البحث

عبارات مقترحة:

القاهر

كلمة (القاهر) في اللغة اسم فاعل من القهر، ومعناه الإجبار،...

القادر

كلمة (القادر) في اللغة اسم فاعل من القدرة، أو من التقدير، واسم...

اللطيف

كلمة (اللطيف) في اللغة صفة مشبهة مشتقة من اللُّطف، وهو الرفق،...

علاج مرض القلب من استيلاء النفس عليه

العربية

المؤلف ملتقى الخطباء - الفريق العلمي
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات المنجيات
عناصر الخطبة
  1. منشأ جميع أمراض القلوب .
  2. أقسام النفس   .
  3. حقيقة طمأنينة النفس .
  4. صفات النفس الأمارة .
  5. خصائص النفس اللوامة .
  6. علاج القلب من استيلاء النفس .
  7. مراحل محاسبة النفس .
  8. أنفع ما للقلب. .

اقتباس

إن صلاح القلب بمحاسبة النفس، وفساده بإهمالها والاسترسال معها. وجماع ذلك أن يحاسب نفسه أولاً على الفرائض، فإن تذكر فيها نقصًا تداركه إما بقضاء أو إصلاح أو الإكثار من النوافل. ثم يحاسبها على المناهي، فإن عرف أنه ارتكب منها شيئًا، تداركه بالتوبة والاستغفار والحسنات الماحية. ثم يحاسب نفسه كذلك على الغفلة...

الخطبة الأولى:

الحمد لله الذي خلق العباد حنفاء، وفطرهم على الخير وكراهة الشر. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وإليه المرجع يوم الحشر والنشر, وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله أرسله إلى الناس كافة، فبلّغ الرسالة وأدى الأمانة، ونصح للأمة في السر والجهر، اللهم صلّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه, صلاة وسلامًا دائمين متلازمين طول الدهر.

أما بعد:

عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله، ففيها النجاة والسلامة، وعظّموا ربكم حق تعظيمه، وأثنوا عليه بما هو أهله، واحذروا شرور النفس، ففيها من الشرور ما الله به عليم، واعلموا أن استيلاء النفس الأمارة بالسوء على القلب يدفع الإنسان إلى عقائد باطلة، وتصورات فاسدة، وأعمال غير سوية؛ لأن القلب أشرف أعضاء الإنسان، بصلاحه تصلح أعمال الجوارح، وبفساد القلب يفسد عمل الجوارح، ولا يأمن العبد شر نفسه وما تحمله من سوء نوايا وخفايا، قال الله تعالى: (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) [يوسف: 53].

عباد الله: إن جميع أمراض القلوب إنما تنشأ من جانب النفس، فالمواد الفاسدة كلها تنصبّ إليها، ثم تنبعث منها إلى الأعضاء، وأول ما تنال القلب، وقد استعاذ النبي -صلى الله عليه وسلم- من شرها عمومًا، ومن شر ما يتولد منها من الأعمال، ومن شر ما يترتب على ذلك من المكاره والعقوبات، فعن النبي  -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يقول: "اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، لَا إِلَـهَ إِلاَّ أَنْتَ، رَبَّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكَهُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ نَفْسِي، وَمِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ وَشِرْكِهِ، وَأَنْ أَقْتَرِفَ عَلَـى نَفْسِي سُوءًا، أَوْ أَجُرَّهُ إِلَى مُسْلِمٍ" [أخرجه البخاري في الأدب المفرد (1239)، وصححه الألباني].

عباد الله: إن النفس الأمارة قاطعة بين القلب وبين الوصول إلى الرب –سبحانه-، فإنه لا يُدخَل عليه -سبحانه- ولا يُوصَل إليه إلا بعد إماتتها وزجرها ومخالفتها.

وإن أحوال الناس مع نفوسهم على قسمين: قسم ظفرت به نفسه فملكته وأهلكته، وصار طوعًا لها، ينفّذ أوامرها. وقسم ظفروا بنفوسهم فقهروها، فصارت طوعًا لهم، منقادة لأوامرهم. فالنفس تدعو إلى الطغيان، وإيثار الحياة الدنيا, والرب يدعو عبده إلى طاعته وخوفه، ونهى النفس عن الهوى، والقلب بين الداعيين, يميل إلى هذا الداعي مرة وإلى هذا مرة, وهذا موضع المحنة والابتلاء.

عباد الله: والنفس واحدة باعتبار ذاتها، وثلاث باعتبار صفاتها: نفس مطمئنة, ونفس لوامة, ونفس أمارة بالسوء. فالنفس إذا سكنت إلى الله واطمأنت بذكره، وأنابت إليه، واشتاقت إليه، وأنست بقربه، فهي المطمئنة، وهي التي يُقال لها عند الموت: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي) [الفجر: 27-30].

وحقيقة طمأنينة النفس سكونها واستقرارها، فهي التي قد سكنت إلى ربها وطاعته وأمره وذِكْره، ولم تسكن إلى أحدٍ سواه. واطمأنت إلى محبته وعبوديته -سبحانه- واطمأنت إلى أمره ونهيه وخبره, واطمأنت إلى لقائه ووعده, واطمأنت إلى قضائه وقدره, واطمأنت إلى كفايته وحسبه, واطمأنت إلى التصديق بحقائق أسماء الله وصفاته, واطمأنت بأن الله وحده ربها وإلهها ومعبودها ومليكها, ومالك أمرها كله, وأن مرجعها إليه, وأنه لا غنى لها عنه طرفة عين, واطمأنت إلى الرضا بالله ربًّا, وبالإسلام دينًا, وبمحمد رسولاً.

والنفس الأمارة بالسوء: هي التي بضد ذلك تأمر صاحبها بالسوء, وبما تهواه من شهوات الغي والباطل, فهي مأوى كل سوء, وإن أطاعها العبد قادته إلى كل قبيح, وساقته إلى كل مكروه, وهي التي ذكرها الله تعالى بقوله: (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) [يوسف: 53].

وعادة النفس ودأبها الأمر بالسوء إلا إذا رحمها الله، وجعلها زاكية تأمر صاحبها بالخير، فذلك من رحمة الله لا منها، فإنها بذاتها أمارة بالسوء؛ لأنها في الأصل خُلقت جاهلة ظالمة إلا من رحمه الله، والعدل والعلم طارئ عليها بإلهام ربها وفاطرها لها.

فإذا الله لم يلهمها رشدها، بقيت على ظلمها وجهلها، فلم تكن أمارة إلا بموجب الجهل والظلم. فلولا فضل الله ورحمته على المؤمنين ما زكت منهم نفس واحدة، كما قال -سبحانه-: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [النور: 21].

عباد الله, أما النفس اللوامة فهي التي تكثر من لوم صاحبها، كما أخبر الله عنها بقوله: (لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) [القيامة: 1، 2]، فكل نفس تلوم نفسها يوم القيامة, تلوم المحسن نفسه أن لا يكون ازداد إحسانًا, وتلوم المسيء نفسه أن لا يكون رجع عن إساءته.

والمؤمن ما تراه إلا يلوم نفسه على كل حالاته, يلومها على كل ما يفعل، ويلومها على ترك ما أمر الله به, ويلومها على تأخيره ونقصه إن فعله، ويلومها على فعل ما نهى الله عنه وعلى كثرته وإعلانه.

والنفس قد تكون تارة لوامة, وتارة أمارة بالسوء, وتارة مطمئنة، بل في اليوم الواحد، والساعة الواحدة، يحصل منها هذا وهذا، والحكم للغالب عليها من أحوالها؛ فكونها مطمئنة وصفُ مدحٍ لها, وكونها أمارة بالسوء وصف ذمّ لها، وكونها لوامة ينقسم إلى المدح والذم بحسب ما تلوم عليه من ترك واجب، أو فعل محرم.

عباد الله: وإذا استولت النفس الأمارة بالسوء على القلب مرض القلب ولا بد، وهلاك الإنسان من إهمال محاسبتها، ومن موافقتها واتباع هواها.

وعلاج النفس في محاسبتها, ومخالفتها. والنفس مع صاحبها كالشريك في المال بينهما شروط وعهود، فكذلك النفس حتى تزكو لا بدَّ أن يتفق معها على حفظ الجوارح السبعة التي يعتبر حفظها هو رأس المال، والربح بعد ذلك، وهي: العين، والأذن، والفم، واللسان، والفرج، واليد، والرجل.

وهذه هي مراكب العطب والنجاة، فمنها خسر من خسر بإهمالها وعدم حفظها، ونجا من نجا بحفظها ومراعاتها، فحفظها أساس كل خير، وإهمالها أساس كل شر، قال تعالى: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ) [النور: 30]، وقال الله تعالى: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) [الإسراء: 36]، وقال -جل وعلا-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا) [الأحزاب: 70].

فإذا شارط العبد نفسه على حفظ هذه الجوارح انتقل منها إلى مطالعتها ومراقبتها، فلا يهملها لئلا ترتع في الخيانة، ومتى أحس بالنقصان بادر إلى محاسبتها وتذكيرها بما شارطها عليه، فإن أحس بالخسران استدرك منها ما يستدركه الشريك من شريكه، من الرجوع عليه بما مضى، والقيام بالحفظ والمراقبة في المستقبل، ولا مطمع له في فسخ عقد الشركة مع هذا الخائن والاستبدال بغيره فإنه لا بدَّ له منه.

فليجتهد في مراقبته ومحاسبته، وليحذر من إهماله، ويعينه على هذه المراقبة والمحاسبةِ معرفتُه أنه كلما اجتهد فيها اليوم استراح منها غدًا، إذا صار الحساب إلى غيره يوم القيامة. ويعينه كذلك معرفته أن ربح هذه التجارة سكنى الفردوس، والنظر إلى وجه الرب -سبحانه-، والفوز برضوانه. وخسارتها دخول النار والحجاب عن الرب تعالى، والتعرض لسخطه، فإذا تيقن هذا هان عليه الحساب اليوم وغدًا، قال تعالى: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ) [آل عمران: 30].

نسأل الله العفو والعافية والمعافاة في الدين والدنيا والآخرة، وأن يجنبنا سُبُل الغواية، وأن يتم علينا إيماننا، ويصلح لنا أحوالنا، ويحسن لنا الختام أجمعين، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه وتوبوا إليه.

الخطبة الثانية:

الحمد لله الذي أكرم أولياءه بطاعته، والصدق في معاملته، وأنزل في قلوبهم الإيمان، وأيدهم بروح منه، وعمر أوقاتهم بالبذل لخدمة الدين، وإعزاز المؤمنين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

أيها المؤمنون: اتقوا الله ربكم، وآمنوا به، وأخلصوا له العمل، وحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزِنُوا أعمالكم قبل أن تُوزَن عليكم.

واعلموا أن محاسبة النفس نوعان: الأول: محاسبتها قبل العمل، فإذا تحركت النفس لعملٍ من الأعمال، وهمَّ به العبد، فلينظر هل يجوز هذا العمل أم لا؟، وهل إذا عملته تخلص فيه لله؟. والثاني: محاسبة النفس بعد العمل، وتكون بمحاسبتها على طاعة قصَّرت فيها في حق الله تعالى.

عباد الله: والعبد يحاسب نفسه كذلك على كل عمل كان تركه خيرًا له من فعله، وعلى كل أمر مباح أو معتاد لِمَ فعله؟ وهل أراد به الله والدار الآخرة؟ أو أراد به الدنيا وعاجلها؟.

إن صلاح القلب بمحاسبة النفس، وفساده بإهمالها والاسترسال معها. وجماع ذلك أن يحاسب نفسه أولاً على الفرائض، فإن تذكر فيها نقصًا تداركه إما بقضاء أو إصلاح أو الإكثار من النوافل.

ثم يحاسبها على المناهي، فإن عرف أنه ارتكب منها شيئًا، تداركه بالتوبة والاستغفار والحسنات الماحية.

ثم يحاسب نفسه كذلك على الغفلة، فإن كان قد غفل عما أوجد له، تداركه بالذكر والإقبال على الله تعالى.

ثم يحاسبها على ما تكلم به لسانه، أو مشت إليه رجلاه، أو بطشت يداه، أو سمعته أذناه، ماذا أردت بهذا؟ ولم فعلته؟, فكل عبد سيُسأَل عن الإخلاص والمتابعة في كل عمل، قال -جل وعلا-: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) [الكهف: 110].

وإذا كان العبد مسؤولاً ومحاسبًا على كل شيء، فهو حقيق أن يحاسب نفسه قبل أن يُناقَش الحساب غدًا، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر: 18]. ومحاسبة النفس تكون بنظر العبد في حق الله عليه أولاً، ثم نظره هل قام به كما ينبغي لجلال الله ثانيًا، ثم نظره هل أداه في وقته ثالثًا، ثم نظره في تقصيره عن شكر ما أنعم الله به عليه رابعًا.

عباد الله: وأنفع شيء للقلب النظر في حق الله على العبد، فإن ذلك يورثه مقت نفسه، والازدراء عليها، ويخلصه من العجب ورؤية العمل، ويفتح له باب الذل والخضوع والانكسار بين يدي الله، واليأس من نفسه، وأن النجاة لا تحصل له إلا بعفو الله ومغفرته ورحمته.

إن من حقه -سبحانه- أن يُطاع فلا يُعصى، وأن يُذكر فلا يُنسى، وأن يُشكر فلا يُكفر، وأن يُعبد وحده دون سواه. فمن نظر في هذا الحق الذي لربه عليه، علِم علْم اليقين أنه غير مؤدٍ له كما ينبغي، وأنه لا يسعه إلا طلب العفو والمغفرة، وأنه إن أحيل على عمله هلك.

فهذا محل نظر أهل المعرفة بالله تعالى وبنفوسهم، وهذا الذي أيأسهم من أنفسهم، وعلق رجاءهم كله بعفو الله ورحمته. أوصى النبي -صلى الله عليه وسلم- العباد أن يحرصوا على الخير، والمسارعة في الخير، مع رجاء رحمة الله وعدم الاتكال على العمل وحده، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "سَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَأبْشِرُوا، فَإِنَّهُ لَنْ يُدْخِلَ الْجَنَّةَ أحَدًا عَمَلُهُ" قَالُوا: وَلا أنْتَ؟ يَا رَسُولَ الله! قَالَ: "وَلا أنَا، إِلا أنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللهُ مِنْهُ بِرَحْمَةٍ، وَاعْلَمُوا أنَّ أحَبَّ الْعَمَلِ إِلَى الله أدْوَمُهُ وَإِنْ قَلَّ" [البخاري (6464)، ومسلم (2818)].

عباد الله: وإذا تأمل العبد حال أكثر الناس وجدهم بضد ذلك، ينظرون في حقهم على الله، ولا ينظرون في حق الله عليهم، ومن هنا انقطعوا عن الله، وحجبت قلوبهم عن معرفته ومحبته، والشوق إلى لقائه، والتلذذ بذكره، والابتهاج بطاعته، وهذا غاية جهل الإنسان بنفسه وربه.

ومعرفة العبد بحق الله عليه يجعله لا يُعجَب بعمل أصلاً كائنًا ما كان، ومن أُعجب بعمله لم يصعد إلى الله تعالى، والله غني عن كل ما سواه، قال -جل وعلا-: (وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) [العنكبوت: 6].

عباد الله, إن غذاء القلب وصلاحه وسعادته وفلاحه في عبادة الله وحده، والاستعانة به وحده، قال تعالى: (فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ) [الشعراء: 213]، وهلاك القلب وشقاؤه، وضرره العاجل والآجل، في عبادة المخلوق والاستعانة به.

وإن الوحي للأرواح والقلوب بمنزلة الأرواح للأجساد، فكما أن الجسد بلا روح لا يحيا ولا يعيش، فكذلك الروح والقلب بدون روح الوحي لا يصلح ولا يفلح, (فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ) [غافر: 14، 15].

عباد الله: إن من لم يتغذ قلبه بنور الإيمان، يرى العزة بالأموال والأشياء، لا بالإيمان والأعمال، وبذلك يحرم من الأعمال الصالحة، ويتعلق قلبه بالفانية، وكلما ضعف الإيمان نقص الدين، وإذا كانت القلوب متوجهة إلى الله, مع العمل الصالح فُتحت للإنسان أبواب الهداية والفوز في الدنيا والآخرة، قال تعالى: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 71].

فجددوا -أيها الإخوة- إيمانكم، واحذروا أمراض القلوب، وعودوا لربكم، ولا تغرنكم الحياة الدنيا.

نسأل الله كمال الإيمان به، وجميل التوكل عليه، وحسن الظن فيه، ونسأله أن يصلح لنا قلوبنا.

اللهم املأ قلوبنا ثقة بك، وتوكلاً عليك، ومحبة لك، اللهم إنا نسألك إيمانًا صادقًا، ولسانًا ذاكرًا، وقلبًا خاشعًا.

اللهم ثبتنا على الإسلام، وارزقنا حلاوة الإيمان، واجعلنا من أهل السعادة يا كريم يا منان.

اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات.