المليك
كلمة (المَليك) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعيل) بمعنى (فاعل)...
العربية
المؤلف | عبد الله بن محمد البصري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الحديث الشريف وعلومه - نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
تَأكِيدًا لِمَا تَقَدَّمَ الحَدِيثُ عَنهُ مِن حُكمِ عَمَلِ المَرأَةِ في الوِلايَاتِ العَامَّةِ وَتَمكِينِهَا مِنَ المَنَاصِبِ الكُبرَى في الدَّولَةِ، فَإِنَّهُ يَحسُنُ تَذكِيرُ المُؤمِنِينَ مُجَدَّدًا بِقَولِ نَبِيِّهِم -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- فِيمَا رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَغَيرُهُ: "لَن يُفلِحَ قَومٌ وَلَّوا أَمرَهُمُ امرَأَةً".
الخطبة الأولى:
أَمَّا بَعدُ: فَأُوصِيكُم -أَيُّهَا النَّاسُ- وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [الأنفال:29].
أَيُّهَا المُسلِمُونَ: تَأكِيدًا لِمَا تَقَدَّمَ الحَدِيثُ عَنهُ مِن حُكمِ عَمَلِ المَرأَةِ في الوِلايَاتِ العَامَّةِ وَتَمكِينِهَا مِنَ المَنَاصِبِ الكُبرَى في الدَّولَةِ، فَإِنَّهُ يَحسُنُ تَذكِيرُ المُؤمِنِينَ مُجَدَّدًا بِقَولِ نَبِيِّهِم -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- فِيمَا رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَغَيرُهُ: "لَن يُفلِحَ قَومٌ وَلَّوا أَمرَهُمُ امرَأَةً".
هَكَذَا قَالَ أَعلَمُ النَّاسِ بِاللهِ، وَأَفقَهُهُم، وَأَتقَاهُم لِرَبِّهِ، وَأَخشَاهُم لَهُ: "لَن يُفلِحَ قَومٌ وَلَّوا أَمرَهُمُ امرَأَةً"، وَلَفظُ أَحمَدَ في المُسنَدِ "لا يُفلِحُ قَومٌ تَملِكُهُمُ امرَأَةٌ"، وَفي لَفظٍ آخَرَ: "مَا أَفلَحَ قَومٌ يَلِي أَمرَهُمُ امرَأَةٌ".
وَهَذَا الحَدِيثُ، وَإِن كَانَ قَالَهُ المُصطَفَى -عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ- لَمَّا وَلَّى الفُرسُ أَمرَهُمُ ابنَةَ مَلِكِهِم كِسرَى، فَإِنَّ العِبرَةَ فِيهِ بِعُمُومِ لَفظِهِ وَلَيسَ بِخُصُوصِ سَبَبِهِ الَّذِي قِيلَ فِيهِ، كَيفَ وَالتَّأرِيخُ يُثبِتُ حَقِيقَةَ نَفيِ الفَلاحِ عَمَّن وَلَّوا أَمرَهُمُ امرَأَةً، وَالوَاقِعُ يُصَدِّقُهُ قَرِيبًا وَبَعِيدًا؟.
وَإِنَّ قَومًا تَضعُفُ هِمَمُهُم وَيَستَوطِنُ الوَهَنُ صُدُورَهُمُ، وَرِجَالاً تَخُورُ مِنهُمُ القُوَى وَتَنحَطُّ العَزَائِمُ، حَتى يَعُودُوا غَيرَ قَادِرِينَ عَلَى حَملِ أَعبَاءِ المَسؤُولِيَّةِ بِأَنفُسِهِم، وَيَعجَزُونَ عَنِ النُّهُوضِ بِدُوَلِهِم وَمُجتَمَعَاتِهِم عَلَى سَوَاعِدِهِم المَفتُولَةِ وَبِعُقُولِهِم الأَكمَلِ، ثم يُوكِلُونَ ذَلِكَ إِلى النِّسَاءِ الضَّعِيفَاتِ لِيُصبِحنَ قَائِدَاتٍ سَائِدَاتٍ، إِنَّ حَالَهُم لَيسَت مِنَ الفَلاحِ في شَيءٍ، وَإِنَّمَا هُم بِالانحِطَاطِ الخُلُقِيِّ وَفَسَادِ القُلُوبِ أَولى، وَإِلى الخَسَارَةِ الدُّنيَوِيَّةِ وَالأُخرَوِيَّةِ أَقرَبُ.
وَإِنَّ المَرأَةَ بِطَبِيعَتِهَا وَخِلقَتِهَا لا يُمكِنُ أَن تَكُونَ أَعلَى مِنَ الرَّجُلِ هِمَّةً، وَلا أَقوَى عَزِيمَةً، وَلا أَسرَعَ إِلى بَذلِ وَقتٍ أَو نَفسٍ أَو مَالٍ لِمَصلَحَةٍ، أَو أَولى بِالعَمَلِ خَارِجَ البَيتِ، إِلاَّ حِينَ يَكُونُ في الرَّجُلِ خَلَلٌ كَبِيرٌ، إِمَّا أَن يَكُونَ مُعَاقًا مُقعَدًا، أَو مُصَابًا في عَقلِهِ مَعتُوهًا، أَو فَاقِدًا لأَهلِيَّتِهِ مَجنُونًا، أَو شَحِيحًا بَخِيلاً لا يَفِي بِنَفَقَةٍ، أَو ضَعِيفَ إِرَادَةٍ جَبَانًا، أَو قَد أَفسَدَتهُ الشَّهَوَاتُ وَقَضَت عَلَى مَا فِيهِ مِن بَقِيَّةِ رَجُولَةٍ.
وَحِينَ جَاءَت لَفظَةُ "قَومٌ" في الحَدِيثِ في سِيَاقِ النَّفيِ نَكِرَةً غَيرَ مُعَرَّفَةٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عِندَ أَهلِ العِلمِ المُتَفَقِّهِينَ، الَّذِينَ يَعلَمُونَ مَعَانيَ كَلامِ اللهِ وَكَلامِ رَسُولِهِ، عَلَى أَنَّ الأَمرَ يَعُمُّ كُلَّ قَومٍ فَعَلُوا هَذَا الفِعلَ أَو رَضُوا بِهِ، وَلا يَخُصُّ قَومًا بِأَعيَانِهِم، وَمِن ثَمَّ فَإِنَّ أَيَّ قَومٍ يُوَلُّونَ أَمرَهُمُ امرَأَةً فَلَيسُوا بِمُفلِحِينَ وَلا فَائِزِينَ، بَل هُم خَاسِرُونَ مَنهَزِمُونَ، سَوَاء مُسلِمِينَ كَانُوا أَو كُفَّارًا، أَو عَرَبًا أَو عَجَمًا، أَو شَرقِيِّينَ أَو غَربِيِّينَ، أَو في الزَّمَنِ المَاضِي أَوِ الحَاضِرِ.
وَالسَّبَبُ في ذَلِكَ وَالسِّرُّ الَّذِي قَد لا يَتَفَطَّنُ لَهُ إِلاَّ ذَوُو البَصَائِرِ وَالعُقُولِ، أَنَّ المَرأَةَ لا يُمكِنُ أَن تَصِلَ يَومًا إِلى مَركَزٍ مُتَقَدِّمٍ في الوِلايَةِ في مُجتَمَعٍ مَا، إِلّا عَلَى قَدرِ مَا يَشتَدُّ فِيهِ ضَعفُ الرِّجَالِ وَتَخَلِّيهِم عَن مَهَامِّهِم وَتَفرِيطِهِم في وَاجِبَاتِهِم، وَفَقدِهِمُ العِزَّةَ وَرِضَاهُم بِالخُنُوعِ وَالذِّلَّةِ، وَإِلّا فَإِنَّ صَاحِبَ الوِلايَةِ العَامَّةِ مَلِكًا كَانَ أَو رَئِيسًا، لا يَرضَى أَن يُنَازِعَهُ في مُلكِهِ رَجُلٌ، وَلا أَن يَعزِلَهُ وَيُنَصِّبَ نَفسَهُ مَكَانَهُ، فَكَيفَ يَرضَاهُ لامرَأَةٍ ضَعِيفَةٍ؟!.
إِنَّ أَيَّ مُجتَمَعٍ عَلَى فِطَرَةِ اللهِ الَّتي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيهَا، يَعرِفُ أَنْ لا تَبدِيلَ لِخَلقِ اللهِ، وَلا يَشُكُّ أَنَّ المَرأَةَ خُلِقَت لِرِعَايَةِ شُؤُونِ البَيتِ وَالقِيَامِ بِأُمُورِ زَوجِهَا وَتَربِيَةِ أَبنَائِهَا، وَأَنَّ لها مَهَامَّ تَخُصُّهَا وِلِلرَّجُلِ مَهَامَّ تَخُصُّهُ، وَأَنَّهُ لا نُزُوعَ مِن عَاقِلٍ مِن أَيٍّ مِنَ الجِنسَينِ لِعَمَلِ الآخَرِ أَو تَمَنِّياً لِمَكَانِهِ، وَأَنَّهُ لا تَضَادَّ بَينَهُمَا وَلا عِدَاءَ وَلا انتِقَاصَ لِخِلقَةٍ، وَإِنَّمَا هُوَ التَّكَامُلُ بَينَهُمَا، وَالتَّعَاوُنُ المُثمِرُ، هِيَ دَاخِلَ البَيتِ وَمِن حَولِهِ وَقَريبًا مِنهُ، لِمَهَامَّ لا يَصلُحُ لها الرَّجُلُ وَلا يَصبِرُ عَلَيهَا، بَل وَقَد لا يَتَمَكَّنُ مِن بَعضِهَا، وَهُوَ خَارِجَ البَيتِ لِمَهَامَّ أُخرَى لا تَصلُحُ لها المَرأَةُ وَلا تُطِيقُهَا.
هَكَذَا اقتَضَتِ الفِطرَةُ، وَهَكَذَا خَلَقَ اللهُ الزَّوجَينِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى، وَهَكَذَا نَهَاهُم عَن تَمَنِّي بَعضِهِم مَا لِلآخَرِ، فَقَالَ : (وَلا تَتَمَنَّوا مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعضَكُم عَلَى بَعضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكتَسَبْنَ وَاسأَلُوا اللهَ مِن فَضلِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيمًا) [النساء:32].
وَهَذَا نَصٌّ عَامٌّ في النَّهيِ عَن تَمَنِّي مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ الرِّجَالَ عَلَى النِّسَاءِ أَوِ العَكسِ، وَهُوَ شَامِلٌ لِكُلِّ أَنوَاعِ التَّفضِيلِ، في الوَظِيفَةِ وَالمَكَانَةِ، وَفي الاستِعدَادَاتِ وَالمَوَاهِبِ، وَفي المَالِ وَالمَتَاعِ، وَفي كُلِّ مَا تَتَفَاوَتُ فِيهِ الأَنصِبَةُ في هَذِهِ الحَيَاةِ، وَمِن ثَمَّ فَإِنَّ المَطلُوبَ هُوَ التَّوَجُّهُ إِلى اللهِ -تعالى- وَسُؤَالُهُ مِن فَضلِهِ مُبَاشَرَةً وَبِلا تَرَدُّدٍ، بَدَلاً مِن إِضَاعَةِ الأَوقَاتِ وَإِذهَابِ النَّفسِ حَسَرَاتٍ في التَّطَلُّعِ إِلى التَّفَاوُتِ بَينَ الجِنسَينِ، والاستِسلامِ لِمَا يُصَاحِبُ ذَلِكَ مِن شُعُورٍ بِالحَسَدِ، وَامتِلاءٍ بِالحِقدِ، أَو شُعُورٍ بِالضَّيَاعِ وَالحِرمَانِ، وَكُلُّ هَذَا مِن سُوءِ الظَّنِّ بِاللهِ وَسُوءِ الظَّنِّ بِعَدَالَتِهِ في التَّوزِيعِ.
وَهُنَالِكَ تَحُلُّ بِالأُمَمِ القَاصِمَةُ الَّتي تَذهَبُ بِطُمَأنِينَةِ النُّفُوسِ وَتُورِثُهَا القَلَقَ وَالنَّكَدَ، وَتَستَهلِكُ طَاقَاتِها في اتِّجَاهَاتٍ خَبِيثَةٍ وَتَشغَلُهَا بِأَفكَارٍ قَبِيحَةٍ، وَبَينَمَا كَانَ وَاجِبَهَا التَّوَجُّهُ مُبَاشَرَةً إِلى صَاحِبِ الإِنعَامِ وَمَالِكِ العَطَاءِ، الَّذِي لا يَنقُصُ مَا عِندَهُ بما أَعطَى، وَلا يَضِيقُ عَطَاؤُهُ بِالسَّائِلِينَ المُتَزَاحِمِينَ مَهمَا كَثُرُوا، وَالرِّضَا بِمَا جَعَلَهُ مِن تَنظِيمِ العِلاقَةِ بَينَ شَطرَيِ النَّفسِ البَشَرِيَّةِ، وَتَركُ كُلِّ جِنسٍ يَتَمَتَّعُ بما أُعطِيَ وَيَعمَلُ فِيمَا خُلِقَ لَهُ، وَالعِلمُ أَنَّ الحَيَاةَ لا تَسِيرُ إِلاَّ بِالتَّكَامُلِ بَينَ الجِنسَينِ، وَإِذَا بِهَا تُحَاوِلُ أَن تَفتَحَ بَعضَ المُجتَمَعِ عَلَى بَعضٍ بِلا ضَوَابِطَ، وَتَترُكَهُ يَمُوجُ بَعضُهُ في بَعضٍ بِلا حُدُودٍ وَلا قُيُودٍ.
وَإِذْ ذَاكَ؛ يَبتَعِدُ الجَمِيعُ عَن فِطرَةِ اللهِ الَّتي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيهَا، فَيَذهَبُ الرِّجَالُ عَن مَوَاقِعِ المَسؤُولِيَّةِ بَعِيدًا، وَتُفَرِّطُ النِّسَاءُ في وَاجِبَاتِهِنَّ المَنزِلِيَّةِ التَّربَوِيَّةِ، وَتُوجَدُ المَرأَةُ بِجَنبِ الرَّجُلِ في المَصنَعِ أَوِ المَتجَرِ أوِ المَكتَبِ، وَتَسِيرُ مَعَهُ وَحِيدَةً في الشَّارِعِ وَعَلَى الطَّرِيقِ، وَتَقُودُ بِمَشَقَّةٍ شَاحِنَةً كَبِيرَةً، أَو تَحمِلُ بِصُعُوبَةٍ حِجَارَةً ثَقِيلَةً، أَو تُعَامِلُ الحَدِيدَ الصَّلبَ وَهِيَ الرَّقِيقَةُ الشُّعُورِ المُرهَفَةُ الإِحسَاسِ، وَهِيَ في كُلِّ هَذَا بَينَ هَمِّ العَمَلِ الجَدِيدِ الَّذِي بُلِيَت بِهِ وَخُدِعَت بِهِ، وَالشَّوقِ إِلى العَمَلِ الأَصلِيِّ الفِطرِيِّ الَّذِي تَرَكَتهُ وَقَلبُهَا يَتَقَطَّعُ عَلَيهِ أَسًى وَحُزنًا، وَلَكِنْ؛ مَاذَا تَفعَلُ وَقَد جَرَفَهَا السَّيلُ؟!.
إِنَّ تَركَ الرَّجُلِ عَمَلَهُ الَّذِي خُلِقَ لَهُ، وَتَفرِيطَ المَرأَةِ في الرِّسَالَةِ الَّتي هُيِّئَت لَهَا، إِنَّهُ لَمِنَ الشَّقَاءِ وَالخَسَارَةِ، وَالمُسَاهَمَةِ القَوِيَّةِ مِن كُلٍّ مِنهُمَا في تَأَخُّرِ المُجتَمَعِ وَتَقَهقُرِهِ، وَالعَمَلِ عَلَى انهِيَارِهِ ثم اندِثَارِهِ، وَهَا هِيَ جَمِيعُ الدُّوَلِ الَّتي سَادَت فِيهَا النِّسَاءُ وَتَوَلَّينَ القِيَادَةَ، سَوَاء في دُوَلِ الكُفرِ أَو حَتى بَعضِ الدُّوَلِ العَرَبِيَّةِ وَالإِسلامِيَّةِ، هَا هِيَ قَد أَصَابَهَا تَفَكُّكُ الرَّوَابِطِ الأُسْرِيَّةِ، وَانفَرَطَ فِيهَا عِقدُ العِلاقَاتِ الاجتِمَاعِيَّةِ، وَهَا هِيَ المَرأَةُ النَّصرَانِيَّةُ لَمَّا تَخَلَّت عَن مَهَامِّ بَيتِهَا بِالكُلِّيَّةِ، هَا هِيَ قَد تَاهَت في صَحَرَاءِ العِلاقَاتِ المُحَرَّمَةِ، وَتَلَطَّخَت بِرِجسِ الصَّدَاقَاتِ الآثِمَةِ، وَلم تَنفَعْهَا شَهَادَةٌ في إِصلاحِ مُجتَمَعَاتِهَا، وَلم يَحمِهَا مَنصِبٌ مِنِ اعتِدَاءِ الرِّجَالِ عَلَيهَا وَقَتلِ شَرَفِهَا، وَأَنىَّ لها أَن تَنفَعَ مُجتَمَعًا أَو تَشعُرَ بِأَمنٍ وَقَد تَخَلَّت عَن مُهِمَّتِهَا وَتَرَكتَهَا فَارِغَةً تَمَامًا؟!.
وَمِن ثَمَّ فَإِنَّ أَيَّ قَومٍ -وَلَو كَانُوا مُسلِمِينَ- تَتَوَلىَّ أَمرَهُمُ امرَأَةٌ تَخَلَّت عَن وَظِيفَتِهَا الأَسَاسِيَّةِ، فَلا بُدَّ لهم مِنَ الوُلُوجِ في أَنفَاقٍ مِنَ الفَسَادِ مُظلِمَةٍ، وَالسَّيرِ في سَرَادِيبَ مُلتَوِيَةٍ غَيرِ آمِنَةٍ، وَوَاللهِ! لَن يَجِدُوا إِلاَّ تَزَعزُعَ الأُسَرِ وَتَقَطُّعَ الأَوَاصِرِ وَضَعفَ العِلاقَاتِ، وَأَنىَّ لمِجُتَمَعٍ خَرَجَ عَنِ الفِطرَةِ وَصَارَ كُلُّ فَردٍ يَهِيمُ فِيهِ عَلَى وَجهِهِ، بِلا أُسَرٍ تَرعَى نِسَاءَهُ، وَلا آبَاءٍ يَكفُلُونَ صِغَارَهُ، وَلا أَبنَاءٍ يَحمِلُونَ كِبَارَهُ، أَنىَّ لَهُ أَن يَذُوقَ لِلفَلاحِ طَعمًا؟!.
وَأَمَّا قَولُهُ -عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ-: "وَلَّوا أَمرَهُم" فَهُوَ يَشمَلُ الطَّرِيقَةَ الَّتي وُلِّيَت بها تِلكَ المَرأَةُ، وَطَبِيعَةَ الصَّلاحِيَّةِ المَمنُوحَةِ لها، فَسَوَاءٌ مُطلَقَةً كَانَت أَو مُقَيَّدَةً، أَو حَصَلَت عَن طَرِيقِ التَّعيِينِ أَوِ الانتِخَابِ، فَاللَّفظُ شَامِلٌ لِكُلِّ هَذَا، وَمَا حَرَّمَهُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَنَهَيَا عَنهُ وَبَيَّنَا مَفسَدَتَهُ، فَسَيَبقَى مُحَرَّمًا فَاسِدًا، وَلَن يُغَيِّرَهُ تَغَيُّرُ الزَّمَانِ أَو تَبَدُّلُ المَكَانِ، أَو يُصَحِّحُهَ أَن رَأَتهُ مَجمُوعَةٌ كَبِيرَةٌ وَارتَضَتهُ، بَل حَتى وَلَو رَآهُ النَّاسُ أَجمَعُونَ صَحِيحًا مُفِيدًا، فَلَن تُغَيِّرَ نَظرَتُهُمُ النَّاقِصَةُ الحَقَائِقَ، وَلَن تَقلِبَ المَفَاسِدَ إِلى مَصَالِحَ، وَاللهُ قَد أَكمَلَ لِعِبَادِهِ الدِّينَ، وَأَتَمَّ بِهِ عَلَيهِمُ النِّعمَةَ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ: إِنَّ الَّذِينَ دَعَوا -وَمَا زَالُوا يَدعُونَ- إِلى تَولِيَةِ المَرأَةِ الوِلايَاتِ العُظمَى كَرِئَاسَاتِ الدُّوَلِ، أَوِ الوِلايَاتِ العَامَّةِ كَرِئَاسَةِ الوِزَارَاتِ، أَو تَوَلي القَضَاءِ، أَوِ المُشَارَكَةِ في المَجَالِسِ الكَبِيرَةِ كَالشُّورَى وَالصَّغِيرَةِ كَالبَلَدِيَّاِت، إِنَّمَا هُمُ العِلمَانِيُّونَ أَفرَادًا وَمُؤَسَّسَاتٍ، وَهَدَفُهُم في ذَلِكَ ظَاهِرٌ وَمَعرُوفٌ، وَمَنهَجُهُم مَكشُوفٌ مَفضُوحٌ، فَهُم يُرِيدُونَ كَسرَ حُصُونِ الخُصُوصِيَّةِ الَّتي تَتَمَتَّعُ بها المَرأَةُ في المُجتَمَعَاتِ المُحَافِظَةِ وَلا سِيَّمَا مُجتَمَعَاتِ المُسلِمِين، إِنَّهُم لا يُرِيدُونَ حُرِيَّةَ المَرأَةِ كَمَا يَزعُمُونَ، وَلا تَحرِيرَهَا مِنَ الكَبتِ وَتَسَلُّطِ الرَّجُلِ الَّذِي يَدَّعُونَ، وَإِنَّمَا يُرِيدُونَ حُرِّيَّةَ الوُصُولِ إِلَيهَا وَالتَّمَتُّعَ بها كَمَا يَشَاؤُونَ، وَفَتحَ الأَبوَابِ عَلَى مَصَارِيعِهَا لِجَعلِهَا أُلعُوبَةً في أَيدِيهِم، يَتَسَلَّطُون عَلَيهَا هُم، وَيُشبِعُون مِنهَا رَغَبَاتِهِم وَيَقضُون شَهَوَاتِهِم.
وَيَقِفُ وَرَاءَ تِلكَ الدَّعَوَاتِ الآثِمَةِ المُجرِمَةِ قُوًى عَالَمِيَّةٌ ممَّن يَحسدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضلِهِ، وَتَرَاهُم يُمَارِسُونَ ذَلِكَ في اتِّجَاهَينِ: إِمَّا بِالضَّغطِ السِّيَاسِيِّ عَلَى الأَنظِمَةِ الحَاكِمَةِ لاستِصدَارِ تَشرِيعَاتٍ تُتِيحُ لِلمَرأَةِ تَوَليّ الوِلايَاتِ العَامَّةِ، وَإِمَّا بِتَسخِيرِ الإِعلامِ بِكُلِّ وَسَائِلِهِ وَعَلَى جَمِيعِ مُستَوَيَاتِهِ المَحَلِّيَّةِ وَالإِقلِيمِيَّةِ وَالعَالَمِيَّةِ لِلوُصُولِ إِلى هَذَا الغَرَضِ الدَّنيءِ.
أَلا فَلْنَتَّقِ اللهَ أَيُّهَا المُسلِمُونَ، وَلْنَكُنْ عَلَى بَيِّنَةٍ ممَّا يَجرِي، وَلْنَأخُذِ الحَذَرَ ممَّا يُرَادُ بِنَا.
أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ: (وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَقَالُوا لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) [البقرة:109-112].
الخطبة الثانية:
أَمَّا بَعدُ: فَاتَّقُوا اللهَ -تعالى- كَمَا أَمَرَكُم يُنجِزْ لَكُم مَا وَعَدَكُم؛ (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) [الطلاق:2-3].
أَيُّهَا المُسلِمُونَ: لَقَد نَصَّ العُلَمَاءُ عِندَ حَدِيثِهِم عَنِ السِّيَاسَةِ الشَّرعِيَّةِ لِلدَّولَةِ الإِسلامِيَّةِ، عَلَى أَنَّ مَن يَتَوَلىَّ الوِلايَاتِ العَامَّةَ، وَخَاصَّةً الوِلايَةَ العُظمَى، لا بُدَّ أَن يَكُونَ مِن أَهلِ الجِهَادِ، الَّذِينَ يَقوَونَ عَلَى مُجَاهَدَةِ أَعدَاءِ الإِسلامِ في الدَّاخِلِ وَالخَارِجِ، وَأَن يُبَاشِرَ بِنَفسِهِ الأُمُورَ وَيَتَفَقَّدَ الأَحوَالَ، وَيَتَوَلى سِيَاسَةَ الأُمَّةِ وَحِرَاسَةَ المِلَّةِ، وَهِيَ الأُمُورُ العَظِيمَةُ وَالمَهَامُّ الجَسِيمَةُ الَّتي لا تَستَطِيعُ المَرأَةُ الاضطِلاعَ بها؛ لِضَعفِ بَدَنِهَا وَشِدَّةِ تَأَثُّرِهَا العَاطِفِيِّ، وَتَخَوُّفِهَا مِن مُوَاجَهَةِ الأَزَمَاتِ وَتَقَهقُرِهَا عَن تَحَمُّلِ وَقعِ الصَّدَمَاتِ.
وَإِنَّمَا الرِّجَالُ هُم أَهلُ الجِهَادِ وَالقِيَادَةِ، لِمَا لهم مِن خِبرَةٍ عَسكَرِيَّةٍ، وَعُقُولٍ رَاجِحَةٍ نَقِيَّةٍ، وَقُلُوبٍ صَامِدَةٍ قَوِيَّةٍ، وَدَهَاءٍ وَحِكمَةٍ وَرَوِيَّةٍ، وَقَدِ اتَّفَقَ أَصحَابُ العُقُولِ السَّوِيَّةِ، أَنَّ المَرأَةَ لَيسَت لِذَلِكَ أَهلاً، لا خِلقَةً وِلا خُلُقًا؛ إِذْ لا شَجَاعَةَ لَدَيهَا، وَلا قُدرَةَ عَلَى نَجدَةٍ، وَلا تَحَمُّلَ لِجِهَادِ عَدُوٍّ ولا مُقَاوَمَةِ مُتَرَبِّصٍ، يُضَافُ إِلى ذَلِكَ مَا يَطرَأُ عَلَيهَا مِن عَوَارِضَ خِلقِيَّةٍ، كَالحَيضِ وَالحَملِ وَالنِّفَاسِ، وَهِيَ الأُمُورُ الَّتي لا تَستَطِيعُ بِسَبَبِهَا مُبَاشَرَةَ أُمُورِهَا الشَّخصِيَّةِ وَلا أُمُورِ بَيتِهَا بِسُهُولَةٍ وَيُسرٍ؛ فَكَيفَ بِمُبَاشَرَةِ أُمُورِ أُمَّةٍ بِكَامِلِهَا؟!.
وَاسأَلُوا بَنَاتِكُم في المَدَارِسِ عَن حَالِ المُعَلِّمَاتِ مَعَ الغِيَابِ بِسَبَبِ هَذِهِ العَوَارِضِ، فَكَيفَ بِالوِلايَاتِ العَامَّةِ؟!.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ: إِنَّهُ لا صِحَّةَ لِمَا يَدَّعِيهِ مُرِيدُو تَولِيَةِ المَرأَةِ في المَنَاصِبِ الكَبِيرَةِ أَنَّهَا مَظلُومَةٌ أَو مَهضُومَةٌ، أَو غَيرُ مُشَارِكَةٍ في نَهضَةِ البِلادِ أَو بِنَاءِ حَضَارَةِ الأُمَمِ، أَو أَنَّ أَهلَ الدِّينِ يُقَيِّدُونَهَا وَيَمنَعُونَهَا مِنَ العَمَلِ بِالكُلِّيَّةِ، فَكُلُّ هَذَا كَذِبٌ وَاضِحٌ وَافتِرَاءٌ مَكشُوفٌ، يُكَذِّبُهُ الوَاقِعُ وَيَرُدُّهُ، فَإِنَّهُ بِاستِثنَاءِ الوِلايَاتِ العَامَّةِ، لم يَمنَعْ أَحَدٌ مِنَ العُلَمَاءِ -لا نَظَرِيًّا وَلا عَمَلِيًّا- مِن تَوَلي المَرأَةِ وَظَائِفَ أُخرَى تُنَاسِبُهَا مَا دَامَت مُلتَزِمَةً بِشُرُوطٍ تُجِيزُ لها الخُرُوجَ مِنَ المَنزِلِ، وَضَوَابِطَ تَضمَنُ فَصلَهَا عَنِ الرِّجَالِ الأَجَانِبِ.
وَالنَّاسُ تَرَى المَرأَةَ في بِلادِنَا وفي غَيرِهَا كَانَت -وَمَا زَالَت- مُشَارِكَةً فِيمَا يُنَاسِبُهَا، مُدِيرَةَ مَدرَسَةِ بَنَاتٍ وَمُعَلِّمَةً فِيهَا، أَو رَئِيسَةَ مُستَشفًى نِسَائِيٍّ أَو طَبِيبَةَ نِسَاءٍ أَو مُمَرِّضَةً لهن، أَو مَسؤُولَةَ جَمعِيَّةٍ نِسَائِيَّةٍ أَو مُوَظَّفَةً فِيهَا، أَو بَائِعَةً في سُوقٍ نِسَائِيَّةٍ أَو مَا شَابَهَ ذَلِكَ. فَاتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ، وَلا يَستَخِفَّنَّكُمُ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ.