البحث

عبارات مقترحة:

الخالق

كلمة (خالق) في اللغة هي اسمُ فاعلٍ من (الخَلْقِ)، وهو يَرجِع إلى...

الواحد

كلمة (الواحد) في اللغة لها معنيان، أحدهما: أول العدد، والثاني:...

الإله

(الإله) اسمٌ من أسماء الله تعالى؛ يعني استحقاقَه جل وعلا...

حول حديث أبي ذر الغفاري

العربية

المؤلف علي باوزير
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات الحديث الشريف وعلومه - التوحيد
عناصر الخطبة
  1. نص حديث أبي ذر الغفاري وأهميته .
  2. وقفات حول حديث أبي ذر الغفاري ومعانيه ودلالاته .

اقتباس

الظلم -أيها الأحباب- عاقبته وخيمة، خسارة ووبال على الإنسان، حسرة وندامة يوم أن يأتي الإنسان يوم القيامة يظن نفسه ناجيا بين يدي الله، قد جاء بأعمال كالجبال فيحبطها بالظلم، فيأخذ المظلوم من حسناته حتى إذا فنيت حسناته أخذ من سيئات المظلوم، ووضعت على سيئاته، فرجحت كفة السيئات، فيأخذ بعد ذلك إلى...

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102]. (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1].

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70 - 71].

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

وبعد:

أيها المسلمون -عباد الله-: روى الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي ذر -رضي الله عنه وأرضاه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه عن ربه -تبارك وتعالى- أنه قال: "يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ، يَا عِبـَادِي كُلُّكـُمْ جَائِعٌ إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إِلَّا مَنْ كَسَوْتُـهُ فَاسْتَكْسُونِـي أَكْسُكُمْ، يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ، يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِــي شَيْئًا، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مـِنْ مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُــلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ، يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِـيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ".

حديث عظيم وحديث جليل كان أبو إدريس الخولاني -رحمه الله- راوي هذا الحديث عن أبي ذر -رضي الله عنه- كان إذا روى هذا الحديث جثا على ركبتيه، وكان الإمام أحمد -رحمه الله- يقول: "هذا الحديث هو أشرف حديث لأهل الشام".

حديث عظيم -أيها الأحباب- يحتاج في بيان معناه وفي الوقوف على دلالاته إلى كلام طويل، ولكننا نقف معه وقفات موجزة مختصرة.

الله -تبارك وتعالى- جل في علاه، الجبار العظيم، المتكبر ذو الجلال والإكرام، رب العالمين، إله الأولين والآخرين، يخاطب الناس، يخاطب عباده بخطاب لطيف، وبخطاب رقيق فيه التودد إليهم، وفي التأنيس لهم، يقول لهم: "يا عبادي" ما قال: يا أيها الناس، ولا قال: يا معشر الخليقة، بل قال: "يا عبادي" يشعرهم بقربهم إليه، ويشعرهم بالصلة التي تربطهم به سبحانه وتعالى صلة العبودية التي هي الصلة الوحيدة بين الخلق والخالق، لا نسب بينهم ولا مصلحة بين الخالق والمخلوق إلا العبودية التي تقوم، والتي تؤتى من المخلوق للخالق -سبحانه وتعالى-، وهي شرف عظيم، ومنزلة جليلة عظيمة، هي عز الدنيا ورفعة الآخرة أن يكون الإنسان عبدا لله -تبارك وتعالى-.

"يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي" حرمه سبحانه وتعالى على نفسه لتمام عدله، ولكمال صفاته، فالظلم لا يصدر إلا من ناقص، ولا يتأتى إلا من قاصر، وأما الكامل الذي قد كمل في صفاته، وقد علا في شأنه، فإنه لا يحتاج إلى الظلم، ولا يلجأ إلى الظلم، بل عدله هو الذي يحقق الحكمة والمصلحة.

الله -تبارك وتعالى- لكمال عدله لا يظلم أحد من الناس: (وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ) [فصلت: 46] لا يظلم مسلما ولا يظلم كافرا: (وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا) [النساء: 40] لا يظلم مثقال حبة من خردل، ولا يهضم الإنسان شيئا من حسناته، ولا ينقصه شيئا من ميزانه، بل يوفيه حقه كاملا، ويزيده من عنده أضعافا مضاعفة: (مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ) [الأنعام: 160].

وما كان الله -سبحانه وتعالى- ليظلم أحد من خلقه مهما كان، مهما تجرأ العبد على الله، ومهما تجاوز حدود الله، ومهما ارتكب من محارم الله، فإن الله يعامله بالعدل، بل يزيد على ذلك سبحانه فيعامله بالفضل.

حرم الظلم على نفسه وجعله محرما بين عباده: "وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا" فلا تظالموا -يا معشر الناس- لا يظلم أحدكم غيره، ولا يظلم بعضكم بعضا، فإن الظلم ظلمات في الدنيا والآخرة، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-كما في الصحيحين يقول: "اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة".

والله -تبارك وتعالى- قد يمهل الظالم ويؤخره، ولكنه لا يتجاوز عن ظلمه، قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه وأرضاه-: "إن الله ليملي للظالم" أي يؤخره ويمهله "حتى إذا أخذه" إذا حانت ساعة العقاب، وإذا حانت لحظة المآخذة: "حتى إذا أخذه لم يفلته".

قال الله -تبارك وتعالى: (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) [هود: 102].

الظلم -أيها الأحباب- عاقبته وخيمة، خسارة ووبال على الإنسان، حسرة وندامة يوم أن يأتي الإنسان يوم القيامة يظن نفسه ناجيا بين يدي الله قد جاء بأعمال كالجبال فيحبطها بالظلم، فيأخذ المظلوم من حسناته حتى إذا فنيت حسناته أخذ من سيئات المظلوم، ووضعت على سيئاته، فرجحت كفة السيئات، فيأخذ بعد ذلك إلى النار -والعياذ بالله-: "إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا".

"يَا عِبـَادِي كُلُّكـُمْ جَائِعٌ إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إِلَّا مَنْ كَسَوْتُـهُ فَاسْتَكْسُونِـي أَكْسُكُمْ" حاجات الخلائق كلها عند الله -تبارك وتعالى-.

الناس مفتقرون إلى الله، محتاجون إليه، لا يقدرون على الاستغناء عنه طرفة عين، ولو للحظة واحدة، قال الله -تبارك وتعالى-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) [فاطر: 15]، فجميع حوائج الناس الدينية والدنيوية كلها عند الله -تبارك وتعالى-.

أما الهداية فإنها ليست بيد أحد إلا بيد الله: "كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ" .

الله -تبارك وتعالى- يخاطب نبيه وحبيبه وخليله وصفيه وخير خلقه، فيقول له: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء) [القصص: 56].

يخاطب الله -تعالى- المشركين ويحاجهم، فيقول: (قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) [يونس: 35] الذي بيده الهداية أليس هو الذي أحق بالعبادة؟ الذي بيده قلوب العباد ومفاتيحها؟ أليس هو الأحق بالتأليه والربوبية سبحانه وتعالى؟

ومن يضلل الله -سبحانه وتعالى- فلن تجد له وليا مرشدا، فليست الهداية إلا من الله -تبارك وتعالى-، ولهذا أمرنا في كل ركعة من صلاتنا أن نقول: (اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ) [الفاتحة: 6].

كان حبيبنا ونبينا -صلى الله عليه وسلم-كان يكثر في دعائه من أن يقول: "اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك" علم أن الهداية ليست بيده، وأن قلبه ليس في قبضته، وإنما قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، فالتجأ صلى الله عليه وسلم إلى ربه ليهديه سواء السبيل، فغيره من باب أولى وأحرى أحوج إلى أن يسأل الله -تبارك وتعالى- الهداية والثبات.

كذلك الطعام، كذلك الشراب، كذلك الكساء، كذلك المسكن، سائر الحاجات التي يحتاجها الإنسان في حياته إنما يجدها عند الله -تبارك وتعالى- ليست بيد مخلوق مهما كان هذا المخلوق وإنما هي بيد الله -تبارك وتعالى-: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُم مِّن شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) [الروم: 40].

إبراهيم -عليه السلام- لما وقف يخاصم قومه ويحاجهم، قال لهم: (قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ) [الشعراء: 75 - 77] من هو رب العالمين؟ (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) [الشعراء: 78 - 82] الذي بيده مقاليد الأمور، الذي بيده حاجات الخلائق الحي القيوم -سبحانه وتعالى- هو الأحق بالعبادة والإلوهية، وهو الذي ينبغي أن يتجه الخلق إليه، ويتوجهون بسؤالهم ودعائهم إليه سبحانه وتعالى.

"يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا" ابن آدم جُبل على المعصية، جُبل على المخالفة طبيعة جعلها الله -تبارك وتعالى- فيه، وليست هذه عيبا بحد ذاتها، وإنما هذا هو مقتضى حكمة الله -تبارك وتعالى- في خلق الإنسان، في صحيح مسلم عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون ثم يستغفرون؛ فيغفر لهم" فالذنب والمعصية ليست بحد ذاتها عيبا، لكن المطلوب من الإنسان أن يبادر بالتوبة وأن يبادر بالأوبة والرجوع إلى الله -تبارك وتعالى-: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ) [آل عمران: 135] مباشرة دون تأخير، دون تأجيل، يسارعون إلى الاستغفار، يسارعون إلى التوبة والرجوع إلى الله: (فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ) [آل عمران: 135].

من هو الذي يمحو هذه الذنوب؟ من الذي يسترها؟ من الذي يتجاوز عنها؟ من الذي يعفو عنها؟ أهناك أحد في هذا الكون كله يقدر على أن يغفر ذنبا واحدا إلا الله -تبارك وتعالى-: (وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ) [آل عمران: 135].

كان نبينا -صلى الله عليه وسلم- تعرفون قدره، تعلمون مقامه، وأنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، كان يقول عن نفسه: "إني لاستغفر الله وأتوب إليه في اليوم مائة مرة".

ابن عمر -رضي الله عنه وعن أبيه وأرضاهما- يقول حاكيا حال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن كنا لنعد لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المجلس الواحد أكثر من مائة مرة يقول: اللهم اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم" في مجلس واحد فقط يقول أكثر من مائة مرة: "اللهم اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم".

ما أحوج العبد إلى الاستغفار، ما أحوجه إلى التوبة، ما أحوجه إلى الرجوع إلى الله -تبارك وتعالى-، ما أحوجه من الندامة على ما قدمت يداه، ما أحوجه إلى أن ينطرح بين يدي الله، ما أحوجه إلى أن يتضرع ويبتهل إلى الله -تبارك وتعالى- أن يعفو عنه، وأن يتجاوز عن سيئاته.

الله -تبارك وتعالى- غفور رحيم: "إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ" وعد من الله -تبارك وتعالى- والله لا يخلف الميعاد.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقرارا به وتوحيدا، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليما مزيدا.

وبعد:

أيها الأحباب الكرام: يقول الله -تبارك وتعالى- في هذا الحديث القدسي العظيم: "يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي" العباد مهما كثروا، ومهما اجتمعوا، ومهما تظافروا وتعاونوا، فإنهم لن يستطيعوا أن يضروا الله -تبارك وتعالى- في شيء أبداً، لن ينقصوه من ملكه شيئا، ولن يزيدوا في ملكه شيئا، ليس لهم من الأمر شيء أبداً، فكيف يستطيعون أن يضروا من بيده مقاليد كل شيء سبحانه وتعالى؟!

أمر العباد بالطاعة لا لحاجته إليها، ولا لقصور أو نقص تكمله هذه العبادة، إنما أمرهم بالعبادة لأنفسهم؛ كما في آخر الحديث: "إِنَّمَا هِـيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا" فلا يمن العابد على الله بعبادته، ولا يمن العامل على الله بعمله، الله -تبارك وتعالى- يخاطب نبيه -صلى الله عليه وسلم- فيقول: (وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ) [المدثر: 6]، لا تمن على الله -تبارك وتعالى- بعملك، ولا تستكثر هذا العمل في حق الله -تبارك وتعالى-، فإن العبد مهما أطاع الله، ومهما قام بأداء الفرائض، ومهما أدى من النوافل، ومهما اجتهد في العبادات والقربات، فإنه لن يستطيع أداء شكر نعمة واحدة من نعم الله -تبارك وتعالى-.

ولو أن أحد الناس عبد الله من حين أن يولد إلى أن يموت هرما شيخا كبيرا، ثم جاء يوم القيامة لحقر هذا العمل كله في جنب الله -تعالى- وفي حق الله -تبارك وتعالى-، فحق الله عظيم، وحق الله كبير، لا يستطيع العباد أن يوفوه أبداً، فبماذا يمن الإنسان على الله؟ وعلى ما يستكثر عمله في حق الله -تبارك وتعالى-؟

النفع إنما هو للعبد والفائدة إنما هي للعبد، أما الله -تبارك وتعالى- فلا ينتفع من هذا العمل بشيء: (وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ اللّهَ شَيْئاً) [آل عمران: 176] كفر الكافرين لا يضر الله، وإيمان المؤمنين لا ينفعه، وإنما النفع والضرر على العباد: "لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مـِنْ مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مـِنْ مُلْكِي شَيْئًا".

ثم يقول الله -سبحانه- في الحديث القدسي يقول: "يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ" اجتمع الخلق جميعا كلهم من أولهم إلى آخرهم من الإنس والجن، أعداد هائلة لا يحصيها إلا الله، ولا تخطر على بال إنسان، لو أنهم جميعا اجتمعوا في مكان واحد، وسأل كل واحد منهما مسألته، هذا سأل الذهب والفضة، وذاك القصور والبنايات، وذاك طلب المراكب الفاخرة، وذاك طلب الملابس النفيسة؛ فإن الله -تبارك وتعالى- يعطي كل واحد مسألته، ولا ينقص ذلك من ملك الله -تبارك وتعالى- شيئا: "إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ" أرأيت الإبرة لو غمستها في ماء البحر فبماذا تخرج من ماء البحر؟ لا تخرج بشيء منه، فهكذا حوائج الخلق جميعا إن سألوها ربهم فأعطاهم إياها كل واحد على ما يتمنى ويشتهي، فإنها لن تنقص من ملك الله شيئا أبداً.

ونبينا -صلى الله عليه وسلم- لأجل هذا الأمر أرشدنا إلى العزيمة في المسألة، وألا يتردد الإنسان في الدعاء، يقول صلى الله عليه وسلم: "إذا دعا أحدكم فليعزم المسألة ولا يقل: رب اغفر لي إن شئت" لا تعلق الدعاء بالمشيئة، بل اعزم المسألة واجزم بها، فإن الله لا يتعاظمه شيء.

وكيف يتعاظمه شيء وعطاؤه كلام، ورزقه كلام: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [يس: 82].

لا تخضعن لمخلوق على طمع

فإن ذاك مضر منك بالدين

واسترزق الله مما في خزائنه

فإنما هي بين الكاف والنون

"يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِـيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا" إن عملتم فعملكم سيعود إليكم، ولن ينتفع الله -تبارك وتعالى- بشيء من ذلك أبداً: (لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ) [الحـج: 37].

"فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا" من وجد عملا صالحا "فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ"؛ لأن الفضل لله أولا وآخرا، فهو الذي وفقك للعمل، وهو الذي أثابك على هذا العمل، هو الذي هداك إليه، وهو الذي جازاك عليه، ولهذا حين يدخل أهل الجنة يحمدون ربهم -تبارك وتعالى- فيقولون: (الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ) [الأعراف: 43]، ويقولون: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) [فاطر: 34]، ويقولون: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ) [الزمر: 74].

"وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ" من وجد خزيا وندامة، من وجد فضائح وقبائح، من وجد عقابا ونكالا، "فلا يلومن إلا نفسه" فإنه هو الذي جنى على نفسه، وهو الذي أوردها المهالك، وهو الذي أوقعها فيما صارت إليه.

الشيطان الذي يوسوس للإنسان ويزين له سوء عمله يتبرأ منه يوم القيامة: (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ) [إبراهيم: 22].

(فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم) هو الذي وسوس، وهو الذي زين، وهو الذي زخرف، وهو الذي أغوى، وهو الذي أضل، ومع ذلك يتبرأ من الإنسان ويقول له: (فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم) فالإنسان رقيب على نفسه، والإنسان حسيب على عمله، واليوم عمل ولا حساب، وغدا حساب ولا عمل.

حديث عظيم، حقا على كل واحد منا أن يحفظ كلماته، وأن يتدبر معانيه: "يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ، يَا عِبـَادِي كُلُّكـُمْ جَائِعٌ إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إِلَّا مَنْ كَسَوْتُـهُ فَاسْتَكْسُونِـي أَكْسُكُمْ، يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ، يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِــي شَيْئًا، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مـِنْ مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُــلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ، يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِـيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ".

اللهم اهدنا إلى ما تحب وترضى...