الباطن
هو اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على صفة (الباطنيَّةِ)؛ أي إنه...
العربية
المؤلف | طالب بن عمر بن حيدرة الكثيري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - أهل السنة والجماعة |
إن حديثي وإياكم في هذه الجمعة المباركة عن طائفةٍ أحبها الله، عن طائفة قربها الرحمن الرحيم، عن طائفة لطالما قصّرنا في حقها، لطالما فرّطنا في معالجة أسباب خطئها، لم نمد لهم من الأيدي ما يدعوهم إلى الهداية والتوبة، لم نيسر لهم من أسباب السعادة ما يدعوهم إلى...
الخطبة الأولى:
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70 - 71].
إن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أما بعد:
معاشر المؤمنين، يا أهل الإسلام والإيمان: إن من عظيم الخير أن يوفق العبد الصالح بعد رمضان للخير وطاعة الله الرحمن، ما أعظم ما أعظم أن تكون -يا عبد الله- في اجتهاد بعد رمضان؛ في قيامك وصيامك ووردك من القرآن وذكرك لله -سبحانه وتعالى-، ما أجمل -والله- أن تزدحم مساجدنا بعد رمضان كما كانت بالمصلّين والدّاعين والقارئين للقرآن والمتحلّقين في حلقات العلم.
إن هذا -أيها الإخوة- لمن علامات القبول، إن هذا -أيها الإخوة- لمن آثار الإثابة والإجابة.
جعلني الله وإياكم من المقبولين، جعلني الله وإياكم من المرحومين، وبلّغنا دائماً مواسم الطاعات، ونحن في خير وازدياد لله من القربات.
إن العبد إذا علم هذا -أيها الإخوة- بادر أن يفتح صفحة جديدة بعد رمضان، عنوانها: التوبة، ومدادها: الشوق إلى طاعة الله، وكتابتها: الحسنات، ومحوها: السيئات، يٌقبل على الله -سبحانه وتعالى- بالطاعة في ما بقي من سنته، بل في ما بقي من عمره؛ ليختم الله -سبحانه وتعالى- له بصالح الأعمال، فما أجمل أن نحدّث أنفسنا دائماً بالإقبال إلى رحمة الله، فما زال ربك يعرض على عباده رحمته، ويدعوهم إلى التوبة والاستغفار.
والسعيد -أيها الإخوة- من سعد بطاعة الله، والفائز لمن فاز بجنة الله -سبحانه وتعالى- وبرحمته.
إن حديثي وإياكم في هذه الجمعة المباركة عن طائفةٍ أحبها الله، عن طائفة قربها الرحمن الرحيم، عن طائفة لطالما قصّرنا في حقها، لطالما فرّطنا في معالجة أسباب خطئها، لم نمد لهم من الأيدي ما يدعوهم إلى الهداية والتوبة، لم نيسر لهم من أسباب السعادة ما يدعوهم إلى التوبة والاستقامة والثبات، أخطأنا وصية الله فيهم، وهدي رسولنا -صلى الله عليه وسلم- معهم؛ إنهم التائبون، فاتقوا الله في التائبين، واستوصوا خيراً بالمقبلين والعائدين.
التائبون -أيها الإخوة- ما زال الله -تعالى- يعرض عليهم رحمته حتى قال: (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى) [طه: 82] فما أجمل عودتهم إلى الله، وما أجمل إقبالهم إلى طاعة الله.
ما زال صلى الله عليه وسلم يحدثنا عن التوبة حتى ذكر باباً فتحه الله -سبحانه وتعالى- من قبل المغرب، يسير الراكب في عرضه أربعين سنة أو سبعين سنة، قال سفيان: "قبل الشام، فتحه الله منذ خلق السماوات والأرض للتوبة، لا يغلقه الله -تعالى- حتى تطلع الشمس منه".
هكذا -أيها الكرام- لنوسّع لهؤلاء التائبين المقبلين رحمة الله، ولنذكّرهم بكريم عفو الله، ما حال بعضنا -للأسف الشديد- وهم يقنّطون فلانًا وفلانًا أن يتوب، أو يئيسون فلانًا وفلانًا أن يرحمه الله، إلا كقصة رجلين أخبرنا عنها عليه الصلاة والسلام، إن رجلين من بني إسرائيل كانا متواخيين، وكان أحدهما مذنبًا وكان الآخر مجتهدًا في العبادة، فكان هذا المجتهد يقول للمذنب: أقصر أقصر، وما زال عليه يأمره بذلك، حتى مرّ عليه وهو على ذنب، فقال له: أقصر، فقال هذا المذنب: خلّني وربي، إنك لم تُبعث عليّ رقيبا؛ خلّني وربي، إنك لم تُبعث عليّ رقيبًا، فما كان من هذا المجتهد إلا أن قال كلمة، قال: والله لا يغفر الله لك، أو قال: والله لا يدخلك الله الجنة، فقبض الله أرواحهما، فاجتمعا عند رب العالمين، فقال الله -عز وجل-: من ذا الذي يتألى عليّ أن لا أغفر لفلان؟ من ذا الذي يتحكم برحمة الله؟ من ذا الذي يأمر الله أن لا يغفر لفلان؟ ثم قال الله لهذا المجتهد: أكنت بي عالما، أو كنت على ما في يديّ قادرا! ثم قال الله -تعالى- للمذنب: اذهبوا به إلى الجنة، وقال لهذا المجتهد: اذهبوا به إلى النار، يا الله قال: كلمة أوبقت دنياه وآخرته، فاتقوا الله في التائبين، إذا خاطبتموهم فلا تخاطبوهم وملؤكم العجب والغرور بأعمالكم، إذا كلمتموهم فلا تكلموهم وأنتم تضّيقون عليهم رحمة الله؛ فتكونوا كهذا الرجل.
إن منهج الكتاب والسنة منهج عظيم في معالجة أخطاء هؤلاء، وفي دعوة هؤلاء للتوبة والاستقامة، إن ربكم الذي عُصي جنابه، وأذنبوا هم في حقّه، ناداهم فقال: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الزمر: 53].
هذا هو منهج القرآن، وهو منهج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خير ولد عدنان، أو نسيتم أبا طويل "شطب الممدود" لمَّا جاء إلى رسولكم -صلى الله عليه وسلم-، جاءه وقد احدودب ظهره، ورقّ عظمه، وسقط حاجباه على عينيه، فقال: يا محمد، شيخ كبير، لم يترك معصية ولا سيئة إلا أتاها، لم يترك حاجة ولا داجّة إلا فعلها، لم يترك صغيرة ولا كبيرة إلا ارتكبها، أفله توبة؟! ماذا قال صلى الله عليه وسلم لهذا التائب؟ قال له عليه الصلاة والسلام: "أو قد أسلمت"، قال: أما أنا فأشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، قال: "تفعل الخيرات وتترك السيئات، ويجعلهن الله كلهن خيرات"، قال: وغدراتي وفجراتي؟ قال صلى الله عليه وسلم: "نعم"، يجعلهن الله كلهن خيرات"، فما زال يكبر: الله أكبر حتى توارى [رواه البزار والطبراني بسند صحيح].
فاستوصوا بالتائبين خيرا، واتقوا الله إذا جلستم مع هؤلاء التائبين، افرحوا بتوبتهم، قرّبوهم منكم، عظموا أمرهم، أليس التائب حبيب الرحمن! (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ) [البقرة: 222].
بلى -والله- لنفرح بتوبة هؤلاء، لنفرح بعودتهم إلى الله، لنفرح برجوعهم إلى الحق: "لله أشد فرحاً بتوبة عبده من أحدكم كان على راحلته، وعليها طعامه وشرابه، ثم انفلتت منه وأيس من الحياة، واضطجع تحت شجرة، ينتظر الموت، فإذا بها قائمة فوق رأسه"، إي -والله- أقبلوا على الله، ففرح الله، وعادوا إلى الله، فأحبهم الله.
ونحن -أيها الإخوة- إذا جاء هؤلاء التائبون يقبلون على ربهم -سبحانه وتعالى-، كيف لا نفرح؟ كيف لا نحبهم؟ كيف لا نكرمهم ونجلّهم؟ فقد أحبهم رب الأرض والسماوات، وفرح بتوبتهم الله -سبحانه وتعالى- رب البريات.
أم أين أنتم من قصة توبة كعب بن مالك وصاحبيه، الثلاثة اللذين تخلّفوا عن غزوة تبوك، وفي آخر القصة قال كعب: فبينما أنا فوق بيت من بيوتنا، وقد أخبر الناسَ صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا، فانطلق إلى صاحبي مبشّرون، وركض رجل على فرس، وانطلق نحوي ليُبشّرني، وركض رجل آخر، فارتفع على جبل سلع، ونادى بأعلى صوته: أبشر، يا كعب بن مالك، فخررت لله ساجدا، قال: فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني خلعت ثوبيّ، فكسوته إياه ببشارته، والله ما عندي ثوبان غيرهما، ثم استعرت ثوبين، وذهبت إلى رسول الله -عليه الصلاة والسلام- قال: والناس فوجاً فوجاً يهنئونني، يالله؛ يقول: والناس فوجاً فوجاً يهنئونني، ويقولون: لتهنئك توبة الله عليك يا كعب، قال: فدخلت المسجد وقام طلحة بن عبيد لله يهرول حتى صافحني وهنئني بالتوبة، ثم جاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يبرق وجهه بالسرور، وكان إذا سُرّ عليه الصلاة والسلام فكأنما فلقة قمر يتلألأ، فقال: أبشر، يا كعب بخير يوم منذ ولدتك أمك، قلت: أمن عندك أم من عند الله؟ قال: بل من عند الله، كل هذا -أيها الإخوة- يُفعل لمن؟ للتائب، قاموا يهنئونه، أرسلوا له الخيل، وطار المبشر على أعلى جبل، واستقبله رسول الله بالسرور، أو قد فتح العالم! أو قد جاء بعظيم الصدقات والغنائم! لا، لكنه أقبل إلى الله تائباً فقبله الله، أقبل على الله عائداً، ففرح الله به، هكذا كانوا يفعلون مع التائبين.
رأى بن مسعود ذاك التائب الذي تاب، فأخذه واحتضنه، وقال: "مرحبا بحبيب الله".
فلنتقِ الله فيهم -أيها الإخوة- لنتقِ الله فيهم، إن أقواماً يعنفون هؤلاء التائبين بماضيهم، لهم والله خرجوا عن منهج الله في التعامل معهم، وأخطؤوا هدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في تقريبهم إلى الخير والهدى والرشاد، ألم يخطئ الصالحون؟ وكلنا خطّاء، وخيرنا هؤلاء التائبون، ألم يعص الله -سبحانه وتعالى- من هم أفضل منا وأشرف، لكن رفع الله لهم المقامات، وشرّفهم الله -سبحانه وتعالى- في أعلى الدرجات، لما أقبلوا على الله بالتوبة والاستغفار.
هذا موسى -عليه السلام- يحتج مع آدم -عليه السلا-، والقصة في الصحيحين من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- اسمعوا ماذا قال موسى لآدم -عليهما السلام-، وآدم هو التائب الذي تاب الله عليه، قال موسى: أنت آدم الذي خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، وأدخلك الجنة، أنت آدم الذي أخرجت الناس، وأشقيتهم بذنبك وخطيئتك، أخرجتهم من الجنة، فقال آدم -عليه السلام-: وأنت موسى الذي اصطفاك الله برسالته وبكلامه، وأنزل عليك التوراة، تلومني على أمر قدّره الله عليّ قبل أن يخلقني؟ قال صلى الله عليه وسلم: "فحجّ آدم موسى" نعم، لا يحتج بالذنب على المعائب، لكن بعد التوبة لا يجوز أبداً -أيها الإخوة- أن نعنف هؤلاء على أمر قدّره الله -سبحانه وتعالى- عليهم، ثم كتب لهم التوبة والقبول، إن الحسنة تذهب السيئة، إن الله -سبحانه وتعالى- قال: (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) [الفرقان: 70].
كيف تلوم إنسان وقد بدّل الله سيئته حسنة؟ كيف تلومه؟ لو أنك لمته قبل التوبة لكان لك ذاك، لكن تلومه وتعنفه بعد أن تاب واستقام، هذا -والله- هو الخطأ العظيم الكبّار، فلنتقِ الله في هؤلاء التائبين، ولنستوصِ بهم خيراً، إن من تاب لا ينبغي أبداً أن تذكر معصيته على وجه اللوم والتعنيف، وإنما لنا أن نذكرها على وجه العبرة وشكر النعمة على أن هداه الله -سبحانه وتعالى- ووفقه.
إن امرأة من بني غامد، زنت على عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فأمر بها صلى الله عليه وسلم فرجمت، فجاءها خالد بن الوليد -رضي الله تعالى عنه-، فأخذ حجراً فرماها به، فنضح الدم من رأسها، فوقع على وجه خالد فسبّها، فما كان من رسولكم -عليه الصلاة والسلام- إلا أن وقف مع هذه التائبة، ودافع عن عرض هذه العائدة: "مهلاً يا خالد، والله لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر الله له" ثم أمر بها فصلى عليها ودفنت [رواه الإمام مسلم].
أيها الإخوة الكرام: لننظر في تعاملنا مع هؤلاء التائبين، ووالله والذي نفسي بيده، إن بعض الناس هو السبب في عدم توبة بعض المخطئين، هيه، تريد أن تعرف لماذا؟ اسمع هذا الحديث، اسمع ما رواه الإمام أحمد والبيهقي في شعب الإيمان بسند صحيح يقول صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبو هريرة -رضي الله تعالى عنه- قيل: يا رسول الله، إن رجلاً يصلي بالليل فإذا أصبح سرق، ماذا ستقولون أنتم؟ ماذا سنقول نحن؟ إن رجلاً يصلي بالليل، فإذا أصبح سرق، فقال عليه الصلاة والسلام: "سينهاه ما تقول"، نعم، قيامه بالليل حسنه عظيمة، وبإذن الله -عز وجل- ستجعله يترك هذه السرقة وهذه المعصية، هكذا فعل عليه الصلاة والسلام، وانظر للناس اليوم يحرّجون بالحسنة، ويذمّون عليها المخطئ.
أخي في الله: ليس هذا منهج معالجة الأخطاء، فإذا أخطأ الواحد تركوا الخطأ، وبدؤوا يلومونه على الصواب، وتجد الواحد منهم يقول: وعاده يصلي! وعاده يحزّب في المسجد! وعاده بغَ نفسه مطوّع! وعاده يحضر المحاضرات! وعاده بغَ نفسه من أهل الخير! وعاده يقرأ القرآن! وعاده مسوّي له لحية! أيّ شي هذا -أخي في الله-؟ لماذا تذكر الصحيح؟ لماذا تلوم على الصواب؟ لماذا لا تُخطيء الخطأ، وتمدح الحسنة؟ ما هذا -والله- بمنهج رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أما رسولنا فقيل له: فلان يقوم الليل، فإذا أصبح سرق، ما قال: وعاده يقوم الليل، قال: "سينهاه ما تقول"، حسنته هذه طيّبة، وبإذن الله ستجعله يترك السيئة، هكذا قال صلى الله عليه وسلم.
أما ما يروجه بعض الناس: من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعدًا، فهو حديث باطل مكذوب، ما قاله صلى الله عليه وسلم، وليس هذا بمنهجه، كيف يكون الخير لا يقرّب الناس من الله؟ فصلِ وحافظ على الصلاة وداوم عليها، وبإذن الله سيوفقك الله لترك الشر وللثبات على الخير.
أيها الإخوة الكرام: إن بعضنا -للأسف- هو العقبة التي تمنع هؤلاء من التوبة، إن كثيراً من التائبين الذين يريدون أن يتوبوا، يعلمون سعة رحمة الله، وليسوا بآيسين أن الله سيقبلهم على ذنوبهم، لكن يخافون من المجتمع أن لا يقبلهم إذا تابوا إلى الله، يخافون منا -للأسف- أن نأكلهم بألسنتنا إذا أقبلوا إلى الله، بدلاً أن نحتضنهم ونفرح بهم، ونوسع لهم رحمة الله، ونعينهم على الهداية والثبات والاستقامة، نكون نحن -للأسف- بكلامنا وأفعالنا الذين نمنع الناس من رحمة الله -عز وجل-، ونصدّهم، وسوف نسأل يوم القيامة -وربي- سنسأل يوم القيامة، فاتقوا الله -عز وجل-، وانظروا وعودوا إلى منهاج رسولكم -صلى الله عليه وسلم-.
هذا رجل يقال له: عبد الله، وكان يلقّب: حماراً، وكان يُضحك الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وكان يشرب الخمر، وكم جلده صلى الله عليه وسلم على شربها! فأوتي به يوماً، فأمر به، فجُلد، فقال رجل: اللهم العنه، ما أكثر ما يُؤتى به، فقال عليه الصلاة والسلام: "لاتلعنوه، فوالله ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله" [رواه البخاري].
دافع عنه صلى الله عليه وسلم، وذكر حسنته عليه الصلاة والسلام، وهي التي ستدعوه إن شاء الله أن يترك هذه المعصية، هذا هو هدي رسولكم -صلى الله عليه وسلم-، فاتقوا الله في التائبين، واستوصوا خيراً بالعائدين، ودافعوا عن أعرضهم، وقفوا معهم حتى يكثر في المجتمع الصلاح، ويكثر فينا أمثال هؤلاء العائدين والآئبين إلى الله.
قلت ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم، واعلموا أن التائب من الذنب كمن لا ذنب له.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، أحب المحسنين، وقرّب المتقين، وأمهل المذنبين، وتاب على التائبين، وصلاة وسلاماً على المبعوث بالرحمة إلى يوم الدين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان، وسلم تسليماً كثيرًا.
قد علّمنا التائب أن أفضل العبادة ما كانت بنفس منكسرة مقبلة إلى الله مخبتة، فما أجمل السجود! وما أحرّ الدعاء! عندما تخالطه توبة التائبين ودموع المقبلين! ما أعظم عبادة الذل والانكسار بين يدي رب العالمين، قيل لسعيد ابن المسيب: من أفضل الناس عبادة؟ قال: التائب، قام في قلبه من الذل والانكسار والخوف من الله ما جعل عمله أرجى عملٍ للقبول: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) [المؤمنون: 60] قال عليه الصلاة والسلام: "هو الذي يصلي ويصوم ويتصدق، ويخاف أن لا يتقبل الله منه".
علّمنا التائب أن لا نفرح بحسناتنا، ولا نغتر بأعمالنا، فنصاب بالعجب والغرور، والعجب من أخطر الذنوب، وأفتك الأمراض.
علّمنا التائب أن التوبة إلى الله تعبّد لله بعبودية عظيمة، كان يُكثر منها صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد مائة مرة، تعبّدٌ لله باسمه الرؤوف الرحيم، واسمه الكريم الحليم، واسمه العفو الغفور، واسمه التواب، تعبدٌ لله بأسماء كريمة عظيمة، تسمّى الله بها، وأمرنا أن نسعى ونعمل بمقتضاها.
فما أجمل توبة التائبين! وعودة العائدين! فاستوصوا بالتائبين خيرًا، واتقوا الله في معاشر التائبين، واستروا أخطاءهم، ودافعوا عن أعراضهم.
مرّت امرأة في سوق المدينة، تحمل صبياً لها، وثار الناس خلفها، حتى وقفت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بصبيّها، فقال: "من أبو هذا معكِ؟" فسكتت، فقال شاب كان حذوها: أنا أبوه يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم لها: "من أبو هذا معكِ؟" فقال: أنا يا رسول الله، فنظر عليه الصلاة والسلام إلى القوم، فقالوا: ما علمنا عليه إلا خيرا، فقال له رسول الله -عليه الصلاة والسلام-: "أو قد أحصنتَ؟" قال: نعم، فأمر به عليه الصلاة والسلام فرجم، قال الراوي: فأخذناه فرجمناه حتى هدئ، فجاء رجل يسأل عنه، فقلنا: يا رسول الله، إن هذا الرجل جاء يسأل عن الخبيث، فقال صلى الله عليه وسلم: "لا، لهو أطيب عند الله من ريح المسك"، هكذا وقف صلى الله عليه وسلم ليدافع عن هذا التائب، قال: فإذا به أبوه، فأعناه على تغسيله وتكفينه.
أيها الإخوة الكرام: إذا أقبل هؤلاء التائبون، فاتقوا الله فيهم، وافتحوا لهم أبواب الرحمة، وذكّروهم بعظيم عفو الله، ولا تعنّفوهم، وعلّموهم طرق الثبات، وأعينوهم على أسباب الهداية، وامتثلوا منهج الرسول -صلى الله عليه وسلم-، قد جاء شاب، فقام بين يدي رسولكم -صلى الله عليه وسلم-؛ حتى نتعلم كيف كان يعاملهم عليه الصلاة والسلام؟ فقال: يا رسول الله، ائذن لي بالزنا، انظر ماذا يريد؟ لا يريد أن يزني فقط، يريد أن يأذن له الرسول -عليه الصلاة والسلام-، ويحل له الزنا! فثار الناس ليزجروه، فما كان من رسولكم -عليه الصلاة والسلام- إلا أن قال للناس: "مه مه، اقرب مني" فاقترب منه، فقال له صلى الله عليه وسلم يحاوره: "أتحبه لأمك؟" قال: لا؛ جعلني الله فداءك يا رسول الله، قال: "والناس لا يحبونه لأمهاتهم، أتحبه لبنتك؟" قال: لا؛ جعلني الله فداءك، قال: "والناس لا يحبونه لبناتهم، أتحبه لأختك؟" قال: لا؛ جعلني الله فداءك، قال: "والناس لا يحبونه لأخواتهم، أتحبه لعمتك؟"، "أتحبه لخالتك؟" وهو يقول: لا؛ جعلني الله فداءك، فما زال به صلى الله عليه وسلم حتى وضع يده على صدره، وقال: "اللهم اغفر ذنبه، وطهر قلبه، وحصن فرجه" فكان هذا الشاب بعدها لا يلتفت لشيء، الله أكبر! ماذا فعل صلى الله عليه وسلم به؟ قرّبه، منع الناس أن يزجروه، وضع يده على صدره، دعا له صلى الله عليه وسلم، استأصل هذه المعصية من قلبه، يوم أن أثار في قلبه الغيرة على عرضه وأعراض المسلمين، يوم أن جعله يصرخ بملء فيه: لا؛ جعلني الله فداءك؛ ليحيي فيه حب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والدفاع عن دينه، وكم من هؤلاء الشباب -والله- على معصيتهم، فيهم غيرة على أعراضهم، وفيهم غيرة على أعراض المسلمين، وعندهم من الحب لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما يجعل الواحد منهم على معصيته يقدّم دمه رخيصاً فداءً لسنة وهدي رسول -صلى الله عليه وسلم-، فأقبلوا عليهم بمنهاج رسولكم، وعلّموهم، وافرحوا بهم، وقرّبوهم إلى الحق حتى يكثروا بيننا، فيبارك الله -سبحانه وتعالى- لنا فيهم، ويُعظم الله -سبحانه وتعالى- لنا بهم الرحمة.
يا معاشر الآباء: إن من الآباء -للأسف الشديد- مَن إذا فجر ابنه تركه، وما كلّمه ولا نصحه، وقال: ماذا أفعل فيه؟ ما أستطيع عليه، فإذا تاب وأقبل إلى الله، وانكسر بين يدي الله، وأطاع والده فإذا به يعنّفه ويذمّه، ويذكره بالماضي الذي كان يفعله: بئس ما فعلت! يا أخي في الله! بئس ما فعلت يا أيها الأب الفاضل! كان أولى بالتعنيف قبلها، وكان أولى بالمحبة بعدها، فاتقِ الله -عز وجل-.
يا أهل المساجد: إن منا -للأسف الشديد- من إذا رأى أمثال هؤلاء، يقبلون على المسجد، أكله بنظره وببصره، وتابعه بعباراته وغمزاته، ماذا يريد؟ لماذا جاء إلى المسجد؟ يشكك في نيته؛ يريد يسرق، يريد يفعل، يريد يريد، اتقِ الله -عز وجل-، ولا تكن أنت هذا الرجل، بل أقبل عليهم واستقبلهم وعانقهم واعنهم، ومدّ لهم يداً من الهداية، وابتسامة صادقة فرحاً بتوبتهم، وعودتهم إلى الله.
أيها الإخوة الكرام: لنكن يداً واحدة في محاربة الجريمة والإفساد، ولنكن يداً واحدة في مساعدة أمثال هؤلاء للإقبال على الله، والتوبة والرجوع.
اللهم يا غفور يا كريم، يا ودود يا حليم، يا رحمن يا رحيم، اللهم لا تدع لنا في هذا المقام ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرّجته، ولا عسيراً إلا يسّرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ولداً إلا أصلحته، ولا والداً إلا وفقته، ولا داعياً إلا سددته، ولا شاباً إلا هديته، ولا حيرانًا إلا دللته، ولا تائبا إلا قبلته.
اللهم يا ربنا يا رحمن يا رحيم، ندعوك دعاء المساكين، ونبتهل إليك ابتهال الخائف الضرير، ندعوك دعاء من ذلّ لك قلبه، وخضع لك عنقه، وفاضت لك عيناه أن لا تفرق هذا الجمع إلا بذنب مغفور، وسعي مشكور، وعمل متقبل مبرور.
اللهم تقبل منا رمضان، اللهم وفقنا للطاعة بعد رمضان، اللهم واجعلنا ممن أعتق من نيرانك، وفاز برضوانك، وأقبل عليك فأقبلت عليه، وتاب بين يديك فأحببته، وفرحت به.
اللهم يا ربنا يا رحمن من نعبد وأنت الرب المعبود، ومن نسترحم وأنت الرحيم الودود، ومن نسأل وأنت ذو الكرم والجود.
اللهم فاغفر لنا ذنوبنا، واستر لنا عيوبنا، وارفع لنا درجاتنا، وتقبل منا حسناتنا، وكفّر عنا سيئاتنا، واغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات؛ الأحياء منهم والأموات.
اللهم انصر وأعز الإسلام والمسلمين، وأذل واهزم الشرك والمشركين، لا إله إلا أنت سبحانك إن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.