الغفور
كلمة (غفور) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعول) نحو: شَكور، رؤوف،...
العربية
المؤلف | محمد بن صالح بن عثيمين |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المهلكات - نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
إن الله -تعالى- قد أمر المؤمنين بالوحدة والاعتصام، فقال: (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ)[آل عمران: 103]. لكن الناس يأبون إلا الاختلاف. فما هي أسباب الخلاف؟ والمراد بالخلاف هنا: الخلاف في...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي ألّف بين قلوب المؤمنين، وجمع كلمة المسلمين.
وأشهد أنَّ لا إله الله وحده لا شريك له القائل: (وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)[الأنفال: 46].
وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله القائل -صلى الله عليه وسلم-: "إنما هلك من كان قبلكم باختلافهم في الكتاب"[رواه مسلم].
اللهم صلّ عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
عباد الله: (اتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)[الأنفال: 1].
أما بعد:
إن الله -تعالى- قد أمر المؤمنين بالوحدة والاعتصام، فقال: (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)[آل عمران: 103].
لكن الناس يأبون إلا الاختلاف، قال تعالى: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)[البقرة: 213].
فما هي أسباب الخلاف؟
والمراد بالخلاف هنا: الخلاف في الأصول لا في الفروع.
1- اتّباع الهوى: وهو ميل النفس نحو الشيء، وسمي هوى؛ لأنه يهوي بصاحبه إلى النار.
والهوى يصدّ الإنسان عن الخير، ويدخله في الشّر من أوسع أبوابه، قال تعالى: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ)[الجاثية: 23].
وقال: (فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)[القصص: 50].
وفي الحديث عن شداد بن أوس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "الكيِّس مَن دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله"[رواه الترمذي].
أ ـ حبّ الدنيا: قال تعالى: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ)[آل عمران: 14].
ب حبّ الزّعامة: وهو جزء من حبّ الدنيا، لكنه بلاء عظيم، عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنكم ستحرصون على الإمارة، وستكون ندامة يوم القيامة، فنعم المرضعة وبئست الفاطمة"[رواه البخاري].
أما العلاج لهذا الدّاء:
1- الإخلاص لله القائل: (وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ)[البينة: 5].
2- الزهد في الدنيا: قال تعالى: (قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً)[النساء: 77].
3- الصبر والتمسّك بالدين: قال تعالى: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً)[الكهف: 28].
2- الجهـل: وهو سبب لكل بلاء، فالجاهل عدو نفسه قبل أن يكون عدواً لغيره.
ومن صور الجهل:
أ- تصدّر الصغار: عن علي سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "يأتي في آخر الزمان قوم حدثاء الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول البرية، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن قتلهم أجر لمن قتلهم يوم القيامة"[متفق عليه].
ب- ظهور الرويبضة: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "سيأتي على الناس سنوات خداعات يصدّق فيها الكاذب ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن ويخوّن فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة". قيل: وما الرويبضة؟ قال: "الرجل التافه يتكلّم في أمر العامة"[رواه ابن ماجة].
أما العلاج لهذا الداء:
1- العلم: قال تعالى: (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ)[الزمر: 9].
ما الفضل إلا لأهل العلم إنهم | على الهدى لمن اسـتهدى أدلاءُ |
وقدر كلّ امرئ ما كان يعلمه | والجاهلون لأهل العلـم أعداء |
فقـم بعلـم لا تبـغِ بـه بدلا | فالناس موتى وأهل العلم أحياءُ |
2- الإعراض عن الجاهلين: قال تعالى: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ)[الأعراف: 199].
3- التقليد الأعمى: قال تعالى: (بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ)[الزخرف: 22].
وقال: (وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا)[الأحزاب: 67].
ومن صور التقليد:
أ- التعصّب للحزب والقبيلة أو الشخص: قال تعالى: (إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ)[الفتح: 26].
وقال: (وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِين * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ)[الروم: 31-32].
وعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: "كنا في غزاة فكسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين... فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- :"دعوها فإنها منتنة"[رواه البخاري].
ب- تقديس الأشخاص: قال تعالى عن قوم نوح: (وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً)[نوح: 23].
أما العلاج لهذا الداء:
1- الإتّباع لله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-: قال تعالى: (اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ)[الأنعام: 106].
2- الارتباط بالمنهج لا بالشخص: قال تعالى: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ)[آل عمران: 144].
3- صدق الولاء لله ورسوله والمؤمنين: قال تعالى: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ)[المائدة: 55].
4- الحسـد: قال تعالى عن اليهود: (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكاً عَظِيماً)[النساء: 54].
أما العلاج لهذا الدّاء:
1- الرضى: ففي الحديث: "... وارضَ بما قسم الله لك تكن أغنى الناس"[الترمذي].
وفي الحديث: "ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس"[متفق عليه].
2- الاستعاذة بالله من الحسد وأهله: قال تعالى: (وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ)[الفلق: 5].
أيها المسلمون: إن ديننا لا مجال فيه للخلاف، فقد أكمل الله الدّين، وأتمّ النعمة، وأرشدنا إلى سبيل النجاة من الخلاف، فقال: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ)[الشورى: 10].
وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً)[النساء: 59].
وفي الحديث: "تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنة نبيه"[رواه مالك].
نسأل الله -تعالى- أن يجمع كلمتنا، وأن يوحّد صفنا، وأن ينزع غلّ قلوبنا.
(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ للَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ)[الحشر: 10].
اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.