الآخر
(الآخِر) كلمة تدل على الترتيب، وهو اسمٌ من أسماء الله الحسنى،...
العربية
المؤلف | عبد الله اليابس |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الهدي والأضاحي والعقيقة - |
هذه الأيام والليالي.. معدودة محدودة.. ساعات قليلة.. الأجر فيها مضاعف.. والإثم فيها مضاعف.. العمل الصالح فيها يحبه الله أكثر من العمل الصالح في غيرها.. هذه الأيام من أيام الله.. يحبها الله.. فإذا كانت هذه الأيام من أيام الله.. أفلا تستحق أن تكون كلها لله؟! لنجعل هذه الأيام كاملة لله تعالى.. لله وحده.. لنحرص ألا نصيب فيها أية معصية إطلاقاً.. إطلاقًا..
الخطبة الأولى:
الحمد لله خالق البريِّات, عالم الخفيات, امتن على عباده بمواسم الطاعات, كرمضان والأعياد وعشر ذي الحجة المباركات, فأرشد فيها للطاعة والذكر, (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ) [الحج: 28].
أحمده سبحانه وتعالى عالم الجهر والسر, ومبصر أحوال الفاجر والبر, الذي أمر يوم العيد بالصلاة والذبح (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) [الكوثر: 2].
وصلى الله وسلم على عبده المصطفى, ورسوله المجتبى, وعلى آله وصحبه ومن بهداه اقتفى, وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
يا أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-.. يظلنا هذه الليلة شهر كريم.. شهر حرام.. (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) [التوبة: 36].
هذه الأشهر الحرم حرَّم الله تعالى فيها أن يظلم الإنسان نفسه.. ولا شك أن من أعظم الظلم للنفس ارتكاب المعاصي, قال ابن كثير -رحمه الله- في تفسيره: "(فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) أي في هذه الأشهر المحرمة، لأنها آكد، وأبلغ في الإثم من غيرها".
ومن أعظم أيام شهر ذي الحجة.. هذا الشهر الحرام.. من أعظم أيامه.. بل من أعظم أيام السنة كلها.. هذه الأيام العشر التي تبتدئ هذه الليلة.. العشر الأوائل من ذي الحجة.
أخرج أبو داوود في سننه وصححه الشيخ الألباني -رحمه الله- من حديث عبدالله بن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام" -يعني أيام العشر-, قالوا: يا رسول اللهِ ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: "ولا الجهاد في سبيل الله؛ إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء".
ألا يا باغي الخيرات أقْبِل | إلى ذي الحِجَّة الشهر الحرام |
بهِ العشر الأوائل حين هلَّت | أحبَّ الله خيرًا للأنام |
بها النفحاتُ من فيضٍ ونورٍ | وعرفاتٍ فَشَمِّرْ للصيام |
أيام عظيمة.. يَفضُلُ العمل الصالح فيها كل عمل صالح في غيرها.. إلا الحال التي ذكرها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: رجل خرج مجاهدًا في سبيل الله فقتل شهيدًا في سبيله وذهب ماله في سبيل الله.
قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله- في الفتح: "والذي يظهر أن السبب في امتياز عشر ذي الحجة لمكان اجتماع أمهات العبادة فيها، وهي الصلاة والصيام والصدقة والحج، ولا يتأتى ذلك في غيره".
أيها الأخ الحبيب.. كم مرت بك من أيام عشر ذي الحجة فيما مضى من سنون؟ كيف كان حالك معها؟
هل تعلم.. أن هذه العشر التي بين يديك خير من أيام رمضان كلها؟ خير من أيام رمضان بما فيها العشر الأواخر.. وليالي العشر خير من ليالي رمضان كلها بما فيها العشر الأواخر عدا ليلة القدر.. عند بعض أهل العلم..
ألم تقرأ قول الله تبارك وتعالى مُقسِماً بهذه الليالي: (وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ) [الفجر: 1- 2], قال ابن كثير -رحمه الله-: "وَاللَّيَالِي الْعَشْرُ: الْمُرَادُ بِهَا عَشَرُ ذِي الْحِجَّةِ. كَمَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ، وَمُجَاهِدٌ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ".
هذه الأيام والليالي.. معدودة محدودة.. ساعات قليلة.. الأجر فيها مضاعف.. والإثم فيها مضاعف.. العمل الصالح فيها يحبه الله أكثر من العمل الصالح في غيرها..
هذه الأيام من أيام الله.. يحبها الله.. فإذا كانت هذه الأيام من أيام الله.. أفلا تستحق أن تكون كلها لله؟!
لنجعل هذه الأيام كاملة لله تعالى.. لله وحده.. لنحرص ألا نصيب فيها أية معصية إطلاقاً.. إطلاقًا.. نعم يجب أن لا نرتكب فيها أية معصية.. أية معصية.. المعصية محرمة في العشر وفي غيرها.. لكنها فيها إثمها مضاعف..
فلنحرص أن نلقى الله غدًا وصحيفتنا خلال هذه الأيام الفاضلة خالية تماماً من أية معصية.. وهي فرصة لأن يقلع الإنسان عن كثير من المعاصي التي أدمن عليها.. وفرصة أن يُطهِّر الإنسان نفسه من المعاصي, ويعيشَ ويأنسَ بالقرب من ربه تبارك وتعالى.
ثم لنحرصْ خلال هذه الأيام العشر على استغلال كل لحظة فيها.. لنعمر أيامها بالصيام.. فالصيام من أجل القربات والطاعات التي يُتقرب بها إلى المولى تبارك وتعالى, أخرج ابن ماجه وغيره والحديث صحيح عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من صامَ يومًا في سبيلِ اللَّهِ باعدَ اللَّهُ بذلِكَ اليومِ النَّارَ من وجْهِهِ سبعينَ خريفًا".
احرص على الإكثار من ذكر الله.. أكثر من التسبيح والتحميد والتكبير والتهليل في هذه العشر, روى ابن حجر العسقلاني عن ابن عمر -رضي الله عنهما- والحديث حسن أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما من أيامٍ أعظمُ عند اللهِ ولا أحبُّ إليه العملُ فيهنَّ من أيامِ عشرِ ذي الحجةِ, أو قال هذه الأيامِ , فأكثروا فيهنَّ من التسبيحِ والتكبيرِ والتحميدِ والتهليلِ".
لا تجعلْ لسانك يتوقف عن ذكر الله -تبارك وتعالى- خلال هذه الأيام العشر, اجعله رطبًا بذكر الله تعالى, كان ابن عمر وأبو هريرة -رضي الله عنهما- يخرجان إلى السوق فيكبران، فيكبر الناس بتكبيرهما، وكانت الناس تضج مجالسهم بالتكبير.. النساء في البيوت والرجال في الأعمال، الكل يكبر ويذكر الله تعالى، (اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا), (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ).
كَبّر رجل أيام العشر فقال مجاهد: "أفلا رفع صوته؛ فلقد أدركتهم وإن الرجل ليكبر في المسجد فيرتج بها أهل المسجد، ثم يخرج الصوت إلى أهل الوادي حتى يبلغ الأبطح فيرتج بها أهل الأبطح وإنما أصلها من رجل واحد".
أكثروا من الصالحات.. من التبكير للصلوات.. وتتبع الجنائز.. والصدقة.. لنكثر من قراءة القرآن.. فإنها من أجل الأعمال.. لا تمرنَّ علينا هذه الأيام دون ختمة أو أكثر.. أرأيت حرص الناس على ختم القرآن في رمضان.. فلماذا يقل الحرص خلال هذه الأيام والعمل الصالح فيها أحب إلى الله منه في رمضان..
كان السلف -رحمهم الله- يعظِّمون هذه العشر فلا يُحْدِثُونَ فيها ذنباً ولا إثماً حتى في ذكر الحديث الضعيف أو الحديث الذي فيه خطأ: ذكر البرذعي في سؤالاته لأبي زُرعة الرازي قال: سألت أبا زرعة في عَشْرِ ذي الحجة، عن حديث ابن أبي هالة في صفة النبي -صلى الله عليه وسلم- ، فأبى أن يقرأه علي، وقال لي: فيه كلامٌ أخاف أن لا يصحّ، فلما ألححت عليه، قال: فأخِّرْه حتى تَخْرُجَ العَشْرُ، فإني أكره أن أُحَدِّثَ بمثل هذا في العَشْر.
وكان الحافظ ابن عساكر يعتكف في شهر رمضان وعشر ذي الحجة.
فلنلزم المساجد.. ولنقبل على الله -تبارك وتعالى-.. لنحيي ليلنا ونهارنا بطاعة الله وعبادته.. لنهجر المعاصي.. لنجعل هذه الأيام كما هي أيامُ الله.. لنجعلها أياماً لله..
يا مدرك العشر قد أدركت مكرمة | تترا فضائلها كالمزن مهطولاً |
فاخطب مآثرها الحَسنا بمهر تقى | ولا تكن عن بنات الحُسن مشغولاً |
وجِدَّ في السير للعلياء مقتفياً | قومًا كرامًا وأسيادًا بهاليلا |
وَرَوِّ نفسك خير الزاد إن غدًا | تلقى ثوابك عند الله مكفولاً |
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم, ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم, قد قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ وراقبوه في السر والنجوى, واعلموا أن أجسادنا على النار لا تقوى .
فيا أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-.. من أَجَلِّ أعمال العشر الأولى من ذي الحجة عمل كان يحرص عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-, وكان يحث عليه, هو من سنن المرسلين, واقتداء بأبينا إبراهيم, ألا وهو: التقرب إلى الله تعالى بذبح الأضاحي.
ثبت في الصحيحين من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- ضحَّى بكبشَينِ أملحَينِ، قال -رضي الله عنه-: فرأيتُه واضعًا قدمَه على صفاحِهما، يسمِّي ويكبِّرُ، فذبَحهما بيدِه.
وروى الترمذي وابن ماجه وصححه الألباني عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما عَمِلَ ابنُ آدمَ يومَ النحر أحبَّ إلى الله من إهراق الدم، وإنه ليؤتى يوم القيامة بقرونها وأشعارها وأظلافِها، وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع بالأرض، فطيبوا بها نفسًا".
والأضحية سنة مؤكدة كما ذهب لذلك الجمهور من الصحابة والتابعين والفقهاء، وقال بوجوبها: أبو حنيفة -رحمه الله-.
وأخرج الشيخ الألباني وصححه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من وجدَ سَعةً فلم يضحِّ؛ فلا يقربنَّ مُصلَّانا".
والأضحية سنة للرجل عنه وعن أهل بيته, فتكفي شاة واحدة عن أهل الدار جميعاً, روى ابن ماجه والترمذي وصححه: أن أبا أيوب -رضي الله عنه- قال: "كان الرجل في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته, فيأكلون ويُطعِمون, حتى تباهى الناس فصار ما ترى".
أيها الإخوة.. الأضحية مستحبة مرة واحدة في العام, وأَنْفَسُ الأضاحي عند الله ما كانت نفيسة عند الناس.
ومن العجب تقاعس كثير من الناس عن ذبح الأضاحي, وتركهم هذه السنة بحجة غلاء أسعار المواشي, بينما لا يتوانون عن صرف المبالغ في أمور من كماليات الكماليات, والأعجب أن أحدهم لا يتردد عن ذبح الشياه حال قدوم ضيف أو عزيز بغية إكرامه بينما يبخل عن إكرام نفسه عند الله بذبح الأضحية.
والأفضل أن يذبح الإنسان الأضحية في مكان إقامته فيأكلَ منها ويهدي ويتصدق, ومن لم يستطع أن يذبح في البلاد لعدم قدرته على ثمنها فلا أقل من أن يذبح خارج المملكة بسعر أقل.
ومن عزم على الأضحية فلا يأخذ من شعره ولا أظفاره ولا بشرته شيئاً اعتبارًا من مغيب شمس هذا اليوم, روت أم سلمة -رضي الله عنها- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا دخل العشرُ وأراد أحدُكم أن يُضحيَ، فلا يمسَّ من شعرِه، ولا من بشَرِه شيئًا", والحكم هذا متعلق بالمضحي فقط ولا يتجاوزه إلى من يضحي عنهم من أهل بيته.
تقبل الله من الجميع, وجعلنا من السابقين بالخيرات بإذن الله, ووفقنا جميعنا لحسن اغتنام هذه العشر المباركة, إنه سميع قريب مجيب.
يا أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-.. اعلموا أن الله تعالى قد أمرنا بالصلاة على نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- وجعل للصلاة عليه في هذا اليوم والإكثار منها مزية على غيره من الأيام, فاللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.