الوتر
كلمة (الوِتر) في اللغة صفة مشبهة باسم الفاعل، ومعناها الفرد،...
العربية
المؤلف | نايف بن حمد الحربي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الحج |
حَديثاً سأُحَدِّثْكُمُوهُ, ليسَ بخَافٍ على شَريفِ عِلمِكُم, لكنْ ليَشفَع لَهُ في القَبُولِ لَدَيكُم عَدُّكُم إيَّاهُ مِن قَبيلِ الـمُذَاكَرَة, فإلى القَول. فاللهَ اللهَ يا أهلَ الإسلام! جَمِّلُوا أشواقَكُم إلى بيتِ رَبِكُم, بفِقهِكُم بمَنَاسِكِ حَجِكُم؛ إذْ إنَّ أعذَبَ الـمُشتَاقِينَ شَوقاً, مَن كانَ مِنهُم عالِماً بِمسَالِكِ الحُبِّ.
الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ مَا مَوسِمٌ للخيرَاتِ دَنى, وعلى الدُنيا أَطَل, والحمدُ للهِ مَا عَقَدَ العزمَ مُوَفَقٌ, وبالحجِّ أَهَل, والحمد للهِ مَا لَبَّى مُلَبٍ, والـمَولَى أَجَل, فالحمدُ لله في كُلِّ حينٍ, مَا شُدَتْ إلى البيتِ رِحَالٌ, ومَا مُرتَحِلٌ عن البيتِ قَفَل.
وأشهد أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمداً عبدُهُ ورسولُهُ، صلى اللهُ وسَلَّمَ وبارَكَ عليه، وعلى آلِهِ وصحبِهِ, وتابعيهِم بإحسانٍ إلى يومِ الدين.
أما بعد: فعَلَيْكم بتقوى اللهِ عبادَ الله، تُورِثُكُم طَاعَةً إِثْرَ طَاعَة؛ إذْ غَيْبُ صَاحِبِهَا, يَفضُلُ شَاهِدَهُ نَصَاعَة.
معاشرَ المسلمين: المعاني شَوَارِدُ تَضِلُ بالإغفَال, والعُلُومُ وحشِيَةٌ تَنْفِرُ بالإرسَال, فإنْ حَفِظتُمُوهَا بعدَ الفَهْمِ أَنِسَتْ, وإذا ذَاكَرتُمُوهَا بعدَ الأُنسِ رَسَتْ. قالت العُلَماء: "مَن أكثَرَ مُذاكَرَةَ العِلمِ, لم يَنسَ ما عَلِم, واستَفَادَ مَا لم يَعلَم".
وأنشأت الشُعَراءُ:
إذا لَمْ يُذَكِرْ ذُو العلوم بِعِلْمِهِ | ولَمْ يَستَفِدْ عِلماً نَسِيْ مَا تَعَلَّمَا |
فكَمْ جَامِعٍ لِلكُتْبٍ في كُلِّ مَذهَبٍ | يَزِيدُ معَ الأيامِ في جَمعِهِ عَمَى |
جاءَ في جَامِعِ الخطيبِ البغدادي: أَنبَأنَا ابنُ رِزْقٍ, أَنبَأنَا عُثمَانُ بنُ أحمدَ, حَدَثَنَا حَنبَل, حَدَثَنَا مُحمدُ بنُ سَعيدٍ الأصفهانيُ, أَنبَأنَا ابنُ فُضَيلٍ، عَنْ يَزيد بنِ أبي زِيَاد, عن عبدِ الرحمنِ بنِ أبي ليلى أنَّهُ قال: "إحياءُ الحديثِ مُذَاكَرَتُهُ, فَتَذَكَرُوا"، فقالَ لَهُ عبدُ اللهِ بنُ شَدَاد بنِ الهَاد: "رَحِمَكَ اللهُ! كَم مِن حَديثٍ أَحيَيتَهُ في صَدرِي قَد كَانَ مَات!".
أهلَ الإسلامِ: حَديثاً سأُحَدِّثْكُمُوهُ, ليسَ بخَافٍ على شَريفِ عِلمِكُم, لكنْ ليَشفَع لَهُ في القَبُولِ لَدَيكُم عَدُّكُم إيَّاهُ مِن قَبيلِ الـمُذَاكَرَة, فإلى القَول.
أَنسَاكُ الحَجِّ ثلاثةٌ: تَمَتُعٌ, وإفرَادٌ, وقِرَان, يَتَخَيَّرُ مِنها الـمَرءُ مَا شَاء, أمَّا مِن حيثُ الأفضَلِية, فمَن سَاقَ مَعَهُ الهَدي فالقِرَانُ في حَقِهِ أفضَل, ومَن خَصَّ كُلَّ نُسُكٍ بِسَفرَةٍ مُستَقِلَةٍ, فالإفرَادُ في حَقِهِ أفضَلُ باتفَاقِ الأئمَةِ الأربَعَة, وعلى هذا جَرَى عَمَلُ الخُلَفَاءِ الراشِدِينَ أربعاً وعشرينَ سَنَة, أمَّا مَن شَقَّ عليه ذلك, فالتَمَتُعُ في حَقِهِ أفضَل.
والتَمَتُعُ: أنْ يُحرِمَ بالعُمرَةِ في أَشهُرِ الحَجِّ, فيَفرغ مِنهَا, ثُمَّ يُحْرِمُ بالحَجِّ عَامَهُ ذاك, لا يُحدِثُ بينهما سَفَرا, ولو كانَ قُدُومَهُ مَكَةَ يَومَ عَرفة؛ إذ التَمَتُعُ عُمرَةٌ وحَجٌّ, تَامَانِ مُنفَصِلان, يُحرِمُ بالعُمرَةِ مِن الميقات, فيأتي بأنسَاكِهَا تَامَّة, فَيَحِلُّ لَهُ بِذَلِكَ كُلُّ شيء, ثُمَّ يُحرِمُ بالحَجِّ مِن مَسكَنِهِ يَومَ الثامِنِ قبلَ الزَوالِ استِحبَاباً, وإلاَّ يَومَ التاسِعِ قبلَ الخُرُوجِ إلى عَرَفَةَ وجُوباً, فيأتي بأنسَاكِهِ تامَّة.
وأمَّا القِرَان: فَعُمرَةٌ وحجٌّ يَتَحِدَانِ في الإحرامِ والسَعي والطواف, فإحرَامُهُما وَاحِدٌ مِن الميقاتِ ابتِدَاء, فليسَ على القَارنِ طَوافُ قُدُومٍ واجب, وإنِّمَا هو في حَقِهِ سُنَّة, وإنِّمَا يَلزمُهُ لِحَجِهِ وعُمرَتِهِ طَوافٌ واحِد, وسَعيٌ واحِد, هو طَوافُ الإفاضَةِ وسَعيُهَا, ما خلا طَواف الودَاع, فَيَستَوي في وجوبِهِ أصحابُ الأنساكِ الثلاثة.
أما الإفرادُ: فهو إحرامٌ بحَجٍّ مُستَقِل, لا يَلزَمُهُ سِوى أعمالِ الحَجِّ شيء, فطَوافُ القُدُومِ واجب في حَقِهِ سُنَّةٌ كالقَارِن, ويُفَارِقُ الـمُتَمَتِعَ والقَارِن بأنْ لا هَديَ عليه واجبا.
ومَن طَافَ للقُدُومِ مِن قَارِنٍ أو مُفردٍ, جَازَ لَهُ أنْ يُقَدِّمَ مَعَهُ سعي الحَجِّ, ومَن لا, فلا.
أهلَ الإسلامِ: هذهِ أنسَاكُ الحَجِّ, ولِجَمِيعِهَا أربَعَةُ أركانٍ, وسَبعَةُ واجِبات, وما عَدَاها, فهو مِن السُنَنِ الـمُكَمِّلات.
فأركانُ الحَجِّ: الإحرامُ, والوقوفُ بعَرَفَة ولو زَمناً يَسِيرا -مِن طُلوعِ الشَمسِ يَومَهَا, إلى طُلُوعِ الفجرِ يَومَ العِيد-, وطوافُ الإفاضَةِ، وسَعيُهَا.
فمَن تَرَكَ الإحرَامَ لمْ يَنعَقِدُ نُسُكُهُ إجماعاً, ومَن تَرَكَ الوقوفَ بعَرَفَةَ أو فَاتَهُ تَحَلَّلَ بعُمرَة ولا هَديَ عليه, وأمَّا طَوافُ الإفاضَةِ وسَعيُهَا إذا أحرَمَ ووَقَفَ بعَرَفةَ, فَمَحِلهُمَا العُمُرُ, لا يَسقُطَانِ مِن ذِمَتِهِ أبدا, وعليه الإتيَانُ بِهِما؛ إذْ لا يَتِمُ نُسُكُهُ إلا بِذلك.
وأما واجِبَاتُ الحَجِّ: فإنشَاءُ الإحرامِ مِن الميقات, والوقُوفُ بِعَرَفةَ إلى الغُروب, والـمَبِيتُ بمُزدَلَفَةَ لَيلَةَ جُمَع, والحَلقُ أو التَقصِيرُ, والرمي, ولغيرِ مَعذُورٍ: الـمَبيتُ بمنى ليالي التَشرِيق, وطَوافُ الوداع. ومَن تَعَذَّرَ عليهِ الـمَبِيتُ بمنى أو مُزدَلِفَة لانعِدَام الـمَكان باتَ في أي مَحِلَةٍ شاء.
وأفضلُ الرمي يَوم النَحرِ بعدَ طُلُوعِ الشَمس, ويجوزُ مِن الفَجر, ولِلضَعَفَةِ مِن مُنتَصَفِ الليل, ويَستَمِرُ إلى طُلُوعِ الفجرِ مِن اليومِ الذي يَلِيه, لحَدِيثِ جَابِرٍ في الصحيحينِ، قَالَ: "رَمَى رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْجَمْرَةَ يَوْمَ النَّحْرِ ضُحًى، وَأَمَّا بَعْدُ فَإِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ"، ولمَا في البخاري مِن حَديثِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-، قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: رَمَيْتُ بَعْدَ مَا أَمْسَيْتُ! فَقَالَ: "لاَ حَرَجَ", أمَّا أيامُ التَشرِيقِ, فيَبدَاُ الرَمي مِن الزوالِ إلى فَجرِ اليومِ الذي يَلِيهُ, ولا يَصِحُ قبلَ ذلِك, لِما تَقَدَّمَ مِن حَديثِ جابرٍ, ولِمَا في البخاري مِن حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: "كُنَّا نَتَحَيَّنُ فَإِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ رَمَيْنَا". ولا يَجُوزُ تأخيرُ رَمي يَومٍ إلى الذي يَلِيهِ بلا عُذُر, كَمَا لا تُجزئُ الوَكَالَةُ في الرمي لِقَادِرٍ عَليه.
والحَلْقُ أو التقصِير مُلاَزِمَانِ لِمَن أَحرَمَ بالنُسُك, مَحِلهُمَا العُمُر, كما أنَّهُمَا لا يَتَقَيَدَانِ بِمَكان, حتى لو لم يأتِ بهِمَا إلا بعدما يَرجِعُ إلى أهلِهِ, لكنْ لا يَحِلُّ لَهُ أنْ يَأتيَ شَيئاً مِمَا يُعتَبَرُ أداءُ هذه الشَعَائِرِ شَرطاً لإتيانهِ حتى يأتي بها؛ إذْ إنَّ التَحَلُلَ الأوَّلَ لا يَكونُ إلا بفعلِ ثِنتَينِ مِن ثلاث: رَمي جَمرَةِ العَقَبَة, والحَلْقُ أو التقصِيرُ, وطَوافُ الإفاضة, فمَن أتى باثنتَينِ فقد حَلَّ لَهُ كُلُّ شيء إلا النِساء, ومَن أتى بِهِنَّ كُلِّهنَ فقد حَلَّ لَهُ حتى النِساء, وأمَّا العُمرَةُ فالتَحَللُّ مِنها لا يَكُونُ إلا بالإتيانِ بها تَامَّة.
فهذه واجِبَاتُ الحَجِّ, فمَن أتَى بِها فقد أحسَن, ومَن عَجَزَ عنْ شيء مِنها سَقَطَ إلى غَيرِ بَدَل, ومَن تَرَكَ شَيئاً مِنها تَهَاوناً وكسَلا, فقد عَرَّضَ نَفْسَهُ للإثم, وحَجَّهُ لانعدام البِرِ, ولا فِديَةَ عليه؛ لعَدَمِ الدليلِ الصحيحِ الصريح, والأصلُ بَراءةُ الذِمَّة.
ومَن تَلَبَّسَ بالإحرامِ, حَرُمَ عليهِ حَلْقُ الشعرِ مُطلَقا, وتقلِيمُ الأظفَار, ومَسُّ الطيبِ ولو في الـمَأكَلِ والـمَشرَب, وقَتلُ صَيدِ البَرِ خَاصة, وعقدُ النكَاحِ وخُطبَتُهُ, والوطءُ, والمباشَرَةُ فيما دُونَ الفرجِ, الرجلُ والـمَرأةُ في هذا سَواء, يَزيدُ الرجُلُ: بحَظرِ تَغطِيَةِ الرأسِ بِمُلاصِقٍ بِقَصدِ سِترِهِ, ولُبْسِ الـمَخِيطِ, وتَزيدُ الـمَرأةُ: بااـمَنعِ مِن لُبسِ القُفَازَاتِ, وتَغطِيَةِ الوَجهِ إذا لم يَكُنْ ثَمَّةَ أجَانِب.
فمَن أتَى شَيئاً مِن هذهِ الـمَحظُورَاتِ نَاسِياً, أو جَاهِلاً, أو مُكرَهاً فلا شيء عليه, ومَن قارَفَ أيًّا مِنها عَالِماً ذَكِراً مُختَاراً, فإنْ كانَ مَا أَتى مِنها الجِمَاعَ, أو حَلَّقَ شَعر الرأسِ خَاصَة, أو قَتلَ الصيد, فقد لَزِمَتْهُ الفِديَة, وهي في الصيدِ: مِثْلُهُ إنْ كانَ مِثلِيا, أو تَقوِيْمُهُ والإطعَامُ بِقِيمَتِهِ لِكُلِّ مِسكِينٍ مُداً, أو يَصُومُ عن كُلِّ مُدٍ يَوما.
وفي حَلْقِ شَعرِ الرأسِ إذا حَصَلَ بهِ التَرَفُهُ وإمَاطَةُ الأذى: فِديَةُ أذى, وفي الجِمَاعِ إنْ كانَ قبلَ التَحَلُّلِ الأوَّلِ بَدَنَةٌ, وبَعدَهُ وقَبَلَ الثَاني: فِدْيةُ أذَى، وفديَةُ الأذَى يُخَيَّرُ فيها بينَ: صِيامِ ثلاثَةِ أيام, أو إطعَامِ سِتَةِ مَساكين, أو ذَبحِ شَاة, يَدخلُ في الشاة: جَذَعُ الضأن, وثَنِيُّ الماعِز, وسُبعُ البَدَنَةِ والبَقَرَةِ.
أمَّا بَقِيَّةُ الـمَحظُورات, فلا فِديَةَ في غِشيَانِهَا لِعَدَمَ الدِليل, والأصلُ بَراءَةُ الذِمَّة, لكِنَّ غِشيَانَها بِعَامَّة, يَسلُبُ الحَجَّ وَصفَ الِبرِّ.
وكُلُّ هَديٍ أو فَدي تَعَلَّقَ بِحَرَمٍ أو إحرَام, وجب ذَبحُهُ في الحَرَم, الفَدي لِمَسَاكِينِهِ خاصَة, والهَدي يَجُوزُ لَهُ الأكلُ مِنه؛ لِقَولِ ابن عباس: "الفَديُ والطَعَامُ بِمَكة, والصومُ حَيثُ شَاء"، وقَبلَهُ قولُ الله: (هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ) [المائدة:65]، والفَدي بَدَلٌ عن الهدي فأخَذَ حُكمَهُ, غَيرَ أَنَّهُ يُستَثنَى مِن هذا هَدي الـمُحصِر فيَذبحُهُ حَيث حُصِر, لِحَديثِ أمِّ سَلَمةَ في عُمرَةِ الحُدَيبية, وكَذَلِكَ فِديَةُ الأذى لِمَن فَعَلَ الـمَحظُورَ خارِجَ الحَرَم, فإنِّهُ مُخَيَّرٌ إنْ شَاءَ بَلَغَ بهِ الحَرَم, وإنْ شَاءَ ذَبَحَهُ حيثُ واقَعَ الـمَحظُور.
أقول هذا القول, وأستغفر الله لي ولكم...
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ جَعَلَ الأرضَ فِجَاجَا, وأمرَ عِبَادَهُ بقَصدِ بَيتِهِ حُجَاجا, وجعلَ مِن حَجِهم أواصِرَ أُخوةٍ, ورَوابِطَ وِدَاد, وصلى اللهُ وسَلَّمَ على عَبدِهِ ورسُولِهِ محمد، وعلى آلِهِ وصحبِهِ والتابعين, ما أفلَ نَجمٌ, ومَا أضاءَ نُورُهُ في الآفاقِ وَهاجا.
أما بعد: أهلَ الإسلام، ثَمَّةَ مَسائِلُ تُعَزِّمُ الـمُتَرَدِد, ولا يَستَغنِي عنها الجازِم.
أُولاها: الدَّيْنَ لا يَمنَعُ صِحَةَ الحَجِّ, ولا يُنقِصُ أجرَهُ, حتى لو لم يَستَأذِن الـمَدينُ دائِنَهُ؛ إذْ أصلُ المسألةِ أنَّ الحَجَّ حَقٌّ للهِ على العبد, بينما الدَيْنُ حَقٌّ للعَبْدِ على العَبْد, وحقوقُ اللهِ مَبنِيَّةٌ على الـمُسَامَحةِ, في حينِ كونِ حُقوقِ العِبَادِ بِنَاؤُها على الـمُشَاحَةِ؛ ولِذا قُدِمَ الشَحِيحُ بالوفَاء.
إذا عُلِمَ هذا، فالـمَدِينُ الذي بقُعُودِهِ عنِ الحَجِّ يُوَفِّرُ مَا يَقضي بهِ دَيْنَهُ, فهذا الحَجُّ ليسَ بواجِبٍ عليه, ولو حَجَّ صَحَ حَجُّهُ, أمَّا الـمَدينُ الذي يَستَوي حالُ سَفَرِهِ وإقامَتِه, فلا للدَيْنِ يَقضِي, وبهِ عن أداءِ ما وَجبَ عليه مِن فَرضِ الحَجِّ يعتَذِر, فهذا الحَجُّ واجِبٌ عليه متى ما وَجَدَ إلى الحَجِّ بُلْغَتَهُ, ولا يُنظَرُ إلى دُيُونَهُ.
ومِن تِلكَ المسائِل: إنَّ وُجُودَ الـمَحرَمِ للمرأةِ شَرطٌ لوجوبِ تكلِيفها بالحَجِّ, لا لوجوب الأداءِ عليها, بمعنى أنَّها إذا ماتتْ وهي لم تَحُجَّ لِعَدمِ الـمَحرَم, لا يَلزمْ ورثتَها إخراجُ ما بهِ يُحَجُّ عنها مِن تَرِكَتِهَا؛ لعموم قول الله: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) [آل عمران:97]، وهذا بخِلافِ مَن عَجَزَ عن الحَجِّ ببَدَنِهِ وقَدِرَ عليهِ بمَالِه, إذْ إنَّ هذا يَجِبُ عليهِ أنْ يُنِيبَ مَن يَحُجَّ عنهُ، فإنْ لم يَفعَل وَجَبَ على وَرَثَتِهِ مِن بعدِهِ؛ لحديثِ عبدِ اللهِ بنِ عباس في الصحيحينِ وغيرِهِمَا: أنَّ امْرَأَةً مِنْ خَثْعَمَ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ فِي الحَجِّ عَلَى عِبَادِهِ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا، لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْتَوِيَ عَلَى الرَّاحِلَةِ، فَهَلْ يَقْضِي عَنْهُ أَنْ أَحُجَّ عَنْهُ؟ قَالَ: "نَعَمْ".
ومِن تلكَ المسائِل: تَحدِيدُ مَفهُومِ الإحرام, فلُبسُ الإزارِ, والتَوَشُحُ بالرِداء, وإنْ كانَ علامةً على مُرِيدي الحَجِّ والعُمرَة, فليسَ هوَ الإحرام, وإنِّما الإحرَامُ نِيَةُ الدُخُولِ في النُسُك, لا مُجَرد اللِبَاس, ولا الإهلال بالتَلبِيَة, فإذا ما نَوى الـمَرءُ الدُخُولَ في النُسُكِ أَهَلَّ بالتَلبِية, وأمهَلَهُ الشَارِعُ مِن الوقتِ ما يَتَجَرَدُ فيه مِن الـمَخِيطِ دُونَ أنْ تَلْحَقَهُ أَدنَى تَبِعَة, ولو جَازَ الميقاتَ قبلَ أنْ يَتَمَكَن مِن التجَردِ مِن الـمَخِيط -كما في حالِ الـمُسَافِرِينَ جَواً- بشرط أنْ يَكونَ قد نوى الإحرامَ حينما حاذى الميقاتَ.
كما يَنبَغي لَكُمْ أنْ تَعلَمُوا -أهلَ الإسلام- أنَّهُ وإنْ كانَ الاغتِسالُ للإحرامِ سُنَّة, فليستْ الطهَارَةُ بشَرطٍ لصِحَةِ الإحرام, لا مِن الحَدَثِ الأصغرِ, ولا الأكبَر, بل كُلُّ مَن أتى على الميقاتِ مُرِيداً للحَجِّ أو العُمرَة, وجبَ عليه الإحرامُ على أي حالٍ كان؛ لما في مُسلِمٍ: "مِن أنَّ أسمَاءَ بِنتَ عُمَيس -رضي اللهُ عنها- أحرَمتْ وهي نُفَسَاء"، وفي مُسلِمٍ أيضا: "أنَّ عائشَةَ -رضي اللهُ عنها- أحرَمَتْ وهي حائض"، والجُنُبُ مُلحَقٌ بِهِما, ومَن كانَ حَدُثُهُ أصغَر, فَصِحَةُ إحرَامِهِ مِن بابِ أولى.
ولتَعلَمُوا ثانية: أنَّ الطَهَارَةَ مِن الحَدَثِ الأصغَر ليسَتْ شَرطاً لِصِحَةِ الطوافِ بالبيت؛ لعَدَمِ الدليل, وأمَّا كُونُ النبي -صلى اللهُ عليه وسَلَّم- تَوضأ لمـَّا أرادَ الطوافَ, فالفعلُ الـمُجَرَدُ عن القرِينَةِ لا يَدُلُّ على الوجوب, لا سِيما وقد اعتَمَرَ عُمَراً مُتَعَدِدَة, وحَجَّ مَعهُ خلائِق كثيرون, ولم يَرد أمرُهُ لأيٍّ منهُم بالطهارةِ مِن الحَدَثِ الأصغَرِ للطَواف, ولم يكُن -صلى اللهُ عليه وسَلَّم- ليُؤخِرَ البيانَ عن وقتِ الحاجة, وأمَّا مَنعُهُ عائشَةَ -رضي اللهُ عنها- مِن الطوافِ بالبيت؛ فلأنَّ الحائِضَ مَمنُوعَةٌ مِن اللُبثِ في الـمَسجِد.
ولتَعلَمُوا ثالثة: أنَّهُ ليسَ هُناكَ ارتِبَاطٌ بينَ أخذِ سُنَنِ الفِطرَةِ والإحرام أو يَومِ الجُمعَةِ والعيدين, فَتَقَصُدُ أخذهَا في هذهِ الـمُناسَبات, هو للبدعَةِ أقرَبُ مِنهُ للسُنَّة, وإنِّما تُؤخَذُ متى ما دعتْ الحاجَةُ إلى أخذِهَا, يُكرَهُ تَركها فوقَ الأربَعين, ويَحرُمُ إذا ما سَفُحَتْ, مِن غير تقييدٍ بزمانٍ ولا مَكان.
ولتَعلَمُوا رابِعَة: أنَّهُ ليسَ للإحرَامِ صَلاةٌ تَخُصُهُ -كما قَرَّرَ ابنُ تَيمِيَةَ وابن القيم- وإنِّما السُنَّةُ أنْ يَكُونَ إحرَامُهُ عَقِبَ فَرِيضَةٍ أو نَافِلَةٍ مَشرُوعَةٍ, كَرَكعتي الضُحَى أو الوِتِر ونحوهِما, وأمَّا حَديثُ ابنِ عُمَرَ في مسلمٍ: "كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَرْكَعُ بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ إِذَا اسْتَوَتْ بِهِ النَّاقَةُ قَائِمَةً عِنْدَ مَسْجِدِ ذِي الْحُلَيْفَةِ، أَهَلَّ بِهَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ"، وحديثِ عُمَر عندَ البُخَاري: "أَتَانِي اللَّيْلَةَ آتٍ مِنْ رَبِّي، فَقَالَ: صَلِّ فِي هَذَا الوَادِي المُبَارَكِ، وَقُلْ: عُمْرَة فِي حَجَّةٍ"، فالـمُرَادُ بهذهِ الصلاة صلاة الظُهرِ؛ لحديثِ أنسَ عندَ أبي داوودَ والنسائي: "أَهَلَّ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ حِينَ صَلَّى الظُّهْرَ"، وإنِّما صلَّاهَا ركعتينِ لأنَّهُ مُسَافِر.
والسُنَّةُ إذا صَلَّى أنْ يُحرِمَ عَقِبَ صلاتِهِ مُبَاشَرَة, وأنْ يَشرَعَ بالتَلبِيَةِ مِن حِينهِ, ولا يَنظُر رُكُوبَ الرَاحِلَة؛ لِما تَقَدَّمَ مِن حديثِ عُمَر, ولحديثِ ابنِ عباسٍ عندَ أحمدَ وغيرِهِ "أنَّ النبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أوجَبَ في مُصَلاَّهُ" والنَصُّ على الإهلالِ حالَ الاستِواءِ, لا يَنفِي مَجيئَهُ قبلَهُ, لا سِيَما مع وُرُودِ الخَبَرِ بذلك.
فاللهَ اللهَ يا أهلَ الإسلام! جَمِّلُوا أشواقَكُم إلى بيتِ رَبِكُم, بفِقهِكُم بمَنَاسِكِ حَجِكُم؛ إذْ إنَّ أعذَبَ الـمُشتَاقِينَ شَوقاً, مَن كانَ مِنهُم عالِماً بِمسَالِكِ الحُبِّ.
تَقَبَّلَ اللهُ مِن الحَجيجِ حَجَّهُم, وأَبلَغَهُم فيما يُرضِيهِ قَصدَهُم, وتَفَضَّلَ عَلَيهم وأَمَدَهُم.
اللهم أعز الإسلامَ والمسلمين...