المحسن
كلمة (المحسن) في اللغة اسم فاعل من الإحسان، وهو إما بمعنى إحسان...
العربية
المؤلف | عبد الحليم توميات |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
ما من إنسان إذا قلت له: اِحذر أعداءك؛ إلاّ وانصرف ذهنه إلى غير هذا العدوّ! ويا سبحان الله! لقد وصل تلبيسه على النّاس إلى أن أنساهم عداوته وغدره وخصومته. فرأيتُ من اليوم فصاعدا أن تكون لقاءاتُنا هذه ينصبّ حديثها عن الشّيطان الرّجيم ومكايده، ومداخله ومصايده؛ ليحذر المؤمن شرّه، ويُبعِدُ عنه مكرَه وغدرَه.
الخطبة الأولى:
أما بعد: إنّ من الأمور الّتي يوافقك عليها جميع المؤمنين، ولا يخالفك فيها أحد من المسلمين، أنّ هذه الدّنيا إنّما هي جسر يعبُره العابرون، ويجتازه المارّون، قد قدموا من دار لينتقلوا إلى دار، قد قدموا من عالم العدم، لينتقلوا إلى دار الخلود؛ (هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً) [الانسان:1]. ثمّ هم إمّا إلى نعيم مقيم، أو جحيم أليم، كما قال العليّ الخبير: (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) [الشّورى:7].
والشّاهد أنّنا في هذه الدّنيا في سفر دائم، لا أحد منّا يعلم متى يقال له: حُطّ رحالَك، وودّع أهلك ومالَك، وأعرض علينا أعمالَك! عندئذ ينتهي السّفر: (فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) [النّحل:61].
ولئن كان السّفر الّذي نسافره في هذه الدّنيا قطعةً من العذاب، فكيف بالسّفر لملاقاة العزيز الوهّاب؟! فالسّفر شاقّ وطويل، والزّاد ضئيل وقليل.
وما يزيد الهمّ همّا، ويُضيف إلى الغمّ غمّا: كثرةُ قطّاع الطّرق والأعداء الّذين نصادفهم. فيا قرّة عيون الأبرار بالنّظر إلى وجه الكريم في الدّار الآخرة! ويا ذلّة الرّاجعين بالصّفقة الخاسرة! (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ * تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ) [القيامة::22-25].
فحـيَّ على جنّات عـدن، فإنّها | منازلك الأولـى وفيها المخيّمُ |
ولكنّنا سبي العدوّ، فهـل تـرى | نعـود إلى أوطـانـنا فنسلم؟ |
فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة | وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم |
وقد أصبح جلّ النّاس اليوم، إذا حذّرتهم من العدوّ، انصرف ذهنه إلى البيت الأسود الغربيّ، أو العدوّ الصّهيوني اليهوديّ، أو المنصّر الصّليبيّ، أو العلمانيّ الإرهابيّ؛ وكلّ هؤلاء لا ريب أنّهم من الأعداء الّذين (لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ) [التوبة:10].
ولكن؛ ما بالنا قد غفلنا عن العدوّ اللّدود، ذي العقبة الكؤود؟ ما بالنا قد غفلنا عن رائدهم وقائدهم، وشيخهم وسيّدهم؟ ما بالنا قد نسينا كثيرا من مَكْرِه، وأمِنَّا كثيرا من غدره؟ إنّه العدوّ الأوّل لابن آدم بلا منازع، والخصم الألدّ بلا مدافع: إبليس الرّجيم.
ما من إنسان إذا قلت له: اِحذر أعداءك؛ إلاّ وانصرف ذهنه إلى غير هذا العدوّ! ويا سبحان الله! لقد وصل تلبيسه على النّاس إلى أن أنساهم عداوته وغدره وخصومته.
فرأيتُ من اليوم فصاعدا أن تكون لقاءاتُنا هذه ينصبّ حديثها عن الشّيطان الرّجيم ومكايده، ومداخله ومصايده؛ ليحذر المؤمن شرّه، ويُبعِدُ عنه مكرَه وغدرَه.
أوّلا: بيان أنّ عداوته فاقت كلّ عداوة، وذلك من وجوه كثيرة، يظهر لنا ذلك من اسمه وصفاته، فهو: إبليس، قال أهل العلم الذين ذهبوا إلى أنّه لفظ عربيّ: معناه: أُبلس من رحمة الله، أي يئس، كقوله -تعالى-: (يَوْمَئِذٍ يُبْلِسُ المُجْرِمُونَ) [الروم:12]، وإبليس -لعنه الله- قد أيّسه الله من رحمته، فقال -عزّ وجلّ-: (قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُوماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ) [الأعراف:18].
ومن صفاته: الشّيطان، من الشطن، وهو البعد، فهو بعيد من رحمة الله التي وسعت كلّ شيء، بعيد من كلّ صفات الخير. فمهما كان العدوّ الإنسيّ ماردا جبّارا، فإنّه يمكن أن نتصوّر توبته، ونتخيّل أوبته، إلاّ الشّيطان الرّجيم، فإنّه لن يتوب أبدا.
ومن صفاته: الرّجيم، بمعنى راجم أو مرجوم، فإن قلنا: راجم، فهو يرجم النّاس بوساوسه، وتلبيساته وغواياته، وإن قلنا: مرجوم، فإنّه لا يُبعده في الأرض إلاّ ذكر الله والتعوّذ منه، فيرجم بآيات الله. أمّا في السّماء فإنّ الله قد تولّى رجمه، فقال -جلّ جلاله-: (إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ * وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ * لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَأِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ * دُحُوراً وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ) [الصّافات6-9].
ومن صفاته أنّه من الجنّ الّذين لا يمكن للعبد أن يراهم، قال -تعالى-: (إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) [الأعراف:27].
ومن صفاته أنّه لا يفتر عن الوسوسة، ملازم لابن آدم إلى الموت، لذلك سمّاه الله -تعالى- قرينا، فقال -عز وجل-: (وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُم) [فصّلت:25]، وقال -تعالى-: (قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ) [الأعراف:14-17].
(لَأَقْعُدَنَّ) أي: لألزمنّ، (صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ)، قال ابن عبّاس -رضي الله عنه-: دينك الواضح، وقال ابن مسعود -رضي الله عنه-: هو كتاب الله، وقال جابر: هو الإسلام، وقال مجاهد: هو الحقّ. وجميع ذلك عبارات لمعنى واحد، وهو: الطريق الموصل إلى الله -تعالى-.
وقد روى النّسائي عن سَبْرَةَ بْنِ أَبِي فَاكِهٍ قال: سمعت رسول اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إِنَّ الشَّيْطَانَ قَعَدَ لِابْنِ آدَمَ بِأَطْرُقِهِ، فَقَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ: تُسْلِمُ وَتَذَرُ دِينَكَ وَدِينَ آبَائِكَ وَآبَاءِ أَبِيكَ؟ فَعَصَاهُ فَأَسْلَمَ. ثُمَّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْهِجْرَةِ فَقَالَ: تُهَاجِرُ وَتَدَعُ أَرْضَكَ وَسَمَاءَكَ؟ فَعَصَاهُ فَهَاجَرَ. ثُمَّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْجِهَادِ فَقَالَ: تُجَاهِدُ؟ فَهُوَ جَهْدُ النَّفْسِ وَالْمَالِ، فَتُقَاتِلُ فَتُقْتَلُ فَتُنْكَحُ الْمَرْأَةُ وَيُقْسَمُ الْمَالُ؟! فَعَصَاهُ فَجَاهَدَ". فقال رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ -عز وجل- أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ". فما من طريق خير إلاّ والشّيطان قاعد عليه يقطعه على السّالك.
وقوله: (ثُمَّ لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ) فهو على ظاهره، أي: لا يتركك إلاّ وهو أمامك، أو خلفك، أو عن يمينك، أو عن شمالك.
ويحتمل الكلام معنى آخر، قال ابن عبّاس -رضي الله عنه-: (مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ) أي: "أشكّكهم في آخرتهم"، وقال الحسن: "من قِبَل الآخرة تكذيبا بالبعث والجنّة والنّار".
(وَمِنْ خَلْفِهِمْ): قال ابن عبّاس: "أرغّبهم في دنياهم"، وقال الحسن: "من قِبَل دنياهم، أزيّنها لهم، وأشهّيها لهم".
(وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ): قال ابن عبّاس: "أشبّه عليهم أمرَ دينهم"، وقال أبو صالح: "الحقّ أشكّكهم فيه"، وقال الحسن: "من قِبَل الحسنات أثبّطهم عنها".
(وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ): قال الحسن: "السّيئات يأمرهم بها، ويحثّهم عليها، ويزينها في أعينهم". وصحّ عن ابن عباس -رضي الله عنه- أنّه قال: "ولم يقل من فوقهم؛ لأنّه علم أن الله من فوقهم". وقال قتادة رحمه الله: "أتاك الشّيطان يا ابن آدم من كلّ وجه، غير أنّه لم يأتك من فوقك، لم يستطع أن يحول بينك وبين رحمة الله".
أمّا العدوّ الإنسي فقد يغفل أحيانا، ويفتر أحيانا أخرى.
ومن صفاته: أنّه لا يُدفع شرّه إلاّ بالاستعاذة، فإنّ العدوّ الإنسيّ يمكن دفعه بالمصانعة والإحسان إليه، أمّا الشّيطان الرّجيم فإنّه لا يتنازل ولا يرضى إلاّ باتّباعه.
وهناك ثلاث آيات في القرآن الكريم ليس هناك غيرهنّ تذكُر العدوّ الجنّي والإنسيّ، فيأمر الله -تعالى- فيها بالصّبر على أذى الإنسيّ، والتعوّذ به -سبحانه- من العدوّ الجنّي، لا عاصم منه إلاّ هو، قال -تعالى- في سورة الأعراف: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ * وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [الأعراف:199-200]، وقال في سورة المؤمنون: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ * وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ) [المؤمنون:96-98]، وقال في فصّلت: (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [فصلت:34-36].
وقد جاء رجل إلى أحد العلماء يسأله: كيف أصرف عنّي الشّيطان؟ فقال له: أرأيت لو أنّ كلبا لراعٍ اعترض طريقك؛ ما كنت فاعلا؟ فقال: أضربه. فقال: إن ضربته بحجر انصرف غير بعيد ثمّ عاد، ولكن عليك بصاحبه.
وإن تعجب فعجب ممّن لو أخبرته أنّ هناك من يريد قتله، ويتربّص به كلّ حين ليفتك به؛ لاتّخذ جميع السّبل، واستقطب جميع الوسائل والطّرق ليتّقي شرّه، ويجتنب ضرّه، مع أنّ هذا القاتل لا بدّ وأنّه سيغفل عنك ساعة من الزّمن، فكيف لا نتّقي ولا نتّخذ التّدابير للوقاية من ضربات الشّيطان المريد؟.
ومنها: أنّه مَن صَرَعَهُ العدوُّ الإنسيُّ كان شهيداً، فقد روى البخاريُّ عن عبدِ اللهِ بن عمرٍو -رضي الله عنه- قال: سمعت النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- يقول: "مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ". زاد التّرمذي وغيره: "وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ".
فالذي يصرعه العدوّ الإنسي شهيد، أمّا الذي يصرعه الشّيطان فهو طريد! (لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ) [الأعراف:18].
ومنها: أنّه يجري في عروق الإنسان كما يجري الدم، ليصل إلى قلبه، فقد روى البخاري ومسلم عن عليِّ بنِ الحسين -رضي الله عنهما- قال: كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فِي الْمَسْجِدِ وَعِنْدَهُ أَزْوَاجُهُ فَرُحْنَ، فَقَالَ لِصَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيٍّ: "لَا تَعْجَلِي حَتَّى أَنْصَرِفَ مَعَكِ"، فَخَرَجَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- مَعَهَا، فَلَقِيَهُ رَجُلَانِ مِنْ الْأَنْصَارِ، فَنَظَرَا إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- ثُمَّ أَجَازَا، وَقَالَ لَهُمَا النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "تَعَالَيَا! إِنَّهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ"، قَالَا: سُبْحَانَ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ: "إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنْ الْإِنْسَانِ مَجْرَى الدَّمِ، وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يُلْقِيَ فِي أَنْفُسِكُمَا شَيْئًا".
فعجيب أن نستمع إلى خطبة فيها تحذير من شيء هو الآن قريننا، يجري في عروقنا!.
هذه بعض صفات إبليس، الشّيطان الرّجيم، نسردها على مسامعكم؛ تذكيرا بخطره، وترهيبا من الانسياق في مكره وغدره، نسأل الله -تعالى- أن يعصمنا من همزه ونفثه ونفخه.
الخطبة الثّانية:
الحمد لله على إحسانه، وعلى جزيل نعمه وعظيم امتنانه، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له تعظيما لشانه، وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله الدّاعي إلى سبيله ورضوانه، اللّهم صلّ عليه وسلّم وبارك وزد عليه وعلى أصحابه وآله، وعلى كلّ من اتّبع أثره وسار على منواله.
أمّا بعد: أيّها الإخوة الكرام، أيّتها الأخوات الكريمات، فبعد أن سمعنا هذه الذّكرى بخطر عدوّ الله إبليس، نعلم جيّدا: لماذا أكثر الله -تعالى- من التّحذير منه؟ فيقول المولى -تبارك وتعالى-: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ) [فاطر:6]، وقال -جلّ جلاله-: (إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ) [لقمان:33]، وقال: (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً) [الكهف:50].
أخبار من الله -تعالى- نسوقها لمن كان حريصا على تتبّع الأخبار، وهو القائل: (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً) [النساء:122]، وهو القائل: (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً) [النساء:87].
أعظم مصيبة حدثت في الكون منذ أن خلقه الله -تعالى- خروج أبينا آدم وأمّنا حوّاء من الجنّة: عيشة طيّبة كريمة، وربّ غفور كريم: (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى) [طه:118-119].
ولكنّ الشّيطان أتى، أتى وعليه ثياب الحسد: (أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً) [الإسراء:62]..
أتى حاملا رماح الكبر والغيظ: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ) [البقرة:34].
أتى متقلّدا سيوف الأقيسة الفاسدة: (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) [الأعراف:12]، وتسلّح بالأيمان الكاذبة، والوعود الغائبة: (وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ * فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) [الأعراف:21-22].
وحدث الذي حدث: (وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ) [الأعراف:22].
وجاء العقاب من العزيز الوهّاب: (قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) [طه:123-124]..
هذا، ولا يزال الله -تبارك وتعالى- لعباده محذّرا، ولخلقه مذكّرا، فاستمعوا إليه وهو ينادينا من فوق سبع سماوات: (يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) [الأعراف:27].
وكان المفترض أن لا يُلدغ المؤمن من جحر مرّتين، ولكن للشّيطان جحورا وجحورا، له مداخل ومكايد، له حيل ومصايد، لا نجاة منها إلاّ بالاعتصام بكتاب الله وسنّة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
وما كانت هذه الخطبة إلاّ تمهيدا لبيان طرق الشّيطان المريد، في إضلال العبيد، وهي كثيرة جدّا، نحاول أن نبيّن ونضع أيدينا على أهمّها.
وأوّل مدخل من مداخله هو "الغفلة"، فقد جَعَلَنَا نغفل عنه وعن كيده، وكأنّه غير الذي كان، ولم تعُد تسمع التّحذير منه في كلّ مكان، حتّى إذا غفلت عنه غفلت عن مصايده ومكايده.
ولكلّ عصر داء، وداء العصر، وآفة اليوم: الغفلة، ولم يُعرف للغفلة انتشار كما عُرف هذه الأيّام.
والعجيب أنّه لو صعد طبيب، وأخبرنا بانتشار داء عصيب، وحذّرنا من داء قنّاص، ما لنا منه من مناص، لسارعنا جميعا إلى اتّخاذ الأسباب، وغلق جميع الأبواب، خشية أن يفتك بأرواحنا وأنفسنا؛ فكيف والدّاء الذي انتشر أشدّ خطرا، وأعظم قبحا وضررا؟ فإنّه يتعلّق بالقلوب، التي إن صلحت صلح الجسد كلّه، وإن فسدت فسد الجسد كلّه؟ ماذا تنتظر من قلب غافل ساه، لاعب لاه؟ ها هو ربّنا -سبحانه- يقول: (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ) [الأنبياء1-2].
أصدق القائلين، وأوثق المخبرين، يخبرنا أنّه قد اقترب الحساب، وكلّهم يعلم هذا ويستيقن من هذا، ولكنّهم في غفلة معرضون، فنستمع إلى القرآن فلا يهزّ قلوبنا، وننصت إلى المواعظ فلا تشفي صدورنا، بل ربّما ازددنا طغيانا على طغيان، وكفرانا بالنّعمة على كفران!.
كلّ المصايد والمكايد التي يستعملها الشّيطان إنّما يريد بها أن يصل إلى الملك، وهو: القلب! ولكنّ داء الغفلة أصاب القلب، فكيف وصل إبليس إلى الملك؟.
أعظم أسباب هذه الغفلة أمران لا بدّ من التّنبيه عليهما: أولهما انفتاح الدّنيا وانبساطها: فيوم كان الرّجل يعمل في أرضه بيديه، فيختلط الزّرع بدمه، والشّوك بشحمه، فقد كان يحمد الله على نعمه ويطيعه في أوامره؛ يوم كانت المرأة يذوب جسدها لكثرة تعبها، كانت مثال المرأة المسلمة، واليوم اغترّ المسلمون بهذا النّعيم الزّائل، والتمتّع الحائل، وصار الواحد منّا يقول: لو لم يكن الله راضيا عنّي ما أنعم عليّ بهذا الخير! ويجعل هذه النّعم دليلا على رضا الله عنه! ونسي المسكين أنّ الابتلاء بالنّعم أشدّ فتكا من الابتلاء بالنّقم! قال -تعالى- في النّقم: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ) [الأنعام:42]، وقال في النّعم: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ) [الأنعام:44].
وقد روى الإمام أحمد عن عقبةَ بن عامرٍ -رضي الله عنه- قال: "إِذَا رَأَيْتَ اللَّهَ يُعْطِي الْعَبْدَ مِنْ الدُّنْيَا عَلَى مَعَاصِيهِ مَا يُحِبُّ فَإِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاجٌ". والاستدراج: أن يأخذه شيئا فشيئا، كما تفعل بالطّائر تريد أن تصيده، تضع له الطّعام للفتك به، وهذا هو كيد الله بالظّالمين.
(فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ)، أي: أعرضوا عن أوامرنا وتكالبوا على معصيتنا، ماذا؟ خسفنا بهم الأرض؟ أغرقناهم؟ أرسلنا عليهم حاصبا؟ أخذتهم الصّيحة؟ ماذا إذن؟ (فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ)! هذا أوّل أسباب الغفلة التي شاعت وذاعت.
والسّبب الثّاني للغفلة: استصغار الذّنوب. فكم منّا من هو مقيم على معصية الله وسخطه، والله يستره بمنّه ورحمته، لا يفضحه ولا يهتك ستره، فعوضا من أن يحمد الله -تعالى- على ستره، ويقلع عن ذنبه، يظنّ الجاهل أنّ المعصية هينة حقيرة، ولو كانت كبيرة أو خطيرة لعجّل الله العقوبة في الدّنيا، ولفضحه على رؤوس الأشهاد! ونسي المسكين أنّ الله -تعالى- يستدرجه ويمهله حتّى يظنّ ما يظنّ، روى البخاري عن أبي موسى -رضي الله عنه- قال: قال رسول اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ" قَالَ: ثُمَّ قَرَأَ: (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ).
نسأل الله أن يُصلح قلوبنا، ويغفر ذنوبنا، ويستر عيوبنا، إنّه وليّ ذلك ومولاه، والحمد لله ربّ العالمين.