العلي
كلمة العليّ في اللغة هي صفة مشبهة من العلوّ، والصفة المشبهة تدل...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | أركان الإيمان - التوحيد |
ويتطلع إلى رحمته في ذلك اليوم جميع الخلق لما يشاهدونه، فيختص المؤمنون به وبرسله بالرحمة، فهو الذي رحمته وسعت كل شيء، وغلبت رحمته غضبه، وعم كرمه كل حي، وهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها. فقل ما شئت عن رحمة الله، فإنها فوق ما تقول، فهو الرحمن الرحيم, وتصور فوق ما شئت، فإنها فوق ذلك...
الخطبة الأولى:
الحمد له رب العالمين، ومجير المستجيرين، وجابر كسر الضعفاء والمحرومين، غياث من استغاث به، وناصر من انتصر به، هو الأول بلا ابتداء، والآخر بلا انتهاء، نعمه تترى، ورحماته كثرى، حليم لا يعاجل بالخطايا، رحيم غيث رحمته يصوب، خيره إلينا نازل، وفضله علينا كامل، والصلاة والسلام على نبي الرحمة محمد بن عبد الله، وعلى من والاه، وسار على هداه، وقدم محبته على هواه، صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى أن يشفع لنا عند مولاه.
أما بعد:
عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله، إذ بها النجاة يوم الهول، والأمن يوم الفزع، والفوز يوم التغابن، من استمسك بها أفلح، ومن اعتصم بها ربح، وعليها يكون التفاضل في الدنيا: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) [الحجرات: 13], وبها تكون الرفعة يوم الدين (وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) [البقرة: 212].
عباد الله: ما أعظم رحمة الله بهذه الأمة، حيث أنزل عليهم أحسن كتبه، وأرسل إليهم أفضل رسله، وشرع لهم أفضل شرائع دينه، وجعلهم خير أمة أخرجت للناس: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) [يونس: 57]، فالهدى هو العلم بالحق والعمل به، والرحمة هي ما يحصل من الخير والإحسان، والثواب العاجل والآجل لمن اهتدى به من المؤمنين، وإذا حصل الهدى، وحلت الرحمة الناشئة عنه، حصلت السعادة والفلاح، وتم الفرح والسرور.
ولذلك أمرنا الله -عزَّ وجلَّ- بالفرح بالقرآن الذي هو أعظم نعمة ومنة، والفرح بالإيمان وعبادة الله التي يحصل بها الأنس والطمأنينة، واللذة والسكينة كما قال سبحانه: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) [يونس: 58]، والله -سبحانه- خير من غفر، وأرحم من ملك، وأكرم من أعطى، فلساننا يهتف بما قال الصالحون من قبل: (أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ) [الأعراف: 155].
وعذاب الله إنما يحل بمن تعرض لأسباب عذابه، أما رحمة الله فقد وسعت كل شيء في العالم العلوي والعالم السفلي، فلا مخلوق إلا وصلت إليه رحمة الله، وغمره فضله وإحسانه، ولكن الرحمة الخاصة المقتضية لسعادة الدنيا والآخرة ليست إلا للمؤمنين خاصة, كما قال سبحانه: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنَا يُؤْمِنُونَ) [الأعراف: 156].
ونعم الله الكثيرة على الخلق أجمعين هي محض منة ورحمة منه -عز وجل-، ومن رحمته الدائمة المتكررة، كل يوم وليلة على مدى الدهر أن جعل لعباده النهار ليبتغوا من فضله، وينتشروا في ضيائه لطلب أرزاقهم ومعايشهم، وجعل لهم الليل ليسكنوا فيه، وتستريح أنفسهم وأبدانهم فيه من تعب السعي في النهار، فهذا كله من فضله ورحمته بعباده (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [القصص: 73].
ويتطلع إلى رحمة الله في يوم القيامة جميع الخلق -بما فيهم الشيطان- لما يشاهدونه، فيختص المؤمنون به وبرسله بالرحمة، فهو الذي رحمته وسعت كل شيء، وغلبت رحمته غضبه، وعم كرمه كل حي، وهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها.
قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللهَ خَلَقَ، يَوْمَ خَلَقَ السموات وَالأرْضَ، مِائَةَ رَحْمَةٍ، كُلُّ رَحْمَةٍ طِبَاقَ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ، فَجَعَلَ مِنْهَا فِي الأرْضِ رَحْمَةً، فَبِهَا تَعْطِفُ الْوَالِدَةُ عَلَى وَلَدِهَا، وَالْوَحْشُ وَالطَّيْرُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، أكْمَلَهَا بِهَذِهِ الرَّحْمَةِ" (مسلم 4946)، وللبخاري: "فَلَوْ يَعْلَمُ الْكَافِرُ بِكُلِّ الَّذِي عِنْدَ اللَّهِ مِنْ الرَّحْمَةِ لَمْ يَيْئَسْ مِنْ الْجَنَّةِ, وَلَوْ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ بِكُلِّ الَّذِي عِنْدَ اللَّهِ مِنْ الْعَذَابِ لَمْ يَأْمَنْ مِنْ النَّارِ", فسبحان العزيز الرحيم، الذي رحم في عدله وعقوبته، كما رحم في فضله وإحسانه ومثوبته.
إن رحمة الله واسعة، وسعت كل شيء، وهي تتمثل في مظاهر كثيرة لا يحصيها العبد، ويعجز الإنسان عن مجرد تتبعها وتسجيلها، سواء في ذات نفسه وتكوينه وتكريمه بما أكرمه الله به، أو بما سخر الله له من حوله ومن فوقه ومن تحته، أو فيما أنعم به عليه مما يعلمه ومما لا يعلمه وهو كثير: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) [النحل: 18].
ورحمة الله -تبارك وتعالى- تتمثل في الممنوع تمثلها في الممنوح، ويجدها من يفتح الله له في كل شيء، وفي كل وضع، وفي كل حال، وفي كل مكان، يجدها في نفسه، وفيما حوله، وحيثما كان، ولو فقد كل شيء مما يعد الناس فقده حرمان, ويفتقدها من يمسكها الله عنه في كل شيء، وفي كل وضع، وفي كل حال، ولو وجد كل شيء مما يعده الناس علامة السعادة والرضوان.
وما من نعمة يمسك الله معها رحمته حتى تنقلب بذاتها إلى نقمة، وما من محنة تحفها -رحمة الله- حتى تكون هي بذاتها نعمة: (مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [فاطر: 2], فلا ضيق مع رحمة الله، إنما الضيق في إمساكها عنه، فلو أمسك الله رحمته ما ترك على ظهر هذه الأرض من دابة تدب أو تعيش, ولا ضيق مع رحمة الله ولو كان صاحبها في غياهب السجن، أو في جحيم العذاب، أو في أودية الهلاك.
ولا سعة في إمساكها عن الإنسان، ولو تقلب في أعطاف النعيم، ورفل في مراتع الرخاء بين الأنهار والقصور، وذوات الخدور، لأن من نزع الله عنه رحمته فهو يعيش في خيال النعيم, ومن منحه إياها فهو يعيش في حقيقة النعيم.
فالصحة والقوة، والجاه والسلطان، والمال والولد، كلها تكون مصادر قلق وتعب ونكد إذا أمسكت عنها رحمة الله، فإذا فتح الله أبواب رحمته كان فيها السكن والراحة والسعادة والطمأنينة, يهب الله الصحة والقوة مع رحمته فإذا هي نعمة وحياة طيبة، والتذاذ بالحياة، ويمسك رحمته فإذا الصحة والقوة بلاء يسلطه الله على الصحيح القوي، فينفق الصحة والقوة فيما يحطم الجسم، ويفسد الروح، ويدخر السوء ليوم الحساب.
ويعطي الله الجاه والسلطان مع رحمته فإذا هي أداة إصلاح، ومصدر أمن، ووسيلة للأجر، ويمسك الله رحمته فإذا الجاه والسلطان مصدر قلق على قوتهما، مصدر بغي وطغيان، ومثار حقد وموجدة على صاحبهما، لا يقر له معهما قرار، ولا يستمتع بجاه ولا سلطان، ويدخر بهما للآخرة رصيداً ضخماً من النار.
ويبسط الله الرزق مع رحمته فإذا هو متاع طيب ورخاء نافع، ورغد في الدنيا، وزاد إلى الآخرة، ويمسك عنه رحمته فإذا هو مثار قلق ومؤشر خوف، ووابل حسد وبغض، وإذا هو همٌ في جمعه، وهمٌ في حفظه، وهم لفراقه, قال تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ) [محمد: 12]، وقوله -تعالى-: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) [طه : 124].
ويمنح الله الذرية مع رحمته فإذا هي زينة الحياة الدنيا، ومصدر فرح، ومضاعفة للأجر، وأداة كسب, ومصدر قوة وعزة, ويمسك عنها رحمته فإذا الذرية بلاء ونكد، وعنت وشقاء، وسهر بالليل، وتعب بالنهار, وغم وهموم, قال -سبحانه-: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ) [الأنفال : 28].
فالمال والبنون مع الرحمة زينة وسعادة: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) [الكهف: 46]، لكنّهما بدون رحمة الله شقاء ونكد: (فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) [التوبة:55]، وهم مع الرحمة صلحاء وشفعاء, وبغير الرحمة خصوم وأعداء.
يقول الإمام ابن القيم -رحمه الله تعالى-: "وتأمل قوله تعالى: (الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ) [الرحمن: 1 - 4]؛ كيف جعل الخلق والتعليم ناشئًا عن صفة الرحمة متعلقًا باسمه (الرحمن)، وجعل معاني السورة مرتبطة بهذا الاسم وختمها بقوله: (تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ)[ الرحمن: 78]، فالاسم الذي تبارك هو الاسم الذي افتتح به السورة، إذ مجيء البركة كلها منه، وبه وضعت البركة في كل مبارك فكل ما ذكر عليه بورك فيه، وكل ما أخلي منه نزعت منه البركة، وبرحمته أطلع الشمس والقمر، وجعل الليل والنهار، وبسط الأرض وجعلها مهادًا وفراشًا وقرارًا وكفاتًا للأحياء والأموات، وبرحمته أنشأ السحاب وأمطر المطر، وأطلع الفواكه والأقوات والمرعى، ومن رحمته سخر لنا الخيل والإبل والأنعام وذللها منقادة للركوب والحمل والأكل، ومن رحمته أن خلق للذكر من الحيوان أنثى من جنسه وألقى بينهما المحبة والرحمة، ليقع بينهما التواصل الذي به دوام التناسل وانتفاع الزوجين، ويمتع كل واحد منهما بصاحبه, ومن رحمته أحوج الخلق بعضهم إلى بعض لتتم مصالحهم، ولو أغنى بعضهم عن بعض لتعطلت مصالحهم، وانحل نظامهم، وكان من تمام رحمته بهم أن جعل فيهم الغني والفقير، والعزيز والذليل، والعاجز والقادر، والمراعي والمرعي، ثم أفقر الجميع إليه ثم عم الجميع برحمته".
ومن رحمة الله أن تحس وتشعر بنسائمها، فرحمته واسعة، وهي تضمك وتغمرك، ولكن شعورك بوجودها هو الرحمة، فرحمة الله لا تعز على طالبها في أي مكان، وفي أي زمان، وعلى أي حال, فقد وجدها إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- في النار (قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ ) [الأنبياء : 69]. ووجدها نوح -صلى الله عليه وسلم- في أمواج كالجبال (قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ)[هود : 43].
ووجدها يوسف -صلى الله عليه وسلم- في الجب، كما وجدها في السجن، كما وجدها في الملك.. (قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ) [يوسف : 90، 91], ووجدها يونس -صلى الله عليه وسلم- في بطن الحوت, فقد روي من حديث أنس يرفعه إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- "أن يونس النبي -صلى الله عليه وسلم- حين بدا له أن يدعو بهذه الكلمات، وهو في بطن الحوت، فقال: اللهم لا إله إلا أنت سبحانك، إني كنت من الظالمين. فأقبلت الدعوة تحف بالعرش، قالت الملائكة: يا رب، هذا صوت ضعيف معروف من بلاد بعيده غريبة؟ فقال: أما تعرفون ذلك؟ قالوا: يا رب، ومن هو؟ قال: عبدي يونس. قالوا: عبدك يونس الذي لم يزل يرفع له عمل متقبل، ودعوة مستجابة؟ قالوا: يا رب، أو لا ترحم ما كان يصنع في الرخاء فتنجِّيه في البلاء؟ قال: بلى. فأمر الحوت فطرحه بالعرَاء" (ابن كثير 7 / 39).
ووجدها موسى -صلى الله عليه وسلم- في اليم وهو طفل مجرد من كل قوة، ومن كل حراسة، كما وجدها في قصر فرعون.. ووجدها أصحاب الكهف في الكهف، حين افتقدوها في القصور والدور: (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي) [طه: 39]. ووجدها محمد -صلى الله عليه وسلم- في الغار، وفي طريق الهجرة، وفي بدر، وفي فتح مكة، وفي جميع أحواله -صلى الله عليه وسلم- (فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا) [التوبة : 40].
ووجدها ويجدها كل من آوى إليها، يائساً من كل ما سواها، منقطعاً عن كل شبهة في قوة، وعن كل مظنة في رحمة، قاصداً رحمة الله وحده دون جميع الأبواب، وما بين الناس ورحمة الله إلا أن يطلبوها مباشرة منه، فهو الذي يملكها وحده: (مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا) [فاطر: 2].
معاشر المسلمين: ومن مظاهر رحمته سبحانه ببني آدم، وآثاره العظيمة على الكون والخلق أجمعين تتجلى في العديد من المشاهد الكونية ومنها:
تتجلى ابتداءً في وجود البشر أنفسهم، وفي نشأتهم من حيث لا يعلمون، وفي تكريم الإنسان على كثير من العالمين, دون أن يسأله ذلك أو يشترط عند خلقه بذلك, أو يكون له أدنى سبب قال تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً) [الإسراء: 70].
ومن رحمة الله -سبحانه وتعالى- بالإنسان أن خلقه في أحسن تقويم وأكرمه بالدين وزوده بالسمع والبصر والعقل، ولم يكله في الاهتداء إلى عقله وحده ولا على الفطرة وحدها، ولا على كثرة ما في الأنفس والآفاق من دلائل الهدى، وموجبات الإيمان, ولا إلى كتاب منزل وحده, ولا إلى نبي مرسل وحده, بل جمع له بين ذلك كله, ليقطع عليه العذر, ويقيم عليه الحجة.
كما اقتضت رحمة العزيز الرحيم ألا يكل إلى العقل البشري تبعات الهدى والضلال إلا بعد الرسالة والبيان، ولم يكل إليه بعد البيان والاهتداء وضع منهج الحياة، إنما وكل إليه تطبيق منهج الحياة، الذي قرره الله له، وأكرمه به، ثم ترك له ما وراء ذلك: (وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [الأعراف: 203].
وتتجلى في تسخير ما في هذا الكون العظيم من النعم والطاقات، والقوى والأرزاق، والماء والهواء وغير ذلك مما يتقلب فيه الإنسان كل لحظة قال تعالى: (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ) [الجاثية: 13]، فمن رحمته أن ذلل لهم وطوع لهم مخلوقاته وجعلها في متناولهم وتحت تصرفهم يستعينوا بذلك على القيام بواجبهم التي خلقوا من أجلها، فتجد الصبي الصغير يقود الجمل الكبير بمنتهى اليسر، لأن الله عز وجل قد سخره له وأخضعه لسلطانه.
وتتجلى رحمة الله في تعليم الإنسان ما لم يعلم مما يحتاجه في حياته: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [النحل: 78]، وكلما تقدمت بهم الأزمان، وازدادت أعدادهم، فتح لهم من أسرار العلوم والاكتشافات الحديثة، ما تتيسر بها أمورهم وتستمر منافعهم، وتخيل لو لم يتم اكتشاف الطائرات والقطارات ووسائل الاتصالات الحديثة والليزر وغير ذلك من أسرار العلم الحديث، تخيل كيف ستمضي عجلة البشرية بأعدادها الهائلة من غير هذه النعم المسخرة برحمة الرحيم.
وتتجلى رحماته كذلك في مجازاته العبد على السيئة بمثلها، ومجازاته على الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، ومحو السيئة بالحسنة: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) [الأنعام: 160]، وتظهر أيضا في تجاوز الله عن سيئات العباد إذا عملوها بجهالة ثم تابوا، رحمة بهم كما قال سبحانه: (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [الأنعام: 54]. قال ابن كثير: أي: أوجبها على نفسه الكريمة، تفضلا منه وإحسانًا وامتنانًا, بل ومن هم بسيئة ثم تركها كتب الله له حسنة, إكراما للعبد على تركه وخشيته ربه.
ومن سعة رحمة الله، وعظيم فضله، أن رتب على الأعمال اليسيرة أجورًا كبيرة، فانظر إلى رحمة الله المسداة لأمة محمد -صلى الله عليه وسلم- في فضل صيام يوم عرفة ويوم عاشوراء، وانظر إلي عظيم منته في فضل الصدقة ولو بشق تمرة، وفضل من ذكر الله -عز وجل- (سبحان الله وبحمده) مائة مرة في اليوم، وفضل صلاة الجنازة، المشي إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، وقراءة آية الكرسي دبر الصلوات، فدونك -يا عبد الله- أبواب الخيرات الكثيرة التي لا ينقطع خيرها وفضلها برحمة الله -عز وجل-.
وتتجلى رحمة الله -جل جلاله- بفرحه سبحانه بتوبة العبد إذا تاب إليه أعظم فرح وأكمله، ويكفر عنه سيئاته، ويغفر ذنوبه, ويوجب له محبته، وهو -سبحانه- الرحيم الذي ألهمه إياها، ووفقه لها، وأعانه عليها، وقبلها منه, قال الله تعالى: (فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [المائدة: 39].
وفي الحديث: "لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ مِنْ رَجُلٍ فِي أَرْضٍ دَوِّيَّةٍ مَهْلِكَةٍ مَعَهُ رَاحِلَتُهُ عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فَنَامَ فَاسْتَيْقَظَ وَقَدْ ذَهَبَتْ فَطَلَبَهَا حَتَّى أَدْرَكَهُ الْعَطَشُ ثُمَّ قَالَ أَرْجِعُ إِلَى مَكَانِيَ الَّذِي كُنْتُ فِيهِ فَأَنَامُ حَتَّى أَمُوتَ فَوَضَعَ رَأْسَهُ عَلَى سَاعِدِهِ لِيَمُوتَ فَاسْتَيْقَظَ وَعِنْدَهُ رَاحِلَتُهُ وَعَلَيْهَا زَادُهُ وَطَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فَاللَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ الْعَبْدِ الْمُؤْمِنِ مِنْ هَذَا بِرَاحِلَتِهِ وَزَادِهِ" (مسلم 4929), وهذا يدلك على مدى رحمة الله بعباده.
فلو تخيلت حالة رجل انقطعت به أسباب الحياة الأرضية فشارف على الموت المحقق فأوكل نفسه إلى بارئها, ثم أسلم جسده إلى النوم ليدبر الغني القدير, والكريم الرحيم في أمره ما يريد, وبينما هو في نومه إذ بالمفاجأة الكبرى تمنحه عمرا ثانيا بعد أن يئس من حياته فكان من فرحته البالغة أن أخطأ خطأ كبيرا فادحاً, حيث قال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك وذلك من شدة فرحه, أرأيتم ما بلغ الفرح بهذا, فالله بتوبة عبده أشد وأعظم من هذا.
ومن رحمته -سبحانه- أنه ملأ سماواته من ملائكته، يستغفرون لأهل الأرض، والدعاء لعباده المؤمنين، والاستغفار لذنوبهم، ووقايتهم عذاب الجحيم، والشفاعة لهم عند ربهم ليدخلهم الجنة كما قال سبحانه: (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [غافر: 7-9].
فما أعظم هذه العناية من الله الرحيم بعباده المؤمنين، وما أجمل هذا الإحسان من المولى الكريم، وما أعظم هذه الرحمة من الرحمن الرحيم، وما أجملَ هذا التحنن والعطف والتحبب إلى العباد، وحسن التلطف بهم.
ألا ما أعظمَ رحمة الله بعباده، فمع خلقهم، وتأمين أقواتهم، وقسمة أرزاقهم، خلق سبحانه ملائكة يدعون لهم، ويستغفرون لهم، ويشفعون لهم عند ربهم، ومع هذا كله أرسل إليهم رسله، وأنزل عليهم كتبه، وتعَّرف إليهم بأسمائه وصفاته، وآلائه وإنعامه، ليدعوه بها، ويسألوه بموجبها, ويعظموه من خلال تعرفهم بها.
اللهم ارحمنا برحمتك التي وسعت كل شيء، ولا تخزنا يوم العرض عليك، وراحم ضعفنا وذلنا وانكسارنا بين يديك، أنت ربنا، وأنت أرحم الراحمين.
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، الذي أسبغ نعمه ورحمته الظاهرة والباطنة على الخلق أجمعين، والصلاة والسلام على من بالمؤمنين رؤوف رحيم.
أيها المسلمون: ومن رحمته أنه ينزل -سبحانه- كل ليلة إلى سماء الدنيا، إكراما للمؤمنين، لقضاء حاجات السائلين، وقبول دعاء الداعين, وإلحاح المستغفرين, فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "يَنْزِلُ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ يَقُولُ مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ" (البخاري 1077, ومسلم (1261).
كما يبسط رحمته لكل التائبين, ويفتح بابه لكل المنيبين, وجنته لكل العائدين المقبلين: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الزمر : 53], فاَللَّهُ "الرَحِيمٌ" أَمَرَنا بِمَا يُصْلِحُنا, وَنَهَانا عَمَّا يُفْسِدُنا, ثُمَّ إذَا وَقَعنا فِي أَسْبَابِ الْهَلَاكِ لَمْ يؤيسنا مِنْ رَحْمَتِهِ, بَلْ جَعَلَ لَنا أَسْبَابًا نتَوَصَّلُ بِهَا إلَى رَفْعِ الضَّرَرِ عَنا, وَلِهَذَا قِيلَ: إنَّ الْفَقِيهَ كُلُّ الْفَقِيهِ الَّذِي لَا يُؤَيِّسُ النَّاسَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ, وَلَا يُجَرِّئُهُمْ عَلَى مَعَاصِي اللَّهِ.
قال ابن سعدي في تفسيره: "صفة المغفرة والرحمة، وصفان لازمان ذاتيان، لا تنفك ذاته عنهما، ولم تزل آثارهما سارية في الوجود، مالئة للموجود، تسح يداه من الخيرات آناء الليل والنهار، ويوالي النعم على العباد والفواضل في السر والجهار، والعطاء أحب إليه من المنع، والرحمة سبقت الغضب وغلبته، ولكن لمغفرته ورحمته ونيلهما أسباب إن لم يأت بها العبد، فقد أغلق على نفسه باب الرحمة والمغفرة، أعظمها وأجلها، بل لا سبب لها غيره، الإنابة إلى اللّه -تعالى- بالتوبة النصوح، والدعاء والتضرع والتأله والتعبد، فهلم إلى هذا السبب الأجل، والطريق الأعظم".
ومن رحمته -سبحانه- أن أرسل لنا محمداً -صلى الله عليه وسلم- رحمةً للعالمين، فهو أرحم الناس بالخلق، فقال في وصفه ب: (حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ), وقال: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) [الأنبياء: 107], وهو -صلى الله عليه وسلم- رحمة لكل أحد، لكن المؤمنين قبلوا هذه الرحمة، وامتثلوا لموجباتها, فنالوا بها سعادة الدنيا والآخرة, وقد رفع الله برسالة محمد -صلى الله عليه وسلم- العذاب العام عن أهل الأرض, وأبدله رحمة, كيف وهو نبي الرحمة للعالمين, قال سبحانه وتعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [الأنفال : 33].
وأما الكفار فحين أن ردوها، وأبوا أن يعيشوا في أجوائها, وتحت ظلالها, فلهم الشقاء في الدنيا والآخرة، قال تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [العنكبوت : 23].
وبهذه الرحمة التي اتصف بها نبيّنا انتشر الدين، وقبله الناس، وأحبوه، وجاهدوا في سبيله كما قال سبحانه: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ) [آل عمران: 159].
ومن رحمته -سبحانه- بالخلق أن نغَّص عليهم الدنيا وكدرها، لئلا يسكنوا إليها، ولا يطمئنوا بها، كي يرغبوا في النعيم المقيم في دار جواره.
ورحمة الرحمن تشمل الخلق كلهم في الدنيا، أما في الآخرة فإن الله -عزَّ وجلَّ- يطرد من رحمته من لم يؤمن به، ولم يشكر نعمه من الكفار والعصاة، ولا تشمل رحمته في الآخرة إلا عباده المؤمنين.
ففي الدنيا كثرت متعلقات الرحمة، وفي الآخرة قلَّت متعلقات الرحمة، وإن كانت صفة الرحمة ثابتة لم تتغير ولم تتبدل، ولو أن الكفار والعصاة أطاعوا ربهم لسعتهم رحمة الله في الآخرة، ولكنهم حرموا أنفسهم منها بكفرهم: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [العنكبوت: 23].
ومن رحمته أنه لا يدخل عباده جنته بأعمالهم، بل برحمته وفضله, إذ أعمالهم لا تستقل باقتضاء الرحمة، وحقوق عبوديته وشكره التي يستحقها عليهم لم يقوموا بها كما يجب لعظمته وجلال سلطانه، فلو عذبهم والحالة هذه لكان تعذيباً لما يستحقونه، وهو سبحانه غير ظالم لهم فيه، فإن أعمالهم لا توازي القليل من نعمه عليهم، فتبقى نعمه الكثيرة لا مقابل لها من شكرهم وأعمالهم, وكل نعمة ظاهرة وباطنة تحتاج منهم إلى شكر, وتوفيقه لهم لشكره يحتاج منهم إلى شكر وهكذا.
ولو أتى العبد بكل ما يقدر عليه في تصوره من الطاعات ظاهراً وباطناً، فالذي ينبغي لربه فوق ذلك، وأضعاف أضعافه، فإن عجز عنه لم يستحق ما يترتب عليه من الجزاء، فإذا حرم جزاء ما لم يأت به مما يجب لربه لم يكن الرب ظالماً له.
وقد جاء في حديث قدسي أن عابدا عبد الله خَمْسَ مِائَةِ عَامٍ, فيُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُوقَفُ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- فَيَقُولُ لَهُ الرَّبُّ: "أَدْخِلُوا عَبْدِي الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِي، فَيَقُولُ: رَبِّ بَلْ بِعَمَلِي، ثلاثا, فَيَقُولُ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- لِلْمَلَائِكَةِ: قَايِسُوا عَبْدِي بِنِعْمَتِي عَلَيْهِ وَبِعَمَلِهِ فَتُوجَدُ نِعْمَةُ الْبَصَرِ قَدْ أَحَاطَتْ بِعِبَادَةِ خَمْسِ مِائَةِ سَنَةٍ, وَبَقِيَتْ نِعْمَةُ الْجَسَدِ فَضْلًا عَلَيْهِ, فَيَقُولُ: أَدْخِلُوا عَبْدِي النَّارَ قَالَ: فَيُجَرُّ إِلَى النَّارِ فَيُنَادِي: رَبِّ بِرَحْمَتِكَ أَدْخِلْنِي الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ: رُدُّوهُ فَيُوقَفُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَيَقُولُ: يَا عَبْدِي، مَنْ خَلَقَكَ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا؟ فَيَقُولُ: أَنْتَ يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: كَانَ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِكَ أَوْ بِرَحْمَتِي؟ فَيَقُولُ: بَلْ بِرَحْمَتِكَ. فَيَقُولُ: مَنْ قَوَّاكَ لِعِبَادَةِ خَمْسِ مِائَةِ عَامٍ؟ فَيَقُولُ: أَنْتَ يَا رَبِّ، فَقَالَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: فَذَلِكَ بِرَحْمَتِي وَبِرَحْمَتِي أُدْخِلُكَ الْجَنَّةَ، أَدْخِلُوا عَبْدِي الْجَنَّةَ, فَنِعْمَ الْعَبْدُ كُنْتَ يَا عَبْدِي فَيُدْخِلُهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ، قَالَ جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: إِنَّمَا الْأَشْيَاءُ بِرَحْمَةِ اللَّهِ -تَعَالَى- يَا مُحَمَّدُ" (الحاكم في المستدرك (7637) وصححه). وله شاهد من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- الذي رواه الشيخان أن رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لَنْ يُدْخِلَ أحَداً عَمَلُهُ الْجَنَّةَ". قَالُوا: وَلا أنْتَ يَا رَسُولَ الله؟ قَالَ: "لا، وَلا أنَا، إِلا أنْ يَتَغَمَّدَنِي اللهُ بِفَضْلٍ وَرَحْمَةٍ".
فإذا أعطى الله عبده الثواب، كان مجرد صدقة منه -تعالى- لا استحقاقا من العبد, وفضل منه -سبحانه- ورحمة لا عوضاً عن عمله القاصر، والعبد مملوك، مفرغ لخدمة سيده, لا يستحق شيئاً, فإن أعطاه شيئاً فهو إحسان منه وفضل.
أيها المسلمون: إن اعمال العباد أسباب لنيل رحمة الله، ومع ذلك ليست في مقابل ما يسديه الله -تعالى- للعباد من الرحمة، والتي من أعلى مراتبها دخول الجنة، ومما يؤكّد ذلك ما رواه أبو هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: " كَانَ رَجُلَانِ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ مُتَوَاخِيَيْنِ, فَكَانَ أَحَدُهُمَا يُذْنِبُ, وَالْآخَرُ مُجْتَهِدٌ فِي الْعِبَادَةِ, فَكَانَ لَا يَزَالُ الْمُجْتَهِدُ يَرَى الْآخَرَ عَلَى الذَّنْبِ فَيَقُولُ: أَقْصِرْ -كفّ عن الذنب, فَوَجَدَهُ يَوْمًا عَلَى ذَنْبٍ, فَقَالَ لَهُ: أَقْصِرْ, فَقَالَ: خَلِّنِي وَرَبِّي, أَبُعِثْتَ عَلَيَّ رَقِيبًا؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ, أَوْ لَا يُدْخِلُكَ اللَّهُ الْجَنَّةَ, فَقَبَضَ أَرْوَاحَهُمَا فَاجْتَمَعَا عِنْدَ رَبِّ الْعَالَمِينَ, فَقَالَ لِهَذَا الْمُجْتَهِدِ: أَكُنْتَ بِي عَالِمًا, أَوْ كُنْتَ عَلَى مَا فِي يَدِي قَادِرًا؟ وَقَالَ لِلْمُذْنِبِ: اذْهَبْ فَادْخُلْ الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِي, وَقَالَ لِلْآخَرِ اذْهَبُوا بِهِ إِلَى النَّارِ, قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَوْبَقَتْ دُنْيَاهُ وَآخِرَتَهُ" (أبو داود 4255)، أي: أن تلك الكلمة التي قالها أهلكت ما عمله طوال حياته، وهذا أكبر دليل على أن الجنّة ليست في مقابل عبادة العباد، فكيف بالعصاة!.
ومن رحمته -سبحانه- بعباده أن حذرهم نفسه, قال سبحانه: (وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ) [آل عمران: 30]، والحكمة من هذا لئلا يغتروا به فيعاملوه بما لا تحسن معاملته به، من الشرك والمعاصي والتقصير، ولئلا يركنوا إلى رحمته دون عمل يقربهم كما قال سبحانه: (وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [فصلت: 23].
عباد الله: إن رحمة الله لن ينالها كل أحد، فمن الخلق من طرده الله من رحمته الى أبد الآبدين كإبليس, ومن من تمادى في العصيان فأيئسه الله من رحمته: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي) [العنكبوت:23], ومنهم من سعى لتحصيل مرضاة الله وعمل بمقتضاها: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [البقرة:218], ولأجل أنهم موقنون بأنّ: (رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [لأعراف:56]، أوصلهم الله لرحمته: (وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [آل عمران: 107].
إن المسلم يسعى لحصول رحمة الله ويتلمّس مواطن الرحمة الالهيّة ومظانّها، وقد كان نبيّنا يدعو الله بطلب الرحمة فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيّ -صلى الله عليه وسلم- حِينَ فَرَغَ مِنْ صَلاتِهِ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِكَ, تَهْدِي بِهَا قَلْبِي, وَتَجْمَعُ بِهَا أَمْرِي, وَتَلُمُّ بِهَا شَعْثِي, وَتُصْلِحُ بِهَا غَائِبِي, وَتَرْفَعُ بِهَا شَاهِدِي, وَتُزَكِّي بِهَا عَمَلِي, وَتَرُدُّ بِهَا أُلْفَتِي, وَتُغْنِينِي بِهَا عَنْ مَنْ سِوَاكَ, اللَّهُمَّ أَنْزَلْتُ بِكَ حَاجَتِي، وَإن قَصُرَ رَأْيِي وَضَعُفَ عَمَلِي, وَافْتَقَرْتُ إِلَى رَحْمَتِكَ, اللَّهُمَّ مَا قَصُرَ عَنْهُ رَأْيِي, وَلَمْ تَبْلُغْهُ مَسْأَلَتِي مِنْ خَيْرٍ، أَوْ خَيْرٍ أَنْتَ مُعْطِيهِ أَحَدًا مِنْ عِبَادِكَ, فَإِنِّي أَرْغَبُ إِلَيْكَ فِيهِ وَأَسْأَلُكَهُ بِرَحْمَتِكَ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ" (أخرجه البزّار 5234).
والأمل بالرب الكريم، الرحمن الرحيم، أن يرى الخلائق منه يوم القيامة من الفضل والإحسان، والعفو والصفح، والتجاوز والغفران، ما لا تعبّر عنه الألسنة، ولا تتصوره الأفكار، ولا يخطر على القلوب، ويتطلع إلى رحمته في ذلك اليوم جميع الخلق لما يشاهدونه، فيختص المؤمنون به وبرسله بالرحمة، فهو الذي رحمته وسعت كل شيء، وغلبت رحمته غضبه، وعم كرمه كل حي، وهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها.
فقل ما شئت عن رحمة الله، فإنها فوق ما تقول، فهو الرحمن الرحيم, وتصور فوق ما شئت، فإنها فوق ذلك، قال الله تعالى: (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيراً) [الفرقان: 26]، فسبحان العزيز الرحيم، الذي رحم في عدله وعقوبته، كما رحم في فضله وإحسانه ومثوبته.
اللهم ارحمنا فأنت بنا أرحم الراحمين، ولا تعذبنا فأنت أكرم الأكرمين، واغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا، وما أسرنا وما أعلنا ، وما أنت به أعلم منا، أنت المقدم وأنت المؤخر، وأنت على كل شيء قدير.
اللهم أقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك, ومن طاعتك ما تبلّغنا به جنتَك, ومن اليقين ما تُهون به علينا مصائبَ الدنيا, ومتعنا اللهم بأسماعِنا وأبصارِنا وقواتنا ما أبقيتنا, واجعلهُ الوارثَ منا, واجعل ثأرنا على من ظلمنا, وانصُرنا على من عادانا, ولا تجعل مصيبتَنا في ديننا, ولا تجعل الدنيا أكبرَ همِنا, ولا مبلغَ علمِنا, ولا إلى النار مصيرنا, واجعل الجنة هي دارنا, ولا تُسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك فينا ولا يرحمنا.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمةُ أمرِنا, وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشُنا, وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا, واجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير, واجعل الموتَ راحةً لنا من كلِ شر.
اللهم انا نسألك فعلَ الخيرات, وتركَ المنكرات, وحبَ المساكين, وأن تغفر لنا وترحمنا وتتوب علينا, وإذا أردت بقومٍ فتنةً فتوَفنا غير مفتونين, ونسألك حبَك, وحبَ مَن يُحبك, وحب عملٍ يقربنا إلى حبك, يا رب العالمين.
اللهم اغفر لجميع موتى المسلمين, الذين شهدوا لك بالوحدانية, ولنبيك بالرسالة, وماتوا على ذلك, اللهم اغفر لهُم وارحمهُم وعافهم وأعفو عنهم, وأكرم نزلَهم, ووسِع مدخلهم, واغسلهم بالماء والثلج والبرَد, ونقهم كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس, وارحمنا اللهم برحمتك اذا صرنا الى ما صاروا إليه, تحت الجنادل والتراب وحدنا.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.