍّ، وعن سائر الصحابةِ أجمعين، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم برحمتِك يا أرحم الراحمين.

اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وسلِّم الحُجَّاج والمُعتمِرِين، وسلِّم الحُجَّاج والمُعتمِرِين، واحمِ حَوزَةَ الدين، واجعَل هذا البلد آمنًا مًطمئنًّا وسائِرَ بلاد المسلمين.

اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأدِمِ الأمنَ والاستقرارَ في رُبُوعِنا، ووفِّق أئمَّتَنا وولاةَ أمورنا، وأيِّد بالحقِّ إمامَنا ووليَّ أمرنا، اللهم وفِّقه لما تحبُّ وترضَى، وخُذ بناصِيتِه للبرِّ والتقوَى، وهيِّئ له البِطانةَ الصالحةَ واجزِه خير الجزاء على ما قدَّم للحرمين الشريفين، وللحُجَّاج والمعتمِرِين، ولقضايا الإسلام والمسلمين في كل مكانٍ يا حيُّ يا قيُّوم، يا ذا الجلال والإكرام.

اللهم وفِّق رجالَ أمنِنا، اللهم وفِّق واحفَظ رجالَ أمنِنا، اللهم اجزِهم خيرًا على ما يُقدِّمُون لحفظ أمن البلاد والعباد، يا ذا الجلال والإكرام.

اللهم كُن لإخواننا وجنودنا المرابطين على ثُغُور حدودنا وبلادنا، اللهم تقبَّل شهداءَهم، اللهم سدِّد رأيَهم ورميَهم، اللهم اشفِ مرضَاهم، وعافِ جرحَاهم، واربِط على قلوبهم يا ذا الجلال والإكرام، يا ذا الطَّول والإنعام، وأتمِم بالنصر والتمكين، واخلُفهم في أهلِيهم، وأموالهم، وأولادهم بخيرٍ يا رب العالمين، ورُدَّهم سالمين غانِمِين.

اللهم أنقِذِ المسجدَ الأقصَى، اللهم أنقِذِ المسجدَ الأقصَى، اللهم أنقِذِ المسجدَ الأقصَى من الصهايِنةِ المُعتَدين المُحتَلِّين، اللهم اجعَله شامِخًا عزيزًا إلى يوم الدين يا رب العالمين.

اللهم عجِّل بالنصر والتمكين لإخواننا في سُوريا وفي بلاد الشام، اللهم أصلِح حالَ إخواننا في العراق، وفي اليمن يا أرحم الراحمين، يا ذا الجلال والإكرام، وفي أراكان، وفي بُورما، وغيرها يا ذا الجلال والإكرام.

اللهم تقبَّل منَّا إنك أنت السميعُ العليم، وتُب علينا إنك أنت التوابُ الرحيم، واغفِر لنا ولوالدِينا ووالدِيهم وجميعِ المُسلمين يا ذا الجلال والإكرام، يا حيُّ يا قيُّوم.

(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [البقرة: 201].

(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الصافات: 180- 182].