القاهر
كلمة (القاهر) في اللغة اسم فاعل من القهر، ومعناه الإجبار،...
العربية
المؤلف | عبد العزيز بن محمد السعيد |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب - أركان الإيمان |
النتاج الفكري تارة يكون حسنا موافقا للشرع؛ فهو حينئذ الهدى والحق والاستقامة والبصيرة والنور، وتارة يكون على العكس من ذلك، فهو الضلال والباطل والظلمات، وبهذا يعلم أن الانحراف الفكري هو الخروج بالفكر عن سواء السبيل، فيكون...
الخطبة الأولى:
فإن الفكر هو نتاج العقل في تصوراته وإراداته، فهو متعلق بالعقل الذي محله القلب؛ كما قال -صلى الله عليه وسلم-: "ألاَ وَإنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَت صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، ألاَ وَهِيَ القَلْبُ" [متفقٌ عَلَيْهِ].
وهذا النتاج الفكري تارة يكون حسنا موافقا للشرع؛ فهو حينئذ الهدى والحق والاستقامة والبصيرة والنور، وتارة يكون على العكس من ذلك، فهو الضلال والباطل والظلمات، وبهذا يعلم أن الانحراف الفكري هو الخروج بالفكر عن سواء السبيل، فيكون مائلا عما جاءت به الرسل إلى ما أوحته الشياطين، وهو على درجات منه ما يخرج به صاحبه من ملة الإسلام، ومنه ما هو دون ذلك، وإن كان الكل ضلالا.
وهذا الانحراف له صور كثيرة جدا، ومتجددة، ومتباينة في الظهور، كما أنها متباينة في الأثر، بيد أن قاعدتها وأساسها شيء واحد وهو: الخروج عن الطريق المستقيم، والهدى المبين، إما بإحداث، وإما بزيادة، وإما بنقص، وإما بمعارضة، وإما باستنقاص.
فهو نقص في التسليم لله، وضعف في الاتباع للرسول -صلى الله عليه وسلم-، واغترار بالنفس الضعيفة وركون إليها، واعتماد على الحول والقوة، ولا شك أن واحدا من هذه الأمور قاض بالانحراف عن الصراط المستقيم، فالإلحاد، والإشراك بالله، وتعطيله عن صفاته، وطلب الحكم بغير شريعة الإسلام، وتبني العلمانية والليبرالية، والدعوة إلى التغريب، والبدع كلها، وما نشأ عنها من فرق، والتحزب للجماعات أو الأشخاص، كل هذه نشأت عن انحراف في الفكر ابتداء، تبعه العمل، والدعوة، والجدال.
وهذا الانحراف له أسبابه: من الجهل بالله وأسمائه وصفاته، وبالإسلام وحِكَمه وأحكامه وخصائصه، والجهلِ بالكتاب والسنة، وطريقةِ النظر فيهما، والاستنباطِ منهما، والجدالِ والخصومة في الدين، واتباعِ الهوى، واتباعِ خطوات الشيطان، وتقديمِ العقل والرأي على الشرع، وتقديمِ الدنيا على الآخرة، وأخذِ العلم عن غير أهله، والاغترارِ بما عند الكفار من العلوم، ومتابعتِهم والتشبهِ بهم، واقتحامِ الشبه، وكثرةِ الأسئلة والتعنتِ فيها، وضعفِ التدين، وفسادِ النية، والذنوبِ، والكبرِ بدفع الحق، والبغي، وابتغاءِ الفساد والعلوِ في الأرض، والغفلةِ والإعراضِ وعدمِ الاكتراث، وضعفِ اليقين، والغلوِ الذي هو ذريعة للنفور من العمل، وما يصاحب ذلك من الحيل المحرمة والتأويلات الباطلة، والتعرضِ للفتن، وذلك مظنة عدم سلامة العبد منها، والبيئةِ الفاسدة القريبة من الإنسان وجودا، والقريبةِ منه بوسائل الاتصال والتواصلِ الاجتماعي وهي أشد خطرا؛ إذ إنها تبيت معه حيث بات، وتقيل معه حيث قال، وقراءةِ الغث والسمين من الكتب والروايات ومتابعةِ ذلك، ولا سيما إذا صادف فراغا عن معرفة الحق والعلم، والوثوقِ بالنفس والاعتمادِ عليها، واعتقادِ أن المجتمع محصن لا تضره شبهة، ولا يتسلل إليه ضلال، والتقصيرِ في النصيحة والأمرِ بالمعروف والنهي عن المنكر، وكل واحد منها عليه برهان من الله بالتحذير منه، وبيان شروره وأخطاره، وعاقبة أهله.
ولا ريب أن هذا الضلالَ الفكريَّ له آثاره الخطيرةُ على الإنسان نفسِه، وعلى مجتمعه، بل ويتعدى ذلك إلى الناس جميعا، ومن ذلك: الطبعُ على القلوب، والقلوب إذا طبع عليها سلبت الفهم والعلم والإيمان: (الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ وَعِندَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) [غافر: 35]، (وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ) [التوبة: 87]، (وَطَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ) [التوبة: 93].
ومنها: الضلال والحيرة: (أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) [الملك: 22].
ومنها: النفاق بنوعيه: الأكبر والأصغر: (وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ) [التوبة: 75- 77].
ومنها: الخزي والعذاب في الدنيا والآخرة: (أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي الأَرْضِ أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ وَصُدُّواْ عَنِ السَّبِيلِ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ * لَّهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُم مِّنَ اللّهِ مِن وَاقٍ) [الرعد: 33 - 34].
ومنها: الانضواء تحت حزب الشيطان من اليهود والنصارى والمشركين: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ) [المائدة: 51 - 52].
ومنها: فشو الشركِ والمنكراتِ والبدع، واضطرابُ الأمن، وفسادُ النظام، وانحلالُ جماعة المسلمين، وعمومُ الفتن، والاستعبادُ والاسترقاق للبشر، وتسلطُ العدوِ على المسلمين.
اللهم ثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، واجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، أنت مولانا وربنا، وأنت على شيء قدير.
الخطبة الثانية:
إنه لا سبيل إلى الفكاك من الانحراف في الفكر إلا بالاعتصام بالكتاب والسنة، والعملِ بهما، وفهمِ ما أنزل الله، وعقلِ أمثاله التي ضربها لعباده، وسلوكِ طريق السلف الصالح في العلم والعمل، وكثرةِ الدعاء والعبادة، والتباعدِ عن أسباب الانحراف، وهجرِ مجالسه ومنتدياته ونواديه، ومصاحبةِ الصادقين، ومجالسةِ أهل الإيمان، والقيامِ بما أوجبه الله من النصحية، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد بين الله ذلك كله لعباده: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) [الإنسان: 3]، (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [المائدة: 15 - 16].