القدوس
كلمة (قُدُّوس) في اللغة صيغة مبالغة من القداسة، ومعناها في...
العربية
المؤلف | عبدالله بن حسن القعود |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | فقه النوازل - أركان الإيمان |
لقد جاءت نصوص الشريعة الغراء -قرآنًا وسُنَّة- آمرة المسلمين بضرورة الإيمان بالمساءلة والمحاسبة، ومذكرة لهم بمواجهتهم لها ومساءلتهم بعد موتهم عما قالوه وفعلوه في حياتهم، بل وعما قام ويقوم بقلوبهم من إيمان...
الحمد لله القائم على كل نفس بما كسبت، والمجازي لها بما عملت، القائل -جلّ من قال-: (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الحجر:92-93]، والقائل: (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ * مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ) [الصافات:24-26]. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، رب العالمين، إله الأولين والآخرين، ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، الصادق الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
أيها الإخوة المؤمنون: يقول الله سبحانه وتعالى -واعظًا ومذكرًا بموقف من مواقف الإنسان يوم القيامة-: (يُنَبَّأُ الْأِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ) [القيامة:13]، ويقول: (عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) [الانفطار:5]، ويقول: (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ) [يّـس:12]، ويقول -عليه الصلاة والسلام في الحديث القدسي-: "يقول الله تعالى: إنما هي أعمالكم أحصيها لكم..." الحديث. رواه مسلم.
أيها الإخوة في الله: لقد جاءت نصوص الشريعة الغراء -قرآنًا وسُنَّة- آمرة المسلمين بضرورة الإيمان بالمساءلة والمحاسبة، ومذكرة لهم بمواجهتهم لها ومساءلتهم بعد موتهم عما قالوه وفعلوه في حياتهم، بل وعما قام ويقوم بقلوبهم من إيمان؛ يقول سبحانه وتعالى: (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) [الإسراء:36]، ويقول: (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) [التكاثر:8]، ويقول: (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ) [القصص:65]، ويقول عليه الصلاة والسلام: "لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع خصال: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن عمله ماذا عمل فيه". رحماك يا رب. رواه البزار والطبراني بإسناد صحيح عن معاذ بن جبل رضي الله عنه. [الترغيب (4/396)، صحيح الجامع برقم 7300].
ولقد عدَّ السلف من أهل السنة والجماعة الإيمان بذلك جزءًا من معتقدهم بعموم إيمانهم باليوم الآخر، الذي هو أصل من أصول الإيمان الستة التي جاءت بها النصوص، أمثال قول الله سبحانه: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ...) الآية [البقرة:177]، وقول رسوله -صلى الله عليه وسلم- في حديث جبريل المشهور: "الإيمان: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر: خيره وشره". متفق عليه.
فمقتضى هذا الإيمان أن يكون ذا أثر في قول وعمل من قام بقلبه، وإلا فهو حجة قائمة على صاحبه، معلنة مسبقًا فشله وسقوطه في المساءلة والمحاسبة التي يخرج منها داخلوها قسمين كما في سورة الروم: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ...) [الروم:12]، وسورة الحاقة: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ...) [الحاقة:19]، وسورة الانشقاق: (يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ...) [الانشقاق:6]... وغير ذلكم.
فقسم يتلألأ وجهه حبورًا وبهجة، قولته: (هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ) [الحاقة:19-20]، و(ظَنَّ) هنا بمعنى العلم الذي حمل على العمل.
وقسم قولته: (يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ) [الحاقة:25-26]، والعبرة بعموم الألفاظ. فليتَّق اللهَ المسلمون، وليتذكروا ذلكم جيدًا وما يخلصهم فيه، فالكيس من دان نفسه -أي حاسبها- وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني.
ليتَّقِ العلماءُ موقفًا يقال لهم فيه: علمتم فماذا عملتم؟! أخذت عليكم من الله البيعة بالبيان والنصح لولاة أموركم كما أخذت بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فماذا كان دوركم فيما واجهكم مما يستوجب النصح والبيان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟!
ليتذكر الولاة في أي موقع من مواقع الولاية الواردة في قوله -صلى الله عليه وسلم-: "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام راع وهو مسئول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها وهي مسئولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده وهو مسئول عن رعيته، والرجل راع في مال أبيه وهو مسئول عن رعيته، فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته". صحيح مسلم.
ليتذكر العابث من الولاة بمصالح المسلمين، المتخوّض في أموالهم بغير حق، يوم أن تغل يده في الثريا في موقف الحساب، وينهال عليه المقتصون من كل حدب وصوب انهيال الذر على قطعة لحم بدأها التعفن؛ لينال كلٌّ نصيبه منها، بل وليشفي كلٌّ نَفْسَه منها في موقف حاكمه الله الذي سيقتص للمظلومين من الظالمين، وللمخونين من الخائنين، وللمكذوبين من الكاذبين، وللمخدوعين من الخادعين.
ليتذكر أهل الأموال المسيئين في جبيها أو إنفاقها أو التعامل بها أولاً يوم أن يوافيهم تأويل قول الله سبحانه: (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ) [الأنعام:94]، وثانيًا يوم يقدمون للمساءلة عن ذلك -صغيرِه وكبيرِه، خفيه ومعلنه- أمام الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، ويا ويح وحسرة وجزع النفوس وخسرانها في ذلك الموقف مهما كان أمرها؛ لأنه ما من نفس تموت إلا وتندم، تندم إن كانت مسيئة أن لا تكون أقلعت عن إساءتها، وإن كانت محسنة أن لا تكون ازدادت من إحسانها.
فاتقوا الله -أيها المسلمون- عمومًا، واتقوا الله -معشر العلماء والولاة وذوي الأموال- خصوصًا؛ ليتق الله من ضرب بسهم مع هؤلاء، ليتق الله من ضرب بسهم مع هذه الأصناف الثلاثة جميعها؛ فقد يوقف مع كل صنف وأنى له وأنى له وأنى له المخرج.
ليتق الله الكل، وليبرهنوا على صحة إيمانهم بالمساءلة والمحاسبة بالاستعداد والتهيؤ لذلك؛ ليخرجوا من ذلكم الموقف بفضل الله رافعي الرؤوس، منشرحي الصدور، مسرورين بحسن النتيجة وعاقبة الاستعداد الحق، وإلا فالحذر الحذر؛ فلقد قامت عليكم الحجة، وأبرزت لكم المحجة، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيى من حيّ عن بينة، وما ربك بظلام للعبيد: (إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً) [النساء:40].
الخطبة الثانية:
أيها الإخوة: ما منَّا -والحمد لله- من أحد إلا ويؤمن بملاقاة الحساب، ومسك الكتاب، ووضع الموازين بين يدي أحكم الحاكمين، ويتحقق تأويل -أي حصول- قول الله سبحانه: (وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ -أي كتابه- فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) [الإسراء:13-14]، وقوله: (يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ * فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً * وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً * وَيَصْلَى سَعِيراً) [الانشقاق:6-12]، وأمثال هذه النصوص.
فماذا كان لهذا الإيمان في نفوسنا من أثر؟! أهو الاستعداد والتهيؤ؟! وكأن الإنسان سيحاسب ساعته -ويا ليته- أم هو التسويف والتفريط والإهمال؛ حتى يؤخذ أحدنا على غرة، فيندم حين لا ينفعه الندم، ويبكي حين لا ينفعه البكاء، وربما يتحسر حين لا ينفعه التحسر؟! سؤال يجب أن يوجهه كل منا إلى نفسه، ماذا كان لهذا الإيمان بالمساءلة والمحاسبة من أثر في أعمالنا: قولية أو فعلية، لفظية أو اعتقادية.
اللهم ارحم ضعفنا، اللهم نبه غافلنا، ومُنَّ علينا بالاستعداد الذي يرضيك، والفرح بلقائك يوم نلاقيك يا ذا الجلال والإكرام.