القابض
كلمة (القابض) في اللغة اسم فاعل من القَبْض، وهو أخذ الشيء، وهو ضد...
العربية
المؤلف | سعد بن عبد الله السبر |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
الوفاء يختص بالإنسان، فمن فقد الوفاء فقد انسلخ من الإنسانية، وقد جعل الله تعالى العهد من الإيمان وصيره قواما لأمور الناس، فالناس مضطرون إلى التعاون، ولا يتم تعاونهم إلا بمراعاة العهد والوفاء به، ولولا ذلك لتنافرت القلوب وارتفع التعايش, ولذلك عظم الله تعالى أمره فقال: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ)...
الخطبة الأولى:
الحمد لله أمر بالوفاء بالعهود والعقود, ورفع الموفين والصادقين, وأذل المخلفين الكاذبين, أحمده -سبحانه- وأشكره على جزيل فضله وسابغ عطائه, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, الواحد الأحد الفرد الصمد, لم يلد ولم يولد, ولم يكن له صاحبة ولا ولد, وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، خير من صلى وشكر, والسابق في المحشر, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه خير البشر, وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعد: فأُوصيكم ونفسي بتقوى الله -عز وجل- فهي أساس التوحيد والوفاء وملاذ الأوفياء, (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
أيها المسلمون: إن الوفاء بالعهود قيمة إنسانية وأخلاقية عظمى؛ لأنه يرسي الدعائم, ويؤكد التعاون في المجتمع، فالوفاء أخو الصدق والعدل، والغدر أخو الكذب والجور، ذلك أن الوفاء صدق اللسان والفعل معا, والغدر كذب بهما؛ لأن فيه مع الكذب نقض للعهد.
قال الجرجاني: "الوفاء: هو ملازمة طريق المواساة، ومحافظة عهود الخلطاء" وعن ابن عباس -رضي الله عنهما-: "العهود ما أحل الله, وما حرم, وما فرض, وما حد في القرآن كله", والوفاء يختص بالإنسان، فمن فقد الوفاء فقد انسلخ من الإنسانية، وقد جعل الله تعالى العهد من الإيمان وصيره قواما لأمور الناس، فالناس مضطرون إلى التعاون، ولا يتم تعاونهم إلا بمراعاة العهد والوفاء به، ولولا ذلك لتنافرت القلوب وارتفع التعايش, ولذلك عظم الله تعالى أمره فقال: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ)[البقرة: 40].
أيها المؤمنون: لقد توافرت الآيات والأحاديث في الحث على الوفاء (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)[المائدة: 1], (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ)[النحل: 91], (وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ )[الأعراف: 102], (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[الأنعام:و 152], من سمات الإيمان الوفاء بالعهد (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا )[البقرة: 177], (الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ)[الرعد: 20].
أيها الإخوة: إن الوفاء صفة ملازمة لنبينا الكريم قبل بعثته وبعد مبعثه, قال قيصر: فماذا يأمركم به؟ قال أبوسفيان: "يأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئا، وينهانا عما كان يعبد آباؤنا، ويأمرنا بالصلاة، والصدقة، والعفاف، والوفاء بالعهد، وأداء الأمانة". وإكرامه -صلى الله عليه وسلم- لعجوز دخلت عليه وقوله: "إنها كانت تأتينا أيام خديجة وإن حسن العهد من الإيمان".
أيها الأحبة: إن الوفاء في كل شيء؛ الوفاء في التوحيد وبالتوحيد وفي الإيمان وبالإيمان وفي سائر الأركان, لذا الحاج إذا استلم الحجر فإنه يجدد البيعة, و يلتزم الوفاء بالعهد المتقدم: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ)[الأحزاب: 23], الحر الكريم لا ينقض العهد القديم:
أحسبتم أن الليالي غيرت | عقد الهوى لا كان من يتغير |
يفنى الزمان و ليس ننسى عهدكم | وعلى محبتكم أموت و أحشر |
إذا دعتك نفسك إلى نقض عهد مولاك فقل لها: معاذ الله: (مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ)[يوسف: 23]. اجتاز بعضهم على منظور مشتهى فهمت عينه أن تمتد فصاح:
حلفت بدين الحب لا خنت عهدكم | وذلك عهد لو عرفت وثيق |
من تكرر منه نقض العهد أيوثق بمعاهدته؟! دخل بعض السلف على مريض مكروب فقال له: "عاهد الله على التوبة لعله أن يقيلك صرعتك فقال: كنت كلما مرضت عاهدت الله على التوبة فيقيلني, فلما كان هذه المرة ذهبت أعاهد كما كنت أعاهد فهتف بي هاتف من ناحية البيت: قد أقلناك مرارا فوجدناك كذابا ثم مات عن قريب, لا كان من نقض العهد من كان ما ينقض العهد إلا خوان:
ترى الحي الألى باتوا | على العهد كما كانوا |
أم الدهر بهم خاننا | و دهر المرء خوان |
إذا عز بغير الله | يوما معشر هانوا |
من رجع من الحج فليحافظ على ما عاهد الله عليه عند استلام الحجر, حج بعض من تقدم فبات بمكة مع قوم فدعته نفسه إلى معصية, فسمع هاتفا يقول: "ويلك ألم تحج؟!". فعصمه الله من ذلك, قبيح بمن كمل القيام بمباني الإسلام الخمس أن يشرع في نقض ما يبني بالمعاصي, في حديث مرسل خرجه ابن أبي الدنيا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لرجل: "يا فلان إنك تبني وتهدم". يعني تعمل الحسنات والسيئات, فقال يا رسول الله: سوف أبني و لا أهدم.
قال الملك الوهاب: (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ)[الكهف: 49], وضع الكتاب للمؤمنين, ووضع الكتاب للمجرمين, وضع الكتاب لأهل الإيمان, ووضع الكتاب لأهل الضلال والطغيان, ووضع الكتاب لأهل الوفاء, ووضع الكتاب لأهل الجفاء, ووضع الكتاب للعاملين, ووضع الكتاب للباطلين.
أيها المؤمنون: من عاش وفيا عاش حميدا ومات سعيدا, ومن عاش خائنا أصبحت حياته هما ونكدا, وموته حسرةً وندما. قال أبو حاتم -رضى الله عنه-: "العاقل يتفقد ترك الجفاء مع الإخوان, ويراعي محوها إن بدت منه, ولا يجب أن يستضعف الجفوة اليسيرة؛ لأن من استصغر الصغير يوشك أن يجمع إليه صغيرا, فإذا الصغير كبير, بل يبلغ مجهوده في محوها؛ لأنه لا خير في الصدق إلا مع الوفاء, كما لا خير في الفقه إلا مع الورع".
وقيل: "إذا أردت أن تعرف وفاء الرجل ودوام عهده فانظر إلى حنينه إلى أوطانه، وتشوقه إلى إخوانه، وكثرة بكائه على ما مضى من زمانه", وقال بعضهم: "قليل الوفاء بعد الوفاء خير من كثيره في حال الحياة". فمن الوفاة للأخ مراعاة جميع أصدقائه وأقاربه والمتعلقين به ومراعاتهم, ومن الوفاء أن لا يتغير حاله في التواضع مع أخيه وإن ارتفع شأنه واتسعت ولايته وعظم جاهه, فالترفع على الإخوان بما يتجدد من الأحوال لؤم.
روى عن يحيى بن معاذ أنه قال: "فقدنا ثلاثة أشياء فما نراها ولا أراها تزداد إلا قلة: حسن الوجه مع الصيانة, وحسن القول مع الديانة, وحسن الإخاء مع الوفاء". وقال سفيان الثوري: "عليك بالمراقبة ممن لا تخفى عليه خافية, وعليك بالرجاء ممن يملك الوفاء, وعليك بالحذر ممن يملك العقوبة".
أيا أخا الأدب: إلى كم ذا الحرص والدأب، الأيام نجمها غرار، ومدعي الوفاء منها غدار، كثيرة الملال، سريعة الزوال، تفرق الحبائب، وتسترجع المواهب، ذمامها ذميم ومسالمها سليم, تحل العقود، ولا تحفظ العهود، تكدر الصافي من الشراب، وتعد الظامئ بورود السراب، لقد سقط من تمسك بعراها، وتعب من قصد الراحة من ذراها.