العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | أركان الإيمان - أسماء الله |
في معرفة الله -عز وجل- والعلم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى زيادة في إيمان العبد ويقينه وتحقيقه للتوحيد، ومن خلال تلك المعرفة والإيمان يتذوق الإنسان طعمَ العبودية لله عزَّ وجلَّ، وبحسب معرفة المرء بربه يكون مستوى إيمانه، فكلما ازدادت المعرفة ازداد الإيمان، وكلما نقصت نقص الإيمان...
الخطبة الأولى:
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70-71]، أما بعد:
عباد الله: إنَّ أعظم ركن من أركان الإيمان التي لا بد للعبد من أن يأتي بها ليدخل في عداد المؤمنين هو الإيمان بالله تعالى، وهذا الإيمان بالله يتضمن أربعة أمور ليكون صحيحاً مقبولاً، وهي: الإيمان بوجود الله تعالى، والإيمان بربوبيته، والإيمان بألوهيته، والإيمان بأسمائه وصفاته.
والمراد بالإيمان بأسماء الله وصفاته: إثبات ما أثبته الله لنفسه وأثبته له رسوله -صلى الله عليه وسلم- من الأسماء والصفات على الوجه الذي يليق بكمال الله وجلاله، من غير تمثيل أو تكييف، ومن غير تحريف أو تعطيل، مع الإيمان بمعانيها التي دلت عليها وتضمنتها تلك الأسماء والصفات، وبما يترتب عليها من مقتضيات وأحكام، قال الله تعالى: (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الأعراف: 180]، وقال -جلَّ وعلا-: (فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى: 11]، وقال -أيضاً-: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) [الإسراء:36].
ومع ما للإيمان بأسماء الله وصفاته ومعرفته من مكانة عظيمة حيث أنَّه ركن لا بد منه؛ فإنَّ لمعرفة أسماء الله الحسنى وصفاته العلى وتحقيق الإيمان بها آثارا حميدة؛ فمنها ما يلي:
إدراك العبد لعظمة الله -جل في علاه-.
ومنها: تحقيق العبد للتوحيد وزيادة إيمان ويقينه بربه -سبحانه- وتعالى-.
ومنها: تذوق طعمَ العبودية لله -عزَّ وجلَّ- ولا شك أن حصول هذا مشروط بمعرفة العبد بربه وأسمائه وصفاته.
ومن آثار الإيمان بأسماء الله تعالى وصفاته: أنَّ العارف بالله تعالى والعالم به حقيقةً يستدل بما علم من تلك الصفات والأفعال على ما يشرعه الله تعالى من أحكام وما يصدر منه من أفعال؛ فإنَّه -جلَّ وعلا- لا يفعل إلا ما تقتضيه أسمائه وصفاته، وكل فعل يفعله فهو دائر بين فضله وحكمته وعدله، كذلك لا يشرع -سبحانه- وتعالى حكماً من الأحكام إلا وفق ما يقتضيه حمده وعدله وفضله؛ فكل أخباره تعالى صدق وحق، وكل أوامره ونواهيه حكمة وعدل ورحمة.
ومن آثار الإيمان بأسماء الله تعالى وصفاته: أنها تغرس في قلب العباد الأدب مع الله تعالى، والحياء منه؛ فمن يعلم أن الله تعالى يراه فإنَّه يستحي منه أن يراه على منكر، ومن تيقن أن ربه -عزَّ وجلَّ- يسمعه خجلَ أن يخرج من فمه ما يغضب ربه ويسخطه، وهكذا الحال مع أسماء الله تعالى وصفاته تبعث على الأدب والخضوع والإجلال والتعظيم لله تعالى الذي تسمى واتصف بها.
ومن آثار معرفة أسماء الله وصفاته وتحقيق الإيمان بها: تزكية نفوس العارفين بها وإقامتها على منهج ربها -عزَّ وجل-، وتلك التزكية للنفوس مطلوبة قد أثنى الله تعالى على أصحابها فقال جلَّ من قائل: (قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا) [الشمس:9]، أي: من زكى نفسه.
ومن الآثار -أيضا- أنها تملأ القلب شوقاً إلى الله تعالى، وخضوعاً وانكساراً بين يدي المولى -سبحانه-ورغبة في ما عنده، وحباً له، ويفيض القلب حمداً وشكراً لمن اتصف بتلك الصفات --سبحانه- وتعالى-.
ومن آثار الإيمان بأسماء الله وصفاته ومعرفتها: خوف العبد من ربه ومراقبته له-عزَّ وجلَّ- في كل حركاته وسكناته، وفي سره وعلنه، كما تجعل تلك المعرفةُ المرءَ مراقباً لخواطره يحرسها من الاسترسال في الأفكار الرديئة، والإرادات الفاسدة.
ومن آثار ذلك: افتقار العباد إليه -سبحانه- والتفاتهم إليه واعتصامهم به في كل الأوقات والأحوال.
كما أن من آثار الإيمان بأسماء الله وصفاته: الثقة بالله في المصائب والآلام؛ فإنَّ من عرف الله بأسمائه وصفاته زادت ثقته به.
ومن ثمار الإيمان بها: دعاء الله بها، قال تعالى في كتابه العزيز: (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الأعراف:180]، وقال -سبحانه-: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) [غافر:60].
ومن آثار الإيمان بصفات الله تعالى -أيضا-: أن هناك تلازم وترابط وثيق بين هذه الصفات وبين ما تقتضيه من عبادات ظاهرة وباطنة؛ فإنَّ لكل صفة من صفات المولى -جلَّ وعلا- عبودية خاصة هي من موجبات ومقتضيات العلم بها والتحقق بمعرفتها، وهذا الأمر عام ويطَّرد في كل أنواع العبودية التي على القلب والجوارح.
فمثلاً: حين يعلم العبد أن الرب -جلَّ جلاله- متفرد بالعطاء، والمنع، وبالضر والنفع، والرزق والخلق والإماتة والإحياء؛ فإن ذلك يثمر له: عبودية التوكل على ربه باطنًا، ولوازم التوكل وثمراته ظاهرًا. وحين يعلم بسمع الله تعالى وبصره، وحين يدرك أنه -سبحانه- وتعالى- لا يخفى عليه مثقال ذرة، وأنه عالم السر، ويعلم -سبحانه- خائنة الأعين وما تُخفي الصدور فإنَّ ذلك العلم والإدراك يثمر له: حفظ اللسان والجوارح، وبل وحفظ خطرات قلبه عن كل شيء لا يرضي ربه تعالى، كما أنَّه يقطف من ذلك ثمرة عظيمة هي الحياء من الله؛ والذي ينتج منه اجتنابه للمحرمات والقبائح، ومعرفة العبد بأنَّ الله غني جواد، كريم محسن رحيم برٌّ ينتج عنه عبودية سعة الرجاء بالله، وحين يعلم أن ربه -عزَّ وجلَّ- عظيم وعزيز، ويعرف جلاله فإنه يثمر له ذلك الاستكانة له والخضوع والمحبة، وهذه الأمور القلبية تثمر له أنواعاً من العبادات الظاهرة، فعادت بذلك العبودية جميعها إلى مقتضى أسماء الله وصفاته.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسّلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد النّبي الأمي الكريم، وعلى آله وصحبه أجمعين، أمّا بعد:
عباد الله: فإنَّ المتأمل في عظيم ما يناله من حقق الإيمان بأسماء الله وصفاته من الثمار المرجوة؛ لا يكاد يحصى لها عدا؛ وحسبنا أن نضيف إلى ما ذكرناه:
أن الإيمان بأسماء الله -عز وجل- وصفاته، وفهمها ليكسب العبد التوكل على الله ومحبته، وفي ذلك يقول العز بن عبد السلام -رحمه الله تعالى: "فهم معاني أسماء الله تعالى وسيلة إلى معاملته بثمراتها من التوكل والرجاء، والمهابة، والمحبة وغير ذلك من ثمرات معرفة الصفات".
كذلك من الآثار التي يتحصل عليها المؤمن بأسماء الله تعالى: أنَّه سيجد في ذلك أكبرَ عونٍ على تدبر كلام الله تعالى وفهمه على الوجه الأكمل، فقد أمرنا الله - عز وجل- بتدبر القرآن في قوله -سبحانه-: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) [النساء: 82]، وقال تعالى: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) [ص: 29]، وقال أيضا: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) [محمد: 24].
ونظرًا لأنَّ كتاب الله تعالى مليء بذكر أسماء الله تعالى والصفات، وفي كل موضع ترد لها متعلقات فإنَّ في تدبرها وفهما بابًا كبيرًا من أبواب تدبر القرآن وفهمه، فإنك -أخي الكريم- إذا تدبَّرتَ القرآنَ بعيداً عن تحريف وتعطيل أصحاب الأهواء والتأويلات المنحرفة؛ فإنك ستجد فيه رباً له الملك، قيوماً فوق سماواته، مستوٍ على عرشه، يأمر وينهي، يدبِّر الأمر، يرسل إلى عباده رسله، وينزل عليهم كتبه، يعطي من يشاء ويمنع، يرضى -سبحانه- وتعالى ويغضب، ويُعِزُّ ويُذِلُّ، ويخفض ويرفع، يبصر ويرى من فوق سبع سموات، ويسمع كل صوت، يعلم السر والعلن، يفعل ما يريد، اتصف بكل كمال، وتنزه عن كل عيب، لا يتحرك في كون شيء إذنه، ولا تسقط ورقةٌ إلا بعلمه، لا أحد يشفع عنده إلا بإذنه، وليس لأحد من عباده من دوني ولي ولا شفيع، -سبحانه- ما أعظم قدره، وما أعلى شأنه.
ومن آثار الإيمان بأسماء الله تعالى وصفاته: أنه كلما زاد العبد معرفةً بها تبصَّر أكثر بما في نفسه من نقائص، وما يعتريها من عيوب وآفات، فيجتهد في إصلاحها، ويسعى في تقويمها، يقول ابن القيم -رحمة الله عليه-: "أركان الكفر أربعة: الكبر، والحسد، والغضب، والشهوة... ومنشأ هذه الأربعة من جهله بربه وجهله بنفسه، فإنه لو عرف ربه بصفات الكمال، ونعوت الجلال، وعرف نفسه بالنقائص والآفات لم يتكبر، ولم يغضب لها، ولم يحسد أحدًا على ما آتاه الله، فإن الحسد في الحقيقة نوع من معاداة الله، فإنه يكره نعمة الله على عبده وقد أحبها الله، وأحب زوالها عنه والله يكره ذلك، فهو مضاد لله في قضائه وقدره ومحبته وكراهته".
والإيمان بأسماء الله وصفاته سيجعلك -أيها المسلم- ترى نفسك على حقيقتها، وتضعها في مكانه، وبهذا سيسهل عليك سلوك سبيل الاستقامة، ومجانبة طريق الضلال والانحراف.
أيها المسلمون: فإنَّ هذا الذي سمعتموه هو جزء من الثمرات العظيمة للإيمان بأسماء الله تعالى وصفاته، وتلك الآثار هي بعض من الفوائد الجليلة لمعرفتها، وهذا يدعوكم إلى الاهتمام بمعرفة أسماء الله وصفاته، وإلى التعرف على ربكم من خلالها؛ لتنعموا بتلك الثمار، ولتجنوا تلك الفضائل، فإن من عرف الله حق المعرفة عبده كما ينبغي له، وأناب إليه كما هو مطلوب منه.
اللهم إنا نسألك بكل اسم هو لك سمّيت به نفسك, أو أنزلته في كتابك، أو علّمته أحداً من خلقك, أن تجعل القرآن ربيع قلوبنا, ونور صدرونا, وجلاء أحزاننا, وذهاب همومنا وغمومنا.
هذا وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة عليه فقال عز من قائل: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].