الرزاق
كلمة (الرزاق) في اللغة صيغة مبالغة من الرزق على وزن (فعّال)، تدل...
العربية
المؤلف | محمد بن عبد العزيز بن عبد الله المسند |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الحديث الشريف وعلومه - الحج |
لا نزال في هذه الأيام المباركات نستنشقُ عبيرَ الرحمات، ونستمطرُ فضلَ ربِ الأرض والسموات، وإن يومكم هذا هو اليومُ الأولُ من أيام التشريق التي قال فيها نبيُنا الكريمُ، عليه من ربه أفضلُ الصلاة وأتمُ التسليم، فيما خرجه مسلمٌ في الصحيح: "أيامُ التشريق أيامُ أكل وشرب وذكر الله". ولنقف مع هذا الحديث الشريف عدّة وقفات، فإنّه من جوامع كلمه -صلى الله عليه وسلم-.
الخطبة الأولى:
الحمد لله العظيم الرحمن، الكريمِ المنان، المتفضلِ بواسع الرحمة والعطاء والإحسان، أحمده -سبحانه- وأشكره.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، وخيرته من خلقه، صلّى الله عليه، وعلى آله وصحبه، ومن سار على نهجهِ، واقتفى أثره إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، اتقوه حق التقوى، وراقبوه في سركم وعلنكم، واحذروا غضبه وعقابه، فإن أجسادكم على النار لا تقوى.
أيها المسلمون: لا نزال في هذه الأيام المباركات نستنشقُ عبيرَ الرحمات، ونستمطرُ فضلَ ربِ الأرض والسموات، وإن يومكم هذا هو اليومُ الأولُ من أيام التشريق التي قال فيها نبيُنا الكريمُ، عليه من ربه أفضلُ الصلاة وأتمُ التسليم، فيما خرجه مسلمٌ في الصحيح: "أيامُ التشريق أيامُ أكل وشرب وذكر الله".
ولنقف مع هذا الحديث الشريف عدّة وقفات، فإنّه من جوامع كلمه -صلى الله عليه وسلم-.
الوقفة الأولى: حول عددِ هذه الأيام، فهي ثلاثةٌ بعد يومِ العيد، وهي: الحادي عشر، والثاني عشر، والثالثَ عشر.
الوقفة الثانية: حول سبب التسمية، وقد سميت بهذا الاسم لتشريق الناس لحومَ الأضاحي فيها، وهو تقديدُها ونشرُها في الشمس لحفظها من الفساد، وهذا قبل أن يمتن الله على عباده بظهور وسائل التبريد والحفظ الحديثة، فالحمد لله على هذه النعمة.
الوقفة الثالثة: تأكيدُه -صلى الله عليه وسلم- على الأكل والشرب في هذه الأيام، وتخصيصُها بذلك، وفي هذا التخصيص دليل على أن غير هذه الأيام ليست كذلك، وإنما هي فسحةٌ جعلها الله للناس في هذه الأيام لوفرة لحوم الأضاحي والهدي.
فليتنبه لذلك أقوامٌ جعلوا جلَّ أيامِ العام أيامَ أكل وشرب ولهو ولعب، وأسرفوا في ذلك، حتى أصيبوا بالتخمة، وظهرت فيهم الأمراضُ المزمنة، وذلك يتنافى مع روح الإسلام الجادّة، وتعاليمه الحكيمة؛ وقد قال المولى الحكيم -جل وعلا-: (وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) [الأعراف:31]، وقال رسوله الكريم -صلى الله عليه وسلم- فيما خرجه أحمد وغيره: "ما ملأ آدمي وعاء شراً من بطنه، بحسب ابن آدم أكلاتٌ يقمن صلبه، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه". وهذان النصان أصلان من أصول الطب الحديث.
الوقفة الرابعة: حول قوله في آخر الحديث: "وذكر الله"، وفي ذلك تنبيهٌ جليٌ إلى أهميّة التوازن في حياة المسلم، فإن الإنسان مخلوقٌ من بدن وروح، ولكلٍ غذاؤه الذي يتغذى به، فغذاء البدن بالطعام والشراب، وغذاءُ الروح بذكر باريها وفاطرها -عز وجل-، فمن أخلّ بهذا التوازن خرج عن سبيل الجادة المستقيمة، وأصبح حالُه أشبهَ بحال البهيمة، هذا إن غلّب الجانبَ الأولَ جانبَ البدن، أما إن غلّب الجانبَ الثاني وهو جانب الروح، وأهمل الأول، فهو كمن يحلّق في غير فضاء، ويروم النـزولَ في غير أرضٍ خلاء.
وما تخلف المسلمون اليوم ولا تأخروا إلا بسبب إخلالهم بهذا الأمر العظيم، وهل بلاؤنا ومصيبتُنا إلا من أقوام تطرفوا ذات اليمين وذات الشمال، ولم يراعوا ما أمر الله به ورسوله من التوسط والاعتدال؟.
وخذوا مثالاً على ذلك في مسألة الاعتقاد، فهناك قوم أخذوا بنصوص الوعد، وغلّبوا جانب الرجاء، فأوقعهم ذلك في الأمن من مكر الله، والغفلةِ عن دينه، وقد قال المولى -عز وجل-: (فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ) [الأعراف:99]. بل إن بعضَهم ليغضبُ إذا ما ذُكّر بالله، وحُذّر من عذاب الله، ويكتئبُ لذلك.
ولما حصل الزلزال المدمر وقال بعضُ العلماءِ الربانيين إن ذلك بسبب الذنوب والخطايا ثارت ثائرتهم، ووصفوا أولئك العلماء بأنهم فقهاءُ الظلام وغواةُ الأنام، والحقُ أنّ الذي قال ذلك هو الله في كتابه العظيم، وليس أولئك العلماء.
وهناك قوم أخذوا بنصوص الوعيد، وغلّبوا جانبَ الخوف، فأوقعهم ذلك في القنوط من رحمة الله أو اليأس من رَوحه، فكفَّروا الناس بما هو دون الكفر، واستباحوا دماءهم وأموالهم.
وخذوا مثالاً آخر: موضوع المرأة، فقد غلا قوم في ذلك، فحبسوا المرأة، وضيقوا عليها، ومنعوها من أبسط حقوقها المادية والمعنوية، وهمّشوها فلم يجعلوا لها رأياً أو مشورة؛ وتطرف آخرون -وما أكثرهم في هذه الأيام!- فطالبوا بالمساواة التامة بين الرجل والمرأة، وإخراجها من بيتها بلا قيد أو شرط، وفتح جميع المجالات لها دون استثناء، وحملوا على حراس الفضيلة حملةً شعواء، ورموهم بأقذع التهم والأرزاء، ولا تزال المعركة تدور رحاها بين الفريقين.
ولا سبيل إلى النجاة من هذا التخبط وهذا التطرف من جهتيه إلا باتباع هدي الوحيين، والاقتداء بسيد الثقلين، ومن ذلك ما دلّ عليه هذا الحديث الشريف حديث أيام التشريق من ضرورة التوازن بين كل أمرين متقابلين، فلا إفراط ولا تفريط، قال تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) [البقرة:143].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول هذا القول.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتابُ الله، وخيرَ الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشرَ الأمور محدثاتُها، وكلَ محدثة بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار.
أيها المسلمون: إن التوازن في حياة المسلم مطلبٌ مهم كما سبق، وإنّ بلوغ هذا المطلب يتطلب همةً عليّة، ونفساً أبيّة، لا تستسلم للشهوات، ولا تستذلها الملذات، فالنفس بطبعها تميل إلى الدعة واللهو والكسل، وتستثقل الجدَّ والعمل، فمن أطاع نفسه أوردته المهالك، وقادته إلى مصير كل هالك، قال -تعالى-: (وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) [الكهف:28].
وإنّ امتلاكَ زمامِ النفس، وكبحَ جماحها بضوابط الشريعة لهو طريق النجاح والتميز والإبداع، بل هو طريق التقدم والرقي، والفوز بخيري الدنيا والآخرة. فهل يعي المسلمون ذلك؟.
هذا وصلّوا وسلموا على إمام التقى، وداعي الهدى، محمد صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، والشافع المشفع في المحشر؛ فقد أمركم الله بذلك في محكم تنـزيله فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وزد وبارك على عبدك ورسولك محمد صلاة دائمة إلى يوم الدين، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين, وأذل الكفر والكافرين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم ادفع عنا الوبا والربا والزنى والزلازل والمحن وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم من أرادنا وأراد ديننا ومقدساتنا بسوء فأشغله بنفسه واجعل كيده في نحره، واجعل تدميره في تدبيره يا رب العالمين.
اللهم سلم الحجاج والمعتمرين في حلهم وترحالهم، وسائر تنقلاتهم، اللهم يسر حجهم، وتقبل سعينا وسعيهم، اللهم ردهم إلى أهليهم سالمين غانمين.
اللهم كن لإخواننا المستضعفين في كل مكان، اللهم بدل خوفهم أمناً، وذلهم عزاً، وفرقتهم اجتماعاً وألفة.
اللهم عليك بجند الباطل أجمعين، اللهم فرقهم تفريقاً، ومزقهم تمزيقاً، اللهم ردهم خائبين مهزومين، اللهم عليك بالخونة والمنافقين، اللهم كن لهم بالمرصاد، وافضحهم على رؤوس الأشهاد، يا من له الدنيا والآخرة وإليه المرجع والمعاد...