المحسن
كلمة (المحسن) في اللغة اسم فاعل من الإحسان، وهو إما بمعنى إحسان...
العربية
المؤلف | صالح بن محمد آل طالب |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | صلاة العيدين - الهدي والأضاحي والعقيقة |
لقد كان حجُّ النبي -صلى الله عليه وسلم- بلاغًا للبشريَّة كلِّها، خطبَ الناسَ في مواطِن عِدَّة، وبلَّغَهم وودَّعَهم، وأعلنَ استِقرارَ الشريعةِ، وكمالَ الدين، وتمام النِّعمة: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) [المائدة: 3]. كانت خطاباتُه في الحجِّ عِبرًا ومواعِظ، وحِكمًا وأحكامًا، أرسَى بها قواعِدَ الدين، ومبادِئَ العدل، وأصولَ الإسلام، والمعالِمَ الكُبرى لهذا الدين العظيم؛ فقرَّر التوحيدَ، وحِفظَ النفوسِ والأموال والأعراض، وألغَى معانِي الطبقِيَّة والعُنصريَّات، وقرَّر حقوقَ المرأة...
الخطبة الأولى:
الحمدُ لله الذي بعثَ نبيَّه الخاتمَ هدايةً وحُجَّة، وكتبَ النجاةَ لمن لزِمَ سبيلَه واقتفَى في الدينِ نهجَه، وجعلَ مكَّة والمشاعِر مثابةً للناسِ ومحجَّة، وكعبةَ الله قبلةً للمُصلِّي حيث كان يمَّمَ شطرَها وتوجَّه، (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا) [الإسراء: 111].
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبرُ كبيرًا، والحمدُ لله كثيرًا، وسبحانَ الله بُكرةً وأصيلاً.
الله أكبرُ عدد ما أحرمَ في المواقيت الحُجَّاج، والله أكبرُ عدد ما فاضَت بالحَجيج فِجاج، الله أكبرُ عدد ما بانَ صُبحٌ بعد ليل، والله أكبرُ عدد ما لاحَ برقٌ وناحَ وَرقٌ وعدد قَطر السَّيل، الله أكبرُ عدد ما سُحَّت مدامِعُ الحَجيج في هذه العرَصَات، والله أكبرُ عدد ما مُحِيَت هاهنا من ذنوبٍ وأُقِيلَت من عثَرَت، الله أكبرُ عدد ما جاشَت نفوسٌ إلى هذي الرُّبُوع، والله أكبرُ عدد ما تاقَت إليها قلوبٌ وانسابَت على روابِيها الجُموع، الله أكبرُ عدد ما ارتفَعَت هاهنا من دعوات، والله أكبرُ عدد ما قُرِئَت سُورٍ أو تُلِيَت في أرضِنا الآيات.
الله أكبرُ عدد ما طافُوا بالبيتِ وسعَوا، وباتُوا بمُزدلِفة ومِنى ووقفُوا بعرفات، الله أكبرُ عدد ما نُسِكَت أضاحٍ وسِيقَ الهَدي، وعدد ما أُريقَت دماؤُها لتضحِيةٍ وفَدي، الله أكبرُ تشدُو بها شِفاهُ المُسلمين رُكوعًا وقيامًا وسُجَّدًا، وتترنَّمُ بها شِفاهُهم في صلواتِ النهار وهُجَّدا، الله أكبرُ تتردَّدُ بها الأنحاء، وتُعيدُها الأصداء، الله أكبرُ عزَّةُ المُسلم وغُصَّةُ الأعداء.
أشهدُ أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له تُسبِّح بحمدِه دائِراتُ الفلَك، ويشهَدُ بعظمتِه هذا الملَكُوتُ وما ملَك، ويُقِرُّ بوحدانيَّته هذا الوجود، ونحن نُقرُّ يا ربُّ لك، وأشهدُ أن محمدًا عبدُ الله ورسولُه، خُتِمَت به الرسالاتُ والرُّسُل، وأُكمِلَت به الشرائِعُ واستبانَت من بعدِه السُّبُل، وصاغَه الله على متامِّ الأخلاق وأكمَل المُثُل، صلَّى الله وسلَّم وبارَك وأكرمَ وأجزلَ وأفضلَ وأنعمَ عليه، وعلى آله كرامِ المَحتَد، وأهلِ بيتِه ذوِي السُّؤدَد والنَّسَبِ الأمجَد. وصلَّى على صحابتِه الذين كانوا لبِنةَ الإسلام الأولى، وغُرَّتَه المُثلَى، كانوا أولَ جيلٍ في أكرم مدرسَة، وهم الغِراسُ الذي رعاه نبيُّنا -عليه السلام- وغرسَه، والرُّكنُ الذي شادَه وأشادَ به وأسَّسه، حبُّهم دينٌ وإيمان، وبُغضُهم علامةٌ على من أعمَى الله قلبَه وطمسَه، وفي مهاوِي الضلال تردَّى واللهُ فيها أركسَه، وصلَّى الله على أتباعِ نبيِّنا وأتباعِهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد: فخيرُ الوصايا وأولُها، وأتمُّها وأشملُها: هي وصيَّةُ الله للناس بالتقوَى، فاتَّقُوا الله - عباد الله -، (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى) [البقرة: 197]، فالله لتقوَاه قد دعاكم، وفي كتابِه حثَّكم عليها وناداكم، ورتَّب عليها فتوحات الدنيا والخيرَ في أُخراكم.
وتذكَّرُوا برُؤية هذه الحُشود يومَ المحشَر، واستعِدُّوا ليومٍ فيه الصحائِفُ تُنشَر، (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة: 7، 8].
إن لكم على ربِّكم عرضًا فاتَّقُوه، (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [البقرة: 281].
حُجَّاج بيت الله الحرام, أيها المُسلمون في مشارِق الأرض ومغارِبِها، وحيثُما كنتم في مناكِبِها وأطرافِها: هنيئًا لكم هذا العيد، وبارَك الله يومَكم المَجيد. أدامَ الله عليكم السعدَ والسُّرور، وأفاضَ عليكم بالعيدِ البهجةَ والحُبُور، تقبَّل الله منكم الطاعات، وأدامَ عليكم المسرَّات، غفرَ الله ذنوبَكم، وأسعدَ بالخيرات قلوبَكم، وحقَّق لكم صالحَ الآمال، ووفَّقكم لأحسن الأعمال.
أعادَ الله هذا العيدَ علينا وعليكم وعلى الأمة جَمعَاء بالخير واليُمن والسعادة، والعِزِّ والنصر والتمكين للإسلام والمُسلمين.
العيدُ -أيها المُؤمنون- مِنحَةُ الله لكم لتسعَدُوا، وهداياهُ لتُسرُّوا وتعبُدوا. عملٌ صالحٌ يُقبَل, ورَحِمٌ تُوصَل, وأيدٍ تتصافَحُ, ونفوسٌ تتسامَح, إنه فرحٌ بلا تجاوُز، وسُرورٌ بلا طُغيان، نفرَحُ ونُؤجَر، ونأنَسُ ونُثابُ.
والحمدُ لله على كمالِ الدين ويُسرِه، إنه شعيرةٌ من شعائِر الله فيها ذِكرُه وشُكرُه، والفرحُ بنعمتِه؛ فاهنَؤُوا بعيدِكم -أيها المسلمون-.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
حُجَّاج بيت الله الحرام: أنتُم اليوم تقِفُون على ثرَى وقفَ عليه رُسُلٌ وأنبياء، وتنزَّلَت من عليائِها إليه ملائِكٌ من السماء، فهذا بيتُ الله وهذه قِبلةُ المُسلمين، وهذه الآياتُ البيِّناتُ ومقامُ إبراهيم.
من هنا شعَّ الإسلامُ وهذا مركزُه، ومن هنا ابتدَأ وإليها عودتُه ومأرِزُه، تنزَّلَ الوحي في هذه العرَصَات، وشهِدَت سماؤُه جبريلَ يُرتِّلُ الآيات. سمِعَت سُفوحُها إبراهيم الخليل وهو يستودِعُ الله ذُريَّتَه، وانبجَسَت من صُخورِها ماءُ زمزم الذي بارَكَ الله شربَتَه، وقامَ هنا أولُ بيتٍ لله على الأرض.
هنا نادَى الخليلُ بتوحيدِ الله، وأذَّنَ في الناسِ بالحجِّ, وهنا جدَّد حفيدُه النداءَ، فجاؤُوا من كل فجٍّ, هذه المرابِعُ هي رحِمُ الإسلام، ومنها ساحَ إلى كل العوالِم.
ها أنتم قد نزلتُم مِنَى، ووردتُم بيتَ الله، ومن قبلُ وقفتُم في عرفات، ثم ازدَلفتُم عند المشعَر الحرام، وتقلَّبتُم في رُبوعٍ لا يُلهَجُ فيها إلا بالتلبِيةِ والتكبير، ولا إعلانَ فيها إلا بالوَحدة والتوحيد.
عرَصَاتٌ يُذكرُ فيها اسمُ الله ويُعظَّم، ويُغفَرُ للحاجِّ المُوفَّق ويُكرَم. معالِمُ وشعائِر راسِخةٌ في هذا المكان، شامِخةٌ رغم تطاوُل الأزمان، تصِلُ آخر الأمة بأوَّلها، وحاضِرها بأصلِها.
تاريخٌ له في نفسِ المُؤمن ألَق، وذِكرَى لها في الرُّوح عبَق, على هذي الرُّبَى تُغسَلُ الخطايا، ويعودُ الحاجُّ نقيًّا كما ولدَتْه أمُّه، وليس مكانٌ في الدنيا له ميزةٌ كهذا المكان.
فاقدُروا للبيتِ حُرمتَه، وتلمَّسُوا من الزمانِ والمكانِ بركَتَه؛ فنبيُّكم - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من حجَّ هذا البيتَ فلم يرفُث ولم يفسُق رجعَ كيوم ولدَتْه أمُّه" [متفق عليه]. وفي [الصحيحين] أيضًا: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "والحجُّ المبرُورُ ليس له جزاءٌ إلا الجنة". تقبَّل الله منكم الطاعات، وغفرَ الخطيئات، وأتمَّ لكم النُّسُك.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
معاشِر الحَجيج: إن يومَكم هذا يومٌ مُبارَك، رفعَ الله قدرَه، وأعلى ذِكرَه، وسمَّاه "يوم الحجِّ الأكبر"، وجعلَه عيدًا للمُسلمين حُجَّاجًا ومُقيمين.
في هذا اليوم الأغَرِّ يتوجَّهُ الحُجَّاجُ إلى مِنَى لرَميِ جَمرة العقَبَة بسبعِ حصَيَاتٍ، ثم يذبَحُ هديَه إن كان مُتمتِّعًا أو قارِنًا، ويحلِقُ رأسَه، وبهذا يتحلَّلُ التحلُّلَ الأول، ويُباحُ له ما كان مُحرَّمًا بالإحرام إلا الجِماع.
ثم يتوجَّهُ الحاجُّ إلى مكَّة ليطُوفَ طوافَ الإفاضة، لقولِ الله -جلَّ شأنُه-: (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) [الحج: 29]، ثم يسعَى بين الصفا والمروة، ولا حرجَ في تقديمِ بعضِ هذه الأعمال على بعضٍ.
ضُيوفَ الرحمن, حُجَّاج بيت الله الحرام: الواجِبُ عليكم أن تبيتُوا الليلةَ بمِنَى اتِّباعًا لسُنَّة المُصطفى -صلى الله عليه وسلم-، ويوم غدٍ هو اليوم الحادِي عشر، وهو اليومُ الأولُ من أيام التشريقِ التي قال الله -عز وجل- فيها: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ) [البقرة: 203]. قال ابنُ عباسٍ - رضي الله عنهما -: "هي أيامُ التشريقِ". وقال فيها رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "أيامُ أكلٍ وشُربٍ وذِكرٍ لله -عز وجل- [رواه مسلم].
فأكثِرُوا -رحِمكم الله- من ذِكرِ الله وتكبيرِه في هذه الأيام المُبارَكة، امتِثالاً لأمر ربِّك، واتِّباعًا لسُنَّة نبيِّكم، واقتِفاءً لأثر سلَفِكم؛ فقد كان الصحابةُ يُكبِّرُون، وكان عُمرُ -رضي الله عنه- يُكبِّرُ في قُبَّته في مِنى فيُكبِّرُ الناسُ بتكبيرِه، فترتَجُّ مِنى تكبيرًا.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
حُجَّاج بيت الله الحرام, أيها الناسُ في كل مكان: لقد كان حجُّ النبي -صلى الله عليه وسلم- بلاغًا للبشريَّة كلِّها، خطبَ الناسَ في مواطِن عِدَّة، وبلَّغَهم وودَّعَهم، وأعلنَ استِقرارَ الشريعةِ، وكمالَ الدين، وتمام النِّعمة: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) [المائدة: 3].
كانت خطاباتُه في الحجِّ عِبرًا ومواعِظ، وحِكمًا وأحكامًا، أرسَى بها قواعِدَ الدين، ومبادِئَ العدل، وأصولَ الإسلام، والمعالِمَ الكُبرى لهذا الدين العظيم؛ فقرَّر التوحيدَ، وحِفظَ النفوسِ والأموال والأعراض، وألغَى معانِي الطبقِيَّة والعُنصريَّات، وقرَّر حقوقَ المرأة، ونَبذَ الرِّبا، وقال: "ترَكتُ فيكم ما لن تضِلُّوا بعدَه إن اعتصَمتُم به: كتابَ الله" [رواه البخاري ومسلم].
والواجِبُ على المُسلمين أن يستلهِمُوا من توجيهاتِ نبيِّهم أرقَى المبادِئ وأقوَم السُّبُل، وأنجَحَ الطُّرق للعدالة وإسعادِ البشريَّة في الدنيا وفي الآخرة.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أيها المُسلمون: لقد بعَثَ الله نبيَّه محمدًا -صلى الله عليه وسلم- برسالةٍ كاملةٍ، وشريعةٍ خاتمةٍ، تميَّزَت بوُضوحِ المعالِم، وثباتِ الدعائِم، أساسُها التوحيد، وميزانُها العدل، وميزتُها الوسطيَّةُ واليُسرُ، وجعلَ الحافظَ والقائِدَ لهذه الشِّرعة نُوران مُضِيئَان خالِدان هما الوحيَان المُنزَّلان: كتابُ الله وسُنَّة رسولِه -صلى الله عليه وسلم-، من تمسَّك بهما فهو المُهتَدِي لسُنَّة النبي -عليه السلام-، ومن قصَّرَ فيهما فقد انتقَصَ من دينِه ومن اتِّباعِه للسُّنَّة بمِقدار ما قصَّر.
وليس لأحدٍ أن يُزايِدَ على الحقِّ، وكلٌّ يدَّعِي أنه عليه، فالله تعالى قد حكَم، وقولُه الفصلُ، فقال -سبحانه-: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [الأنعام: 153]. وقال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- في وصفِ الفِرقةِ الناجِية: "هم من كان على مثلِ ما أنا عليه وأصحابِي" [أخرجه أصحابُ السُّنن، بسندٍ صحيحٍ على شرطِ مُسلم].
فهل وجدتُّم في دينِ الله دُعاءَ الأولياء والسالِفين، أو تبرُّكًا بالأضرِحةِ والمقبُورِين؟! والله تعالى يقولُ: (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا) [الجن: 18].
لقد حذَّرَ النبيُّ - عليه السلام - من البِدع المُحدَثة، والتأويلات المُنحرِفة، ذلك أن خطرَ البِدَع المُضافَة تكمُنُ في تغيير ملامِحِ الدين، وذوَبَان الحُدود بين ما جاءَ عن الله وما أضافَه الخلقُ، فيختلِطُ الكمالُ بالضلال، والوحيُ بالرأي، وما نزلَ من السماءِ بما نبَتَ من الأرض.
إنه لا مكانَ في الإسلام لوُسَطاء بين الله وخلقِه، فكلُّ مُسلمٍ مُكلَّفٌ أن يقِفَ بين يدَي الله الكريم، مهما كانت حالتُه، وهو مُوقِنٌ أن دُعاءَه ينتهي إلى سمعِ الله العظيم من غير تدخُّل بشرٍ أيًّا كان شأنُه، فلا قيمة للنوايا الحسَنَة في شرعَنةِ البِدَع والمُحدثَات.
لذا جاءَ النهيُ صارِمًا، والعقوبةُ غليظةً على من ابتدَعَ في دين الله: "إن كلَّ بِدعةٍ ضلالة، وكلَّ ضلالةٍ في النار"، (إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ) [يونس: 69].
ولقد اجتهَدَت طلائِعُ الأُمة المُحمدية وغُرَرُ أجيالِها من الصحابة وأهل القُرون المُفضَّلة، وكانوا أحقَّ بها وأهلَها، اجتهَدُوا في جمعِ القرآن وحفظِ السُّنَّة، وضبطِ الأصول والقواعِد، حتى وصلَت لنا الشريعةُ بعد خمسة عشر قرنًا سالِمةً كاملةً كأنما أُنزِلَت ليلةَ أمسٍ.
وقد وعَوا وصيَّةَ النبي -صلى الله عليه وسلم-، كما في حديثِ العِرباضِ بن سارِيةَ -رضي الله عنه-: "فإنه من يعِش منكم فسيرَى اختِلافًا كثيرًا، فعليكم بسُنَّتي وسُنَّة الخلفاء الراشِدين، عضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومُحدثاتِ الأمور؛ فإن كل بدعةٍ ضلالة" [أخرجه أبو داود والترمذيُّ وابنُ ماجه].
فلا عُذرَ لمن ضلَّ عن الشريعَة، أو التَبَسَت عليه السُّبُل؛ فأنوارُ الوحيَين دالَّةٌ عليها في متاهات الظُّلَم، وغياهِب الدُّجَى. وضلالُ من ضلَّ إنما هو بسببِ تكذيبِه للوحيَين أو تأويلِهما، ومن سلِمَ من هاتَين الآفتَين فهو الذي هُدِيَ للسُّنَّة.
عباد الله: وعلى مرِّ عُصور الإسلام حاولَ من حاولَ أن يقطعَ الطريقَ على الوحيَين الحافظَين المحفُوظَين بأن يُسقِطَهما، أو يُسقِطَ حمَلَتَهما، بالقَدح في عدالتهم، أو نِسبَتهم للسُّوء.
وكلُّ أولئِك قُطَّاعُ طريقِ الشريعة، ولُصوص الأديان، يُجلِبُون بغاراتهم الشَّعواء على أتباعِ المُصطفى -صلى الله عليه وسلم-، يَزيدُون جِراحَ الأمة فَتقًا، ويُرهِقُون جسدَها إثخانًا وخَرقًا، ينشَطُون في حالِ وهَنِ الأمة وضَعفِها، كأنَّما تعاقَدُوا مع العدوِّ على الإجهازِ على الجسَد الجَريح، جسَدِ الأمة الذي تئِنُّ أوصالُه المكلُومة في فلسطين والشام، وبِقاعٍ شتَّى من بلادِنا المُسلِمة، وخذَلَتها المُنظَّماتُ الأُمميَّة، والتي لا يَعنيها صَريخُ الأطفال، وأنينُ الجَرحَى والمُشرَّدين.
وهذا يستدعِي واجِبًا على المُسلمين أفرادًا وجماعات، ومُؤسَّسات وحكومات تِجاه إخوانهم في تلك البلاد، مُشاركةً في الآلام والآمال، ووقوفًا في المُلِمَّات وشديدِ الأحوال، وبَذلاً للمعروفِ والإحسان. كان الله في عَونهم.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أيها المسلمون: إن البشريَّة اليوم وإن أظهرَت غناءَها بما بلغَتْه في الصناعةِ والفِكر والعلوم، إلا إنها لتَعيشُ تِيهًا في الغاية، وظَمأً في الرُّوح، ولم يزَل مِيزانُ العالَم شديدَ التأرجُح، قابِلاً للكَسر، بسببِ توظيفِ نتاجَ الحضارة -صناعةً واقتِصادًا- في تأجيجِ الصِّراعات، وقَهر الضُّعفاء؛ فالحضارةُ بلا قِيَمٍ تزيدُ العالَم بُؤسًا، والمدنيَّةُ بلا دينٍ تعودُ بلاءً ورِجسًا.
وهذا العالَمُ اليوم شاهِدٌ على ذلك، فلم يُغنِ السَّبقُ والرِّيادةُ دُولاً من تفكُّك اتِّحاداتها، والتوجُّس من مُستقبلِها. وهذا مما يَزيدُ العِبءَ ويُعظِمُ المسؤوليةَ على ورثةِ الأنبياء، وحمَلَة الشريعة وهَدي السماء، ليبلُغُوا بها الدينَ كلَّ سكَنٍ وساكِنٍ، وكل راغِبٍ ومُعرِضٍ؛ فإن بلاغَهم حسناتٌ وأُجور، ودعوتَهم فخرٌ ونور، سلَفُهم الأنبياء، وثِمارُها وصلُ الخلق بالخالِقِ، وهم مأجُورون أيًّا كانت نتائِجُ جُهدهم.
والدعوةُ إلى الله وإن كانت مقاصِدُها خالِصةً لله، إلا إن الله ليُعجِّلُ ببعضِ ثِمارِها في الدنيا، ويحمِي البلادَ بما تحمِي من شِرعَته، ويحفَظُ العبادَ بما يحفَظُون من سُنَّته، والمُسلمون كلُّ المُسلمين حُرَّاسٌ لمُقدَّساتهم، غيُورون على بلادٍ ترعَى الحرمَين، وترفُدُ حُجَّاجَهم وعُمَّارَهم.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
يا أيها الدُّعاةُ, وأيُّها المُصلِحون: أنتُم تحمِلُون حقًّا يُوافِقُ الفِطرة، لا تصمُدُ أمامَه أديانٌ مُحرَّفة، ولا مذاهِبُ مُختلَقَة، إن تراجَعَ الإسلامُ الحقُّ فبسببِ تقصيرِكم تعلُّمًا وتعليمًا، واختِلافُكم على أنفُسِكم لا بسببِ ضعفِ دينِكم، وزمنُنا هذا أحوَجُ ما يكونُ لكم، حتى إن شانِئِيكم والشَّاغِبين عليكم في حاجةٍ لبِضاعَتكم، وإن استكبَرُوا وعتَوا فاصبِروا كما صبرَ أولُو العَزم من الرُّسُل، فلستُم أكرمَ على الله من أنبيائِه، ومهما ساءَكم جَدبُ الصحارَى وتتابُعُ الدُّهور، فإن مُرورَ سحابةٍ كافٍ لاستِخراجِ مكنُون الأرض، لتتحوَّل الصَّحارَى إلى جِنان، والمَحْلُ إلى بساتين وأفنان.
وهذه حالُ بِذرةِ الدين وفِطرة التديُّن في النفوسِ؛ فإنها عصِيَّةٌ على الذَّوَبان، وتأبَى التلاشِي، تنتظِرُ الواعِظَ الصادِقَ، والناصِحَ المُخلِصَ.
والوثبَةُ إلى الدين، والأَوبَةُ إلى رُوحِه هي أسرعُ من السَّير وكرِّ الخَيل، ذلك أن العودةَ إلى الإسلام عودةٌ للفِطرة التي فطرَ اللهُ الناسَ عليها، عودةٌ يصحَبُها تأييدُ الله، ويستدنِيها موعودُه: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) [غافر: 51].
تأسَّوا بدعوةِ الأنبياء جميعًا بالبَداءَة بالتوحيدِ أولاً، ثم بتعليمِ الشريعةِ على هَديِ القُرآن الكريمِ وما صحَّ عن الرسولِ -صلى الله عليه وسلم-، مع رِفقٍ ولِينٍ وصبرٍ، واطِّراحًا لحُظوظ النفسِ والهوَى، ولنُدرِك أن أمَّتَنا تضعُفُ مُواجهتُها لطُوفان الخارِج إذا كانت مُعتلَّةً من الداخِل.
فانهَجُوا منهجَ الرُّسُل في مُواجهةِ أدوائِنا الداخِليَّة، فلقد كثُرَت الشُّبُهاتُ التي يبثُّها الإعلامُ، وازدادَت حِدَّةُ الدعوات التي تُشيعُها فِرَقٌ أقحَمَت نفسَها تحت اسمِ الإسلام.
ومُواجهةُ أولئِك يكونُ بتجديدِ التوحيدِ في نفوسِ الناسِ، ودعوتِهم إليه أولاً؛ فإن النفوسَ إذا تقبَّلَت التوحيدَ، واقتنعَت بأن مصدرَ الإسلام هما الوحيَان فحسبُ، فإن كثيرًا من البدع والشُّبُهات القائِمة في نفوسِ مُعتنِقِيها تتساقَطُ لانقِطاع المدَد وجفافِ المورِد.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أيها المُؤمنون: لا خوفَ على الإسلام، فهو رُوحٌ تجرِي، ونفحةٌ تسرِي، وحقيقةٌ ليس بينها وبين العُقول إلا مُواجهتُها له، وليس بين النفوسِ وبين الإذعان لها إلا إشراقُها عليه، ولم يكُن في يومٍ إكراهٌ على الدينِ، وإنما مكَّنَت للإسلام طبيعتُه ويُسرُه، ولُطفُ مدخلِه على النفوسِ، ومُلاءَمتُه للفِطر والأذواق والعُقول، ولو أن دِينًا لقِيَ من الأذَى والمُقاوَمَة عُشرَ ما لقِيَ الإسلام لتلاشَى واندثَر، ولم تبقَ له عينٌ ولا أثَر.
وإن من أكبَر الدلائِلِ وأصدقِ البراهين على حقيقةِ الإسلام: بقاؤُه على هذه الغارات الشَّعواءِ من الخارِج، ومع هذه العوامِلِ المُخرِّبة من الداخِلِ، وإن هذه لأنكَى وأضرُّ، فلكَم أرادَ به أعداؤُه كيدًا بقوة السلاحِ أو بقوة العلمِ، فوجَدُوه في الأُولى صَلبَ المكسَر، ووجَدُوه في الثانِية ناهِضَ الحُجَّة، ورُدُّوا بغَيظِهم لم ينالُوا خيرًا. ولكنهم عادُوا فضلَّلُوا أبناءَه عنه، ولفَتُوهم عن مشرقِه، وفتَنُوهم بزخارِفِ الأقوال والأعمال، ليصُدُّوهم عن سبيلِه.
وإن أخوفَ ما يخافُه المُشفِقون على الإسلام: جهلَ المُسلمين لحقائِقِه، وانصِرافَهم عن هدايتِه، وإلا فإن الإسلام ثابِتٌ ثباتَ الرَّواسِي، متينُ القواعِد والأواسِي. الإسلامُ عزيزُ الجانِبِ، منيعُ الحِمَى، يُدافِعُ عن نفسِه بروحانيَّته القويَّة، وحقائقِه الواضِحة، وعقائِدِه الصافِية، وأحكامِه السَّمحَة وآدابِه القَويمة، وحِكَمه المُتحكِّمة في العُقول، ويُدافِعُ عنه جُندٌ من أبنائِه، عرضَهم على ميزانِه فرجَحُوا، واستعرضَهم فنجَحُوا، وامتحَنَ قلوبَهم للتقوَى فتكشَّفُوا عن الطِّيبِ والطُّهر.
وقد سبقَ أن تلاقَت العقائِدُ الصريحةُ والقواعِدُ الصحيحةُ على إنارَة غسَقِ الأرض بإشراقِ السماء، فضلَّلَ الإسلامُ الكونَ بعدلِه وسماحَته، وكان له في المشارِقِ والمغارِبِ مُستقرٌّ ومُستودَع، وعلا بذلك على الأديَان، فجلَّلها بالأمان، وجاورَها بالإحسان، وما ضعُفَ يُلطانُ أبنائِه على الأرضِ إلا حين ضعُفَ سُلطانُه في قلوبِهم، (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) [آل عمران: 165].
عباد الله: كلُّ ما هو موجودٌ بين المُسلمين من خلافٍ وفِتنٍ هو مرحلةٌ طبيعيَّةٌ للأُمم، في الأطوَار الأُولى من نهَضَاتها؛ فإن أولَ مراحِلِ النَّهضة هو آخرُ مراحِلِ الانحِطاط، وإذا هيَّأَ الله أمَّةً للسعادة جرَّ إليها الخيرَ ولو بأسبابٍ من الشرِّ، وساقَ إليها النفعَ ولو بوسائلِ الضُّرِّ، ومرَّ بها إلى الحقِّ ولو جرَحَها الباطِلُ، (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [آل عمران: 139].
لا يأسَ من رَوحِ الله، فهذه مخايِلُ نصر، وهذه مُبشِّراتُ القَطر، وإن إرادةَ الأمةِ إذا تعلَّقَت بالله، وأمَّلَت في الله، وعمِلَت لله، لم يَبقَ أمامَها إلا ما يَلينُ أو يتقصَّف، أو يتهدَّمُ أو يستقيم.
ونحن أمةٌ موعودةٌ بالنصر وحُسن العاقِبة، فآمالٌ فِساح، وتباشِيرُ صَباح، (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) [يوسف: 21].
اللهم بارِك لنا في القرآن والسنة، وانفَعنا بما فيهما من الآياتِ والحكمة، أقول قولي هذا، وأستغفِرُ الله تعالى لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله، الحمدُ لله الذي بعَثَ نبيَّه بالهُدى وخاتمةِ الرِّسالات، وأرسلَه بالوحيِ وأيَّده بالمُعجِزات، أشهدُ أن لا إله إلا الله وحدَه ربُ الأرض وربُّ السماوات، كم توالَت علينا نِعمُه، وفاضَ علينا جُودُه وكرمُه، ولم تزَل تتوالَى منا الخطيئات، وأشهدُ أن محمدًا عبدُ الله ورسولُه أحسنَ ربُّه خلقَه وأكرمَ جوهرَه، وجعلَ هَديَه زكاءً للنفوسِ ومطهَرَة، وأضاءَ الله بشرعِه الكونَ ونوَّرَه، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وصحبِه والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
عباد الله:
الإسلامُ بُنيانٌ تامٌّ، لا بُدَّ من القِيام بأساساته ومبانِيه العِظام، وأولُ رُكنٍ بعد الشهادَتَين: الصلاةُ المفروضةُ، وهي خمسُ صلواتٍ في اليومِ والليلةِ، لا يُحافِظُ عليها إلا مُؤمنٌ، فرضَها الله في السماوات العُلَى، وأنزلَ في وجوبِها آياتٍ تُتلَى، وحذَّرَ من التهاوُن فيها، وهي أولُ ما يُحاسَبُ عليه العبدُ يوم القيامة؛ فإن قُبِلَت قُبِلَ سائِرُ عمله، وإن رُدَّت رُدَّ سائِرُ عمله، والوضوءُ لها حَتٌّ للذنوبِ، وأداؤُها طهارةٌ للقلوبِ. فأدُّوها كما أمرَ ربُّكم، ومُرُوا بها أولادَكم ومن ولاَّكم الله أمرَهم.
كما أن الزكاةَ حقُّ الله الواجِبُ في المال، ورُكنٌ قائِمٌ من الإسلام، واجِبٌ كالحجِّ والصيام. فيا سعادةَ من وفَّقه الله لإقامة أركانِ دينِه، وصلَّى وزكَّى وصام، وحجَّ البيتَ وكفَّ عن الحرام، وآمنَ بالله ثم استقام، (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [النحل: 97].
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
عباد الله: الأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المُنكَر شعيرةٌ من شعائِرِ الدين، وحِفظٌ للعامَّة من الهلاكِ بذنبِ الأقَلِّين، (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) [الأنفال: 25].
وهو علامةُ شفَقَة المُسلم على أمَّته وولائِه لها، (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [التوبة: 71].
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
عباد الله: إن رابِطةَ الإسلام والأُخوَّة في الدين من أعظم مقاصِدِ الإسلام، والاجتِماعُ والائتِلافُ، ونَبذُ الفُرقةِ والخِلاف مبدأٌ إسلاميٌّ أصيل: (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) [المؤمنون: 52].
أمةٌ تجمَعُهم شهادةُ الحقِّ وِشعارُ التوحيد: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) [الحجرات: 10]، مهما تناءَت الديارُ، واختلفَت الألسُنُ والألوان.
التكاتُفُ والتعاوُنُ فِطرةٌ في الخلقِ، وأمرٌ إلهيٌّ جليل, (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) [المائدة: 2]، وقال -سبحانه وتعالى-: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا) [آل عمران: 103].
التضامُنُ بين المُسلمين في هذا العصر ضرورةٌ للبقاءِ، والعالَمُ حولَنا يتكتَّلُ، ولا يحترِمُ إلا المُتَّحِدين الأقوِياء، وإن الشعوبَ الإسلاميَّة تنشُدُ السلام، ولا تُريدُ غيرَ الإسلام عقيدةً تُؤمِنُ بها، ونِظامًا يحكُمُها، ودينًا يجمعُ شتاتَها، وأُخوَّةً تُوحِّدُ صفوفَها، وعملاً صادِقًا يُحقِّقُ أهدافَها، وعدالةً تسُودُ مُجتمعاتها، ومُساواةٍ تنتظِمُ طبقاتها؛ لتعيشَ في سلامٍ وتعبُدَ الله في أمان.
إن أسوَأ أنواع التفرُّق: هو التفرُّقُ في الدين، قال الله -عز وجل-: (وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) [الروم: 31، 32].
إن المُسلم ليحزَنَ حينما يرَى بعضَ المُسلمين وقد ارتدَّت سِهامُهم إلى بعضٍ، في تنازُعٍ وخلافٍ، والعدُوُّ يتفرَّجُ في حُبُور، (وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [الأنفال: 46].
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
إن على أهل التربيةِ والتعليمِ أن يبذُلُوا مزيدَ عنايةٍ في ترسِيخِ القِيَم والمبادِئِ، ويتحمَّلُ الإعلامُ وأربابُ الأقلام واجِبًا كبيرًا ومسؤوليَّةً أخلاقيَّة تِجاهَ المُجتمع، بما يُعرَضُ سَلبًا أو إيجابًا.
يجبُ أن يُحقِّقَ التعليمُ والإعلامُ الأهدافَ النَّبيلَةَ الرَّاعِيةَ للأفراد والأُسَر تكوينًا وإنشاءً، وتربيةً على القِيَم والمبادِئ، والأخلاق الفاضِلة، وطِيبِ المعشَر وحُسن التعامُل، والوفاءِ بالحُقوقِ، والقِيام بالواجِبات، وكيفيَّة أدائِها. فالأجيالُ أمانةٌ في الأعناق، والله سائِلٌ كلَّ كاتِبٍ عما يكتُب في أي وسيلةِ تواصُلٍ، أو وسيلةِ نشرٍ.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أيها المُؤمنون: الصبرُ عن محارِمِ الله أيسَرُ من الصبرِ على عذابِه، ومن رغِبَ المكارِمَ فليجتنِبِ المحارِم. تقوَى الله مِفتاحُ الأخلاق، وبابُ الأرزاق، (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) [الطلاق: 2، 3].
من أدامَ الحمدَ تتابعَت عليه النِّعَم، ومن أدامَ الاستِغفار فُتِحَت له المغالِيق، ومن أصلَحَ سريرتَه أصلَحَ الله علانيتَه. إنما الدنيا أملٌ مُخترَم، وأجلٌ مُنتقَص، وبلاغٌ إلى دارٍ غيرِها، وسَيرٌ إلى الموتِ بلا تعريجٍ. فرحِمَ الله امرأً فكَّر في أمرِه، ونصحَ لنفسِه، وراقَبَ ربَّه، واستقالَ ذنبَه.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أيها المُسلمون: إن من أفضلِ الطاعات، وأجلِّ القُرُبات في هذه الأيام: التقرُّبَ إلى الله تعالى بذبحِ الهَدايا والأضاحِي، وما عمِلَ ابنُ آدم يوم النَّحر عملاً أحبَّ إلى الله من إراقةِ دمٍ، وإنها لتأتي يوم القيامة بقُرونها وأظلافِها وأشعارِها، وإنَّ الدمَ ليقَعُ من الله بمكانٍ قبل أن يقعَ على الأرض، فطِيبُوا بها نفسًا. وثبَتَ في [الصحيحين]: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ضحَّى بكبشَيْن أملحَيْن أقرنَيْن، ذبَحَهما بيدِه وسمَّى وكبَّر".
ويُسنُّ لمن أراد أن يُضحِّي أن يختارَ من الإبِل أو البقر أو الغنَم أطيبَها، وأن يجتنِبَ ما كان فيه عيبٌ منها، وقد بيَّن النبي -صلى الله عليه وسلم- هذه العيوبَ، كما في [السنن بسندٍ صحيحٍ], وهي العوراءُ البيِّنُ عوَرُها، والمريضةُ البيِّنُ مرَضُها، والعَرجاءُ البيِّنُ ضَلَعُها، والكسيرةُ التي لا تُنقِي.
وأيامُ الذبحِ أربعةٌ: من بعد صلاة العيد إلى غروب شمسِ اليوم الثالث عشر، وهو آخرُ أيام التشريق، ويجوزُ الذبحُ في الليل والنهار، والنهارُ أفضلُ، ويومُ العيدِ أفضلُ مما بعدَه.
وتُجزِئُ الشاةُ الواحِدةُ عن الرجلِ وأهلِ بيته، والسُّنَّةُ أن يأكلَ المُسلمُ من أُضحِيته، ويُهدِي منها، ويتصدَّق، قال الله تعالى: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) [الكوثر: 2]، وقال - سبحانه -: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ * الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ) [الحج: 34- 37].
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أيها المسلمون: إن من فضلِ الله تعالى على هذه المملكَة العربية السعودية ورِجالاتها وأجهزتها ومُؤسَّساتها، أنها تبذُلُ جهودًا هائِلةً لخِدمة الحُجَّاج والمُعتمِرين والزائِرين، ومنذ عشرات السِّنين وهي تُديرُ موسِمَ الحجِّ بكل كفاءَةٍ واقتِدار، ورِعايةٍ تدعُو للفَخار.
والعِمارةُ التي تمَّت وتتمُّ للحرمَين الشريفَين ورِعايتُهما ورِعايةُ قاصِدِيهما ظاهرةٌ شاهِرةٌ للعَيان، وقد أحاطَ الله بيتَه وضيوفَه بالأمنِ والطُّمأنينة، في أيامٍ يضطرِبُ فيها العالَم، ويشتعِلُ نارُ الفتنِ والحُروب.
والحمدُ لله الذي سخَّرَ لبلدِه الحرامِ حُماةً صادِقِين، حفِظَ الله بهم الدين، وحفِظَ بهم العبادَ والبلادَ، (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) [العنكبوت: 67].
فلله الحمدُ والشُّكرُ والثناء، وله الفضلُ والمِنَّةُ ومنه العَطاءُ.
حُجَّاج بيت الله الحرام: اشكُرُوا اللهَ تعالى على ما هيَّأ لكم ويسَّر من أداء أعظم أركان الحجِّ بالوقوف بعرفة والمشعَر الحرام، بأمنٍ وطُمأنينةٍ وسلامٍ، واحرِصُوا على أداء ما تبقَّى من مناسِك الحجِّ، كما شرَعَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-، وامتِثالاً لأمر الله -سبحانه- بقوله: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) [البقرة: 196].
تجنَّبوا مواطِن الزِّحام، وأسباب الخِلاف والخِصام، وترفَّقوا بإخوانكم المُسلمين؛ فكُلُّكم يرجُو ما عند الله.
التزِمُوا التوجيهات، واتبَعوا التعليمات، واستشعِرُوا ما أنتُم فيه، وكُونوا على خيرِ حالٍ في السُّلُوك والأخلاق، والزَمُوا السَّكينةَ والوقار، واجتهِدُوا وسدِّدُوا وقارِبُوا، وأبشِروا وأمِّلُوا؛ فإنكم تقدُمُون على ربٍّ كريمٍ.
جعلَ الله حجَّكم مبرورًا، وسعيَكم مشكورًا، وذنبَكم مغفورًا.
اللهم يا حيُّ يا قيُّوم كما جمَعتَ هذه الجُموعَ المُسلِمةَ في هذا المكانِ المُبارَك، فاجمَع أمَّةَ الإسلام على كتابِك وسُنَّة نبيِّك محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وارفَع عنهم البلاءَ، وخُذ بهِم للحقِّ والهُدى يا رب العالمين.
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمدٍ، كما صلَّيتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيدٌ، وبارِك على محمدٍ وعلى آل محمدٍ، كما بارَكتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميدٌ مجيدٌ.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واخذُل الطغاةَ والملاحِدةَ والمُفسِدين، اللهم انصُر دينَك وكتابَك وسُنَّةَ نبيِّك وعبادكَ المؤمنين.
اللهم أبرِم لهذه الأمةِ أمرَ رُشدٍ يُعزُّ فيه أهلُ طاعتِك، ويُهدَى فيه أهلُ معصيتك، ويُؤمَرُ فيه بالمعروف، ويُنهَى عن المُنكر يا رب العالمين.
اللهم من أرادَ الإسلام والمُسلمين بسوءٍ فأشغِله بنفسه، اللهم من أرادَ الإسلام والمُسلمين بسوءٍ فأشغِله بنفسه، ورُدَّ كيدَه في نحره، واجعَل دائرةَ السَّوء عليه يا رب العالمين.
اللهم انصُر المُجاهِدين في سبيلك في فلسطين، وفي بلاد الشام، وفي كل مكانٍ يا رب العالمين، اللهم فُكَّ حِصارَهم، وأصلِح أحوالَهم، واكبِت عدوَّهم. اللهم حرِّر المسجدَ الأقصى من ظُلم الظالمين، وعُدوان المُحتلِّين.
اللهم أصلِح أحوالَ المُسلمين في كل مكانٍ، اللهم أصلِح أحوالَ المُسلمين في سوريا، وفي اليمن، وفي العراق، وفي فلسطين، وفي كل مكانٍ، اللهم اجمَعهم على الحقِّ والهُدى، اللهم احقِن دماءَهم، وآمِن روعاتهم، وسُدَّ خلَّتَهم، وأطعِم جائِعَهم، واحفَظ أعراضَهم، واربِط على قلوبِهم، وثبِّت أقدامَهم، وانصُرهم على من بغَى عليهم، اللهم فُكَّ حِصارَهم، اللهم فرَجَك القريب، اللهم فرَجَك القريب.
اللهم وفِّق ولِيَّ أمرنا خادمَ الحرمين الشريفين لما تحبُّ وترضى، وخُذ به للبرِّ والتقوى، اللهم وفِّقه ونائِبَيْه وأعوانَهم لما فيه صلاحُ العباد والبلاد، اللهم جازِهم بالخيرات على ما يبذُلون من خدمةِ الحُجَّاج، وخِدمةِ الحرمَين الشريفَ