العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | أركان الإيمان |
والله -سبحانه- يضل من يشاء، ويهدي من يشاء، ومن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وهو أعلم بمن يصلح لدار كرامته، ومن يصلح لدار إهانته، والهدى والإضلال بيد الله وحده لا بيد العبد، والعبد هو الضال أو المهتدي، فالهداية والإضلال فعله -سبحانه-، والاهتداء والضلال فعل العبد وكسبه...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الخلاق العليم، العزيز الحكيم, نحمده حمدًا يليق به، وكل حمد نحمده يقصر عنه، ونشكره شكرًا يزيد نعمه، ومهما شكرناه لا نَفِيه حقه، ولكنه عفو كريم، بر رحيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وأمينه على وحيه، وخاتم رسله, صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وأخبتوا له وأسلموا؛ فإن شأنه -سبحانه- عظيم، وإن حقه علينا كبير، وحقه الإيمان، ولن يحقق عبد الإيمان إلا بالاستسلام، ولن يستسلم إلا بقلب سليم من الشك والشرك والجحود (بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) [البقرة:112].
عباد الله: جعل الله -تبارك وتعالى- للهداية إلى دينه والاستقامة على شرعه علامات، من أهمها: الإقبال على الله, والتوجه إليه في جميع الأحوال, والتوكل على الله في جميع الأمور, والاستعانة به في كل شيء, والإنابة إلى دار الخلود, والتجافي عن دار الغرور, والاستعداد للموت قبل نزوله, وأن يرى السعادة والمنفعة في امتثال أوامر الله, والشقاء والمضرة في مخالفتها, ويرى الخير والنجاة في الإيمان والأعمال الصالحة, ويرى الشر والهلاك في ترك ذلك, ويرى الفلاح في الدين, والخسار في مخالفة الدين.
أيها الإخوة: إن الله عليم حكيم يضع الأشياء في مواضعها؛ لكمال علمه وحكمته، فلا بد للعبد من العلم بأمرين: أحدهما: أن الله وحده تفرد بالخلق والأمر والهداية والإضلال. الثاني: أن ذلك كله وقع منه -سبحانه- على وجه الحكمة والعدل, بحكمة اقتضت هدى من عَلِمَ الله أنه يزكو على الهدى ويقبله، ويشكره عليه، ويثمر عنده، وإضلال من عَلِمَ الله أنه لا يزكو على الهدى ولا يقبله، ولا يشكر عليه، ولا يثمر عنده.
فالله أعلم حيث يجعل رسالته أصلاً وميراثاً كما قال -سبحانه-: (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) [الأنعام: 124]، فالله -سبحانه- لم يطرد عن بابه ولم يبعد من جنابه من يليق به التقريب والهدى والإكرام، بل طرد من لا يليق به إلا الطرد والإبعاد.
عباد الله: وللحصول على الهداية لا بد من الجهد، والجهد في الدين على ثلاثة أقسام: جهد على النفس فقط، وهذا جهد الصالحين، وجهد على النفس والقرابة أو العشيرة أو القوم، وهذا جهد المرسلين، وجهد على النفس وعلى عموم البشرية وهذا أعلاها, وهو جهد سيد المرسلين -صلى الله عليه وسلم-, وهو مطلوب من كل مسلم ومسلمة.
وكل عبد مضطر إلى أن يهديه الله الصراط المستقيم، فعليه أن يطلب الهداية من ربه، فإنه لا نجاة من العذاب ولا وصول إلى السعادة إلا بهذه الهداية، فمن فاتته فهو إما من المغضوب عليهم، الذين عرفوا الحق ولم يعملوا به, وإما من الضالين الذين عرفوا الحق وضلوا عنه، وهذا الهدى لا يحصل إلا بهدى الله: (مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) [الأعراف: 178].
أيها الإخوة: إن الواجب على الأمة ووظيفتها دعوة الناس إلى الله، وتعليمهم أحكام دينهم، ولكن لا يلزم من ذلك حصول الهداية، فإن ذلك وغيره بيد الله، ولا يلزم من العلم بكون الشيء سبباً لمصلحة العبد وسروره أن يقبله، أو يستجيب له، فقد يمنعه مانع من قبوله والعمل بمقتضاه؛ وذلك لأسباب كثيرة.
والدعوة إلى الله أقوى سبب لحصول الهداية، فكما نجتهد لكسب المعاش كذلك علينا أن نجتهد لكسب الإيمان، وقد خلقنا الله في دار الأسباب، فجعل الماء سبباً للإرواء، والطعام سبباً للشبع، فكذلك جعل -سبحانه- الدعوة سبباً لحصول الهداية للداعي والمدعو.
والهداية: هي لزوم الصراط المستقيم، وقوة فكر الهداية للأمة ثمرة قوة الإيمان، فكلما كان الإيمان قوياً كانت أعمال الدين من عبادة ودعوة قوية؛ فإذا زاد الإيمان زادت العبادات وقويت، وإذا زاد الإيمان تفكرت جميع الأمة لهداية كل فرد من الأمة، فإن نقص تفكرت الأمة للأمة بوجه عام، فإن نقص تفكر الفرد وحده لهداية الأمة، فإن نقص لم يتفكر الفرد أو الأمة لهداية الفرد أو الأمة, وهذه أدنى الدرجات، والأولى أعلاها، وعليها كان الصحابة -رضي الله عنهم-.
وأوسع الخلق فكراً في الهداية رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقد كان فكره يدور على ثماني دوائر، فكان يفكر ويسعى في هداية نفسه, وأهله, وعشيرته, وقومه, وقريته, وما حولها, والناس, والعالم, ففكره لنفسه وأهله كما قال -سبحانه-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا) [التحريم: 6]، وفكره لعشيرته كما قال -سبحانه-: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) [الشعراء: 214]، وفكره لقومه كما قال -سبحانه-: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) [السجدة: 3]، وفكره للناس وفكره لقريته وما حولها كما قال -سبحانه-: (وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا) [الأنعام: 92] وفكره للعالم كما قال -سبحانه-: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) [الأنبياء: 107].
والعبد مفتقر إلى الهداية في كل نفس في جميع ما يأتيه وما يذره أصلاً وتفصيلاً، وعلماً وعملاً، وثباتاً ودواماً إلى الموت، فليس له أنفع ولا هو إلى شيء أحوج من سؤال الهداية.
فنسأل الله -عزَّ وجلَّ- أن يهدينا وجميع المسلمين صراطه المستقيم، وأن يثبت قلوبنا على دينه، والله لا يخيب من سأله ودعاه: (وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [الحج: 54]، والله -سبحانه- يضل من يشاء، ويهدي من يشاء، ومن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وهو أعلم بمن يصلح لدار كرامته، ومن يصلح لدار إهانته، والهدى والإضلال بيد الله وحده لا بيد العبد، والعبد هو الضال أو المهتدي، فالهداية والإضلال فعله -سبحانه-، والاهتداء والضلال فعل العبد وكسبه.
عباد الله: والناس قسمان: حي قابل للانتفاع، يقبل الإنذار، وينتفع به, وميت لا يقبل الإنذار، ولا ينتفع به؛ لأن أرضه غير زاكية، ولا قابلة لخير البتة، فيحق عليه القول بالعذاب، وتكون عقوبته بعد قيام الحجة عليه، لا بمجرد كونه غير قابل للهدى والإيمان، كما قال -سبحانه-: (كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) [يونس: 33].
ومن آمن بالله فقد اهتدى، ومن لم يؤمن بالله فهو المشاق للحق المعادي للهدى، فالمؤمن وحده المهتدي، ولا عليه من شقاق من لا يهتدي ولا يؤمن، ولا عليه من كيده ومكره، ولا عليه من جدله ومعارضته، فالله سيتولاهم عنه، وهو كافيه وحسبه: (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [البقرة: 137].
عباد الله: وسنة الله -سبحانه- أن يهدي من يجاهد ليبلغ الهدى، وأن يفلح من يزكي نفسه ويطهرها كما قال -سبحانه-: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا *قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) [الشمس: 7 - 10]، وأما من لا يتجه إلى الهدى ولا يطلبه فإن الله لا يهديه، ومن عطل أجهزته الفطرية ابتداءً جعل الله بينهم وبين الهدى حجاباً، فكل شيء بأمر الله، ومن أمر الله أن يهدي من يجاهد، ومن أمر الله أن يجعل على قلوب المعرضين أكنة أن يفقهوه، وفي آذانهم وقراً أن يسمعوه.
وكل عبد لا يحصل له الهدى التام المطلوب إلا بعد معرفة العبد في جميع ما يأتيه ويذره بكونه محبوباً للرب تعالى مرضياً له فيؤثره، وكونه مبغوضاً له مسخوطاً فيجتنبه، فإن نقص من هذا العلم والمعرفة شيء نقص من الهداية التامة بحسبه.
عباد الله: وكما أن للصحة علامات, وللمرض علامات, فكذلك للهداية علامات, وللضلالة علامات، والله -سبحانه- تفضل على بني آدم بأمرين هما أصل السعادة: أحدهما: أن كل مولود يولد على الفطرة، فالنفس بفطرتها إذا تركت كانت محبة لله، تعبده لا تشرك به شيئاً، ولكن يفسدها من يزين لها الفساد من شياطين الإنس والجن. قال الله -عزَّ وجلَّ- في الحديث القدسي: "إِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهمْ، وَإِنَّهمْ أتَتْهمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أحْلَلْتُ لَهمْ، وَأمَرَتْهمْ أنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا" [مسلم (2865)].
الثاني: أن الله تعالى هدى الناس هداية عامة بما جعل فيهم من العقل، وبما أنزل إليهم من الكتب، وبما أرسل إليهم من الرسل؛ ففي كل واحد ما يقتضي معرفته بالحق ومحبته له، وقد هداه الله إلى ما ينفعه، وجعل في فطرته محبة ذلك، والنفس إن علمت الحق وأرادته فذلك من تمام إنعام الله عليها، وإلا فهي بطبعها لا بدَّ لها من مراد معبود غير الله، ومرادات سيئة تركبت من كونها لم تعرف الله ولم تعبده، قال الله تعالى: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى) [الأعلى: 1 - 3].
ومن أجل هذا أمرنا الله -عزَّ وجلَّ- أن نسأله الهداية إلى الصراط المستقيم كل يوم وليلة في صلواتنا الخمس والنوافل، فالعبد محتاج إلى معرفة الحق الذي يرضي الله، فإذا عرفه فهو محتاج إلى من يلهمه قصد الحق، فيجعل إرادته في قلبه، ثم إلى من يقدره ويعينه على فعله.
أيها الإخوة: إن الإيمان والكفر, والهدى والضلال, لا تتعلق بالبراهين والأدلة على الحق, فالحق هو برهان في ذاته, وله من السلطان على القلب البشري ما يجعله يقبله، ويطمئن إليه، ويرضخ له؛ ولكنها المعوقات الأخرى التي تحول بين القلب والحق، وموجبات الإيمان كامنة في القلب ذاته، وفي الحق كذلك بذاته، فيجب أن تتجه المحاولة إذاً إلى ذلك القلب لعلاجه من آفاته ومعوقاته. ومشيئة الله -سبحانه- هي المرجع الأخير في أمر الهدى والضلال، فقد اقتضت مشيئة الله أن تبتلي البشر بقدر من حرية الاختيار والتوجه في الابتداء.
أيها الإخوة: إن الله -جل جلاله- أعلم بعباده من أنفسهم، فهو الذي يحكم على العباد بأن هذا مهتد وهذا ضال: (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) [القلم: 7]، والهداية إلى الإيمان نعمة كبرى بل هي أجل النعم، لا يعرفها إلا من ذاقها، فهي تنشئ في القلب حياة بعد الموت، وتطلق فيه نوراً بعد الظلمات، حياة يعيد بها تذوق كل شيء، وتصور كل شيء، بحس آخر لم يكن يعرفه قبل هذه الحياة، ونوراً يبدو كل شيء تحت أشعته جديداً كما لم يبدُ من قبل قطّ, لذلك القلب الحي هو الذي نوره الإيمان كما قال -سبحانه-: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الأنعام: 122].
فالهدى والآيات، والمواعظ والنصائح، تنزل على القلب كما ينزل الماء على التربة، فإن كان القلب طيباً كالبلد الطيب تفتح واستقبل، وزكا وفاض بالخير والبركات، وإن كان القلب فاسداً شريراً كالذي خبث من البلاد والأماكن استغلق وقسا، وفاض بالشر والنكر والفساد، وإخراج الشوك والأذى كما تخرج الأرض النكدة ذلك.
نسأل الله أن يرزقنا الهداية والإخلاص في الأقوال والأعمال، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
عباد الله: وللهداية أسباب وعلامات منها: الإيمان كما قال -سبحانه-: (وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [الحج: 54]، ومن علاماتها بذل الجهد للدين كما قال -سبحانه-: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) [العنكبوت: 69]، وكذا الاعتصام بالله كما قال -سبحانه-: (وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [آل عمران: 101]، واتباع ما يحبه الله ويرضاه كما قال -سبحانه-: (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [المائدة: 15، 16].
ومن علامات الهداية: الإنابة إلى الله، كما قال -سبحانه-: (اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) [الشورى: 13]، والإكثار من الدعاء كما قال -سبحانه-: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) [الفاتحة: 6] ، واتباع العلم العمل كما قال -سبحانه-: (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ) [الزمر: 18].
ومن علامات الهداية: اتباع الرسول كما قال -سبحانه-: (فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [الأعراف: 158], وطاعة الرسول كما قال -سبحانه-: (وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ) [النور: 54], ومن علامات الهداية: توفيق الله وعونه, كما قال -سبحانه-: (لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [النور: 46].
أيها الإخوة: وهناك موانع للهداية منها: عدم الإيمان كما قال -سبحانه-: (إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [النحل: 104]، ومن أسباب الضلالة: الشرك كما قال -سبحانه-: (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدً) [النساء: 116]، والكفر كما قال -سبحانه-: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) [المائدة: 67]، والظلم كما قال -سبحانه-: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [الأنعام: 144]، والفسق, كما قال -سبحانه-: (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) [التوبة: 80]، وعدم إرادة الله هدايته كما قال -سبحانه-: (فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ) [النحل: 37]، والكذب, كما قال -سبحانه-: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ) [الزمر: 3].
ومن موانع الهداية: الإسراف كما قال -سبحانه-: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) [غافر: 28]، والزيغ كما قال -سبحانه-: (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) [الصف: 5]، وكثرة المعاصي كما قال -سبحانه-: ( وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا) [الأحزاب: 36]، ومنها عدم الرغبة في الهدى, كما قال -سبحانه-: (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [فصلت: 17].
عباد الله: وتلك الموانع تظهر في واقع الناس؛ كضعف معرفة العبد وقلة إدراكه، ومنها: محبة الأهل والعشيرة، فيرى أنه إذا اتبع الحق وخالفهم أبعدوه وطردوه عنهم، وأخرجوه من بين أظهرهم، وهذا سبب بقاء كثير من الخلق على الكفر بين قومهم وأهلهم. ومحبة الدار والوطن، فيرى أن في دخوله في الإسلام خروجه عن داره ووطنه إلى دار الغربة.
ومنها: من تخيل أن في الإسلام ومتابعة الرسول إزراءً وطعناً على آبائه وأجداده وذماً لهم، وهذا هو الذي منع أبا طالب وأمثاله عن الإسلام. ومتابعة من يعاديه من الناس للرسول، فتحمله هذه العداوة له على معاداة الحق وأهله، وهذا كما جرى لليهود مع الأنصار، فلما أسلم الأنصار حملتهم معاداتهم لهم على البقاء على كفرهم.
وقيام مانع وهو إما حسد أو كبر، وهو داء الأولين والآخرين، وهو الذي منع إبليس من الانقياد للأمر، وهو الذي منع اليهود ومنع أبا جهل وعبد الله بن أبي من الإسلام، فهؤلاء لم يرتابوا في صدق النبي -صلى الله عليه وسلم-، لكن حملهم الكبر والحسد على الكفر به.
ومانع الرياسة والملك، فقد لا يكون في قلبه حسد ولا كبر، ولكن يضن بملكه ورياسته كحال هرقل، وملك القبط، وهو داء فرعون. ومانع الشهوة والمال، وهو الذي منع كثيراً من أهل الكتاب وغيرهم من الإيمان خوفاً من ذهاب أموالهم ومآكلهم التي تصير إليهم من قومهم، كالأحبار والرهبان الذين يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله.
ومانع الإلف والعادة والمنشأ، فإن العادة قد تقوى حتى تغلب على حكم الطبيعة، فيتربى على شيء، ثم يأتيه العلم وهلة واحدة يريد إزالتها وإخراجها من قلبه وأن يسكنه مكانها؛ فيعسر عليه الانتقال عنه، وهذا هو الغالب على الأمم.
عباد الله: وحياة القلب ونوره مادة كل خير فيه، وموته وظلمته مادة كل شر فيه، فأهل الإيمان في النور وانشراح الصدر، وأهل الضلال في الظلمة وضيق الصدر كما قال -سبحانه-: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ) [الأنعام: 125].
عباد الله: إن الله -تبارك وتعالى- أرسل الرسل، وأنزل الكتب، وأوضح السبل، وأزاح العلل، ومكن من أسباب الهداية والطاعة بالأسماع والأبصار والعقول، وهذا عدله، ووفق من شاء من عباده بمزيد عناية، وأراد -سبحانه- من نفسه أن يعينه ويوفقه فهذا فضله، وخذل من ليس بأهل لتوفيقه وفضله، وخلى بينه وبين نفسه، ولم يرد -سبحانه- أن يوفقه، فقطع عنه فضله ولم يحرمه عدله: إما جزاء منه للعبد على إعراضه عنه، وعدم ذكره وشكره، فهو أهل أن يخذله ويتخلى عنه، أو لا يشاء له الهداية ابتداء لما يعلم منه أنه لا يعرف قدر نعمة الهداية، والله يعلم وأنتم لا تعلمون: (وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) [الأنفال: 23].
اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وقنا برحمتك واصرف عنا شر ما قضيت، إنك تقضي ولا يقضى عليك. اللهم اهدنا واهد بنا واجعلنا سببًا لمن اهتدى، ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت على الحق أقدامنا، وأصلح لنا أحوالنا.