الحسيب
(الحَسِيب) اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على أن اللهَ يكفي...
العربية
المؤلف | عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الحديث الشريف وعلومه - التربية والسلوك |
أيها المؤمنون: هذه وقفة مع حديثٍ عظيم جليل القدر عليِّ المكانة؛ حديثٍ قدسي يرويه النبي الكريم -صلوات الله وسلامه عليه- عن ربه -تبارك وتعالى-، جديرٌ بنا أجمعين أن نتأمل في معانيه العظيمة، ودلالاته المباركة، وهداياته القويمة، راجين من ربنا -جل في علاه- أن ينفعنا به وبكلامه سبحانه، وأحاديث رسوله المصطفى -صلوات الله وسلامه وبركاته عليه-. كان أبو إدريس الخولاني -رحمه الله- وهو الذي يروي هذا الحديث عن أبي ذر -رضي الله عنه- إذا حدَّث بهذا الحديث جثا على ركبتيه تعظيمًا لهذا الحديث، وذلك لجلالة شأنه، وعظيم معانيه، وجزالة دلالاته. فجديرٌ بنا أن...
الخطبة الأولى:
إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله، وصفيُّه وخليلُه، وأمينُه على وحيه، ومبلِّغ الناس شرعه، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمَّا بعدُ: أيها المؤمنون: اتقوا الله -تعالى-، فإنَّ من اتقى الله وقاه، وأرشده إلى خير أمور دينه ودنياه.
وتقوى الله -جل وعلا-: عملٌ بطاعة الله على نورٍ من الله رجاء ثواب الله، وتركٌ لمعصية الله على نورٍ من الله خيفة عذاب الله.
أيها المؤمنون: هذه وقفة مع حديثٍ عظيم جليل القدر عليِّ المكانة؛ حديثٍ قدسي يرويه النبي الكريم -صلوات الله وسلامه عليه- عن ربه -تبارك وتعالى-، جديرٌ بنا أجمعين أن نتأمل في معانيه العظيمة، ودلالاته المباركة، وهداياته القويمة، راجين من ربنا -جل في علاه- أن ينفعنا به وبكلامه سبحانه، وأحاديث رسوله المصطفى -صلوات الله وسلامه وبركاته عليه-، روى الإمام مسلم عن أبي ذرٍّ -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه عن ربه -تبارك وتعالى- أنَّه قال: "يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فَلَا تَظَالَمُوا، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ، فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إِلَّا مَنْ كَسَوْتُهُ، فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ، يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ، يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ،مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ، يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ".
كان أبو إدريس الخولاني -رحمه الله تعالى- وهو الذي يروي هذا الحديث عن أبي ذر -رضي الله عنه- إذا حدَّث بهذا الحديث جثا على ركبتيه تعظيمًا لهذا الحديث، وذلك لجلالة شأنه، وعظيم معانيه، وجزالة دلالاته.
فجديرٌ بنا -يا معاشر المؤمنين- أن نتأمل في هذا الحديث العظيم، وهو حديثٌ قدسي مشتمل على عشر نداءاتٍ إلهيةٍ قدسية فيها بيان كمال غنى الله، وكمال عدله، وكمال ملكه، وفيها بيان عظيم فقر العباد إلى الله، وأنهم لا غنى لهم عنه طرفة عين.
وفي أول هذا الحديث بيان كمال عدل الله -عز وجل-، وأنه لا يظلم الناس شيئا، وأنه جلَّ وعلا حرَّم الظلم على نفسه وهو القدير على كل شيء، حرَّمه على نفسه لكمال عدله جل وعلا، وجعله بين العباد محرما؛ فلا يحل لعبدٍ أن يظلم نفسه بالذنوب والعصيان، ولا أن يظلم غيره بالأذى والعدوان.
ثم بُيِّن في هذا الحديث عظيم فقر العباد إلى الله، وأنهم لا غنى لهم عنه طرفة عين في جميع شؤونهم ومصالحهم الدينية والدنيوية؛ الدينية من هداية وصلاح واستقامة، والدنيوية من طعامٍ وشرابٍ وملبسٍ ومسكن، وغير ذلك.
وأن الواجب على العبد أن يقبِل على الله بالدعاء والسؤال إقبال الفقير الذليل المحتاج متوجهًا إلى الرب الغني العظيم الذي بيده أزمَّة الأمور، وملكوت السموات والأرض، فيسأل ربه جميع حاجاته وجميع مصالحه في دنياه وأخراه، وفي معاشه ومعاده.
وتضمن هذا الحديث أن العبد مهما اجتهد في الاستقامة والصلاح لابد من أن يقع في شيء من الذنوب والأخطاء، فعليه أن يتذكر في كل أوقاته وجميع أحايينه أنَّ الله -سبحانه- يغفر الذنوب مهما عظمت، ويتجاوز عن السيئات مهما كثرت، لا يتعاظمه ذنبٌ أن يغفره، ولا حاجةٌ يُسألها أن يعطيها جل في علاه.
أيها المؤمنون: وتضمن هذا الحديث كمال غنى الله عن العباد وكمال قدرته وعظمته، وأن العباد لا يبلغون ضُرَّ الله فيضروه ولا نفعه سبحانه فينفعوه، كيف وهو الغني العظيم العزيز الحميد جلَّ في علاه.
وتضمن الحديث -عباد الله- كمال ملك الله -جل وعلا- فهو عز وجل غنيٌ عن العباد وعن طاعاتهم وعباداتهم؛ فإن طاعات العباد مهما كثُرت وعظُمت لا تزيد ملْك الله شيئا، ومعاصي العباد مهما كثُرت وعظُمت لا تَنقُص من ملكه جل وعلا شيئا.
ثم إنَّ العباد من أولهم إلى آخرهم إنسهم وجنِّهم لو قاموا أجمعين في صعيدٍ واحد وفي وقتٍ واحد وتوجَّهوا إلى الله -جل وعلا- بالدعاء لسمعهم أجمعين دون أن يختلط عليه صوتٌ بصوت أو لغةٌ بلغة أو حاجةٌ بحاجة، ولو أعطى الجميع كلَّ ما يطلبون ما نقص ذلك من ملكه جل وعلا شيئا إلا كما ينقص المخيط إذا أُدخل البحر، وماذا ينقصُ مخيطٌ أدخل في بحر؟!
ثم جاء في تمام هذا الحديث بيان حقيقة هذه الدنيا، وأنها دارٌ للعمل وليست دارًا للبقاء، وأن أعمال العباد في هذه الحياة محصاةٌ عليهم؛ صغيرها وكبيرها، دقيقها وجليلها، حسَنها وسيئها، وأن العباد سيلقون أعمالهم يوم القيامة في كتابٍ لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وحين ذاك من وجد خيرًا فليحمد الله؛ فإنه الذي هداه ووفقه وأعانه، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه.
اللهم يا رب العالمين نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العليا وبأنك أنت الله لا إله إلا أنت أن تهدينا أجمعين إليك صراطًا مستقيما، وأن تصلح لنا شأننا كله.
أصلح لنا يا ربنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، اللهم ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، اللهم ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين إنك يا ربنا سميع الدعاء وأهل الرجاء وأنت حسبنا ونعم الوكيل.
الخطبة الثانية:
الحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرةً وأصيلا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله؛ صلى الله وسلَّم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: أيها المؤمنون: اتقوا الله -تبارك وتعالى- في الغيب والشهادة، والسر والعلانية، وراقبوه سبحانه مراقبة من يعلمُ أنَّ ربَّه يسمعُه ويراه.
أيها المؤمنون: لقد ودَّعت هذه البلاد فقيدًا غاليًا عليها بل على الأمة؛ إنه الملك عبد الله بن عبد العزيز، وحقه علينا أجمعين -عباد الله- الدعاء بأن يغفر الله له ويرحمه، وأن يكرم نزله، وأن يوسع مدخله، وأن يجازيه بالحسنات إحسانا، وبالسيئات صفحًا وعفوًا وغفرانا.
أيها المؤمنون: وحقٌ علينا أجمعين أن ندعو لولي أمرنا صادقين مع ربنا -جل وعلا- في الدعاء بأن يوفِّق خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز ملك المملكة العربية السعودية، وأن يعينه بمنِّه وكرمه على ما حمَّله من مسؤولية عظيمة وواجبٍ عظيم.
نسأل الله -جل في علاه- بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يوفِّقه لما يحبه ويرضاه من سديد الأقوال وصالح الأعمال، وأن يجعل ولايته ولاية خيرٍ وبركةٍ ورشد، وأن يعينه على ما حمَّله، وأن يصلح به البلاد والعباد، وأن يقمع به أهل الزيغ والشر والفساد، وأن يصلح له بطانته، وأن يرزقه بطانة الخير والصلاح، وأن يعيذه من بطانة الشر والفساد.
ونسأل الله -جل وعلا- بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يوفِّق ولي عهده الأمير مقرن، وولي ولي العهد الأمير محمد بن نايف، وجميع أعوان ولي أمرنا وإخوانه لما يحبه ويرضاه من سديد الأقوال وصالح الأعمال.
ثم اعلموا -رعاكم الله- أنَّ أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدى هُدى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وشرَّ الأمور محدثاتها، وكلَّ محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بالجماعة فإنَّ يد الله على الجماعة.
وصلُّوا وسلِّموا -رعاكم الله- على محمد بن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه، فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)[الأحزاب: ٥٦]، وقال صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى الله عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا".
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد كما صلَّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنَّك حميدٌ مجيد، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنَّك حميدٌ مجيد.
وارضَ اللهمَّ عن الخلفاء الراشدين؛ أبى بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعلي، وارض اللهمَّ عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بمنِّك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[البقرة: 201].
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.