الأول
(الأوَّل) كلمةٌ تدل على الترتيب، وهو اسمٌ من أسماء الله الحسنى،...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - الدعوة والاحتساب |
إن الصحافة من الموازين التي تقاس بها درجة الرقي في شعب من الشعوب، كما أنها أحد عوامل الإصلاح والخير إذا قبض على زمامها من لهم خبرة بها, وكانوا من أهل الدين والخلق. ليس من الصعب على الإنسان إذا فحص حالة الجرائد في قطر من الأقطار؛ أن يقرر حكمًا تقريبيًّا عن مبلغ نهضة أهل ذلك القطر وشكل مزاجهم....
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي اجتبى من صفوة عباده عصابة الحق، وخصهم من بين سائر الفرق، وأفاض عليهم من نور هدايته ما كشف به عن الحقائق، وأنطق ألسنتهم بحجته التي قمع بها ضلال الملحدين، وصفى سرائرهم من وساوس الشياطين، وطهر ضمائرهم عن نزغات الزائغين، وعمر أفئدتهم بأنوار اليقين حتى اهتدوا بها إلى أسرار ما أنزله على لسان نبيه وصفيه محمد -صلى الله عليه وسلم- سيد المرسلين، وصفوة خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
عباد الله: عندما تنقلب القيم، وتنتكس الفِطَر، وتختل الموازين، وتتغيّر المفاهيم، وعندما يَقِلّ العدل وينعدم القسطاس المستقيم، فلا تعجب حينما تتحول الصحافة إلى سخافة, ويصير بعض الصحفيين مُصحفين ومزورين.
إن حديثنا اليوم عن تلك الصحافة التي خلت من الحياء، وانتزع عنها جلباب الخير، ولبست لباس البهتان والكذب والزور، وهذا هو حال الصحافة في كثير من بلدان المسلمين اليوم -وللأسف الشديد-.
بدلاً من أن تتسم بالمصداقية والنزاهة والحقيقة وتوجيه البشر نحو الخير والفضيلة؛ إذا بها تصير عكس ذلك تماماً، وتكون من أعظم معاول الهدم التي تحث على الرذيلة، وتعلم الناس الكذب، وتزور لهم الحقائق وتدفعهم نحو الشر والفساد.
أيها المسلمون: إن الصحافة تقوم بدور بالغ الخطورة والأهمية في حياة الناس بعامة، وفي حياة الناشئة بصفة خاصة، وتحتل مركزاً بالغ الأهمية لدى الجميع، حتى إنها أصبحت -في كثير من الأحيان- بديلا عن الكتاب في مؤسسات التربية والتعليم والتثقيف؛ لأنها تقدم مواد متنوعة وقوية التأثير في مجال تنمية المفاهيم والقيم والاتجاهات، وتساهم بشكل خطير في تغيير المعتقدات والاتجاهات والقيم، والتي من المفروض أن تكون متوافقة مع ما يرتضيه المجتمع الإسلامي, ويتماشى مع مبادئه وأخلاقياته لا العكس.
إن أهمية وسائل الإعلام والصحافة قد غدت واضحة في مجال التربية، فهي تقوم على قيم معينة، هي قيم المجتمع الذي نعيش فيه، وهي إما أن تساعد على تثبيت هذه القيم ودعمها، وإما أن تعمل ضدها، بحيث تغرس في نفوس الأفراد قيما أصيلة جيدة، أو تخلع منها قيما رديئة وتغرس محلها قيما أخرى جيدة.
وقد تستخدم هذه الوسائل استخداما سيئاً يعطل في الإنسان عقله ووجدانه، واهتمامه بالقيم، مما يؤدي إلى حالة من الركود والخمول واللامبالاة، أو ما يسمى بعدم الاهتمام أو الاهتمام الظاهري الكاذب بمشكلات المجتمع، وهذا ما نعانيه كثيراً اليوم في صحافتنا.
ومن الملاحظ في حياتنا تسرب ظواهر معينة من خلال وسائل الصحافة، كإشاعة الفاحشة والعنف، والهروب من الواقع، والاستغراق في الخيالات، والسلبية، والتقليد الأعمى، والتقمص وغيرها من المظاهر السيئة والمنحرفة التي نراها في كثير من المجلات والصحف والنشرات.
وهنا ندرك خطورة وأهمية الصحافة في مجال تنمية القيم المجتمعية، وخاصة في ظل الظروف الشديدة التي يمر بها المجتمع العربي والإسلامي من ظروف التغير وسرعته، ومن انفجار سكاني ومعرفي، وما يعانيه الإنسان من فراغ، واهتزاز في نظم العلاقات الاجتماعية الناتجة عن اهتزاز القيم لدى الأفراد والمجتمعات في البلدان الإسلامية والله المستعان.
وهذا يتطلب تنمية القيم اللازمة لمساندة هذه الجهود؛ لتحقيق إنسانية الإنسان وتوفير جهده وحفظه وحفظ كرامته, يقول الله -سبحانه وتعالى-:(وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا) [الإسراء : 70].
فأين تكريم الإنسان في الصحافة إذا كانوا يستخفون به، ويزينون له الشر، ويكذبون عليه، ويهينونه بالسخافة وعرض الصور الغير لائقة به، ويجعلونه في درجة أقل بكثير من درجة الحيوانات أكرمكم الله؟.
وهنا رسالة موجهة إلى كل صحفي وكل إعلامي أن يتقي الله ربه، وأن تنبثق رسالته الإعلامية من تصور إسلامي خالص، وبطريقة متكاملة، حتى تتضافر الجهود في سبيل تقديم القيم الأخلاقية الإسلامية الخالصة.
وأن يستخدم الحكمة في مخاطبة الناس، فيأتيهم من جانب اهتماماتهم وآلامهم اليومية، مع انتقاء الكلمة الطيبة التي تفتح أقفال العقول والقلوب، كما قال الله -سبحانه وتعالى-: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) [النحل : 125]. وقال موجهاً رسوله -صلى الله عليه وسلم-: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) [آل عمران : 159].
وعليهم أن يتصدوا للقيم والاتجاهات الهابطة التي تُقدم بقصد أو عن غير قصد في المادة الإعلامية والصحفية، بهدف التشكيك في القيم الإسلامية، بل في الإسلام كله، وهنا لا بد من استخدام الحجة والبرهان مع الصراحة والوضوح، وحسن البيان مع الالتزام بالأدب في القول والعرض.
وأن يعملوا على إيجاد كوادر إعلامية ملتزمة، تقدم المادة الإعلامية، وتبدع من أجل إيصال القيم الإسلامية لكل فرد في المجتمع الإسلامي وبصورة مناسبة ومشوقة، وتستطيع توجيه الناس إلى الإسلام الصحيح للإفادة به على نطاق واسع ومفيد.
وأن يكونوا قدوات إعلامية حسنة وملتزمة بالقيم الإسلامية والصادقة مع نفسها وربها، والموجهة جهودها نحو الخير، المجانبة للكلمة النابية والعبارة الخارجة عن حدود الأدب والشرع.
وأن يركزوا باهتمام بالغ على برامج الأطفال بوجه خاص، بحيث يقدموا لهم القيم الإسلامية بصورة مبسطة تعتمد على المواقف الحياتية والإسلامية للرسول -صلى الله عليه وسلم- والصحابة الكرام وسلف الأمة، بأسلوب سهل ميسر، بحيث يساعدهم ذلك على تكوين وتنمية ذاتيتهم الإسلامية، فيعتزون بالقيم الإسلامية ويعملون على المحافظة عليها بالقول والسلوك.
وأن يركزوا كذلك على برامج المرأة المسلمة، ويقدموا لها كافة ما يهمها، وبصورة تتمكن معها المرأة المسلمة قارئة وغير قارئة من الاستفادة من هذه البرامج أو المجلات أو الصحف والنشرات وغيرها من وسائل الصحافة سواء المقروءة أو المكتوبة أو المشاهدة.
(وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [التوبة : 105].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والعظات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، واستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
عباد الله: إن الصحافة من الموازين التي تقاس بها درجة الرقي في شعب من الشعوب، كما أنها أحد عوامل الإصلاح والخير إذا قبض على زمامها من لهم خبرة بها, وكانوا من أهل الدين والخلق.
ليس من الصعب على الإنسان إذا فحص حالة الجرائد في قطر من الأقطار؛ أن يقرر حكمًا تقريبيًّا عن مبلغ نهضة أهل ذلك القطر وشكل مزاجهم، وليس من الصعب التنبؤ بمستقبل الحركة الفكرية في أمة ما؛ استنتاجاً من مشرب صحافتهم التي هي أشبه بمربي ومهذب لهم.
هل تعلمون أن من أوائل الصحف العربية التي ظهرت صحيفة تسمى صحيفة "الفاروق" صدرت في سنة 1331هـ (1913م) أسسها رجل يسمى: "عمر بن قدور" وهو مؤدب كان يقرئ القرآن الكريم، فعزم على مقاومة الخرافات والبدع، واستعمل هذه الصحيفة للقيام بمهمته، ويهتم فيها بنقل أخبار العالم الإسلامي وكان شعار صحيفته:
" قَلَمِي لِسَانِي ثَلَاثَةٌ بِفُؤَادِي | دِينِي وَوُجْدَانِي وَحُبُّ بِلَادِي" |
إن مهنة الصحافة مهنة شريفة وشاقة، وليس الصحفي هو من يحسن اللغة جيداً، ولا من هو كثير التأنق، ولا من يرسل الكلام على عواهنه، بل الصحافي الحقيقي المفيد هو الذي يحافظ على أدب الكتابة، وآداب الاجتماع، وأخلاقيات الكلمة.
ولهذا فرسالتي إليكم -معشر المسلمين- تتلخص في الاستفادة من الصحافة في ما هو خير فيها، وهجر ونبذ ما هو شر؛ كالكتابات عن الدعاة إلى الله وحملة الإسلام والناصحين له، بقصد الانتقاص من قدرهم والتطاول عليهم، وتشكيك الناس فيهم لنزع الثقة منهم، وتسميتهم بالأسماء الكريهة كالأصوليين والارهابيين والمتطرفين، كما هو منهج بعض الصحف، وقد جاء الوعيد الشديد لمن انتهج ذلك المسلك في قوله -تبارك وتعالى-: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا) [الأحزاب : 58].
إن الذين يكتبون باسم الحرص على الدين، وباسم الحفاظ على المصلحة العامة يجب عليهم أولاً أن يتبعوا تعاليم الدين، وأن يطبقوه في واقعهم حتى يكون لكلامهم القبول والاستحسان.
والذين يكتبون باسم الحوار والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة والبعد عن التعصب والتشنج لا بد أن يبدؤوا بأنفسهم أولاً؛ حتى لا يدعوا إلى ما يخالفونه، وأن يتدبروا منهج القرآن في ذلك: (يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً) [الأحزاب :70]، (والَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ) [المؤمنون :3]، (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) [طه :44] ، (وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) [الحج: 30]، (وقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَتِي هِيَ أَحْسَنُ إنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ) [الإسراء: 53].
روى النسائي في سننه عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: "من خاصم في باطل وهو يعلم لم يزل في سخط من الله حتى ينزع، ومن قال في مسلم ما ليس فيه حبس في ردغة الخبال حتى يخرج مما قال" [ النسائي (11773 ) ].
فكونوا -عباد الله- على حذر من الصحافة الضالة المضلة التي تضلل العقول، وتلبس الحق بالباطل وتكتم الحق، فإنها أكبر معول للهدم والضلال والتيه والضياع.
هذا، وصلوا وسلموا وأكثروا من الصلاة والسلام على من أمركم ربكم بالصلاة والسلام عليه، فقال عز من قائل كريم: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب : 56].
اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
اللهم وفقنا لما تحب وترضى وخذ بناصيتنا للبر والتقوى.
اللَّهُمَّ إِنِّا نسْأَلُكَ الثَّبَاتَ فِي الْأَمْرِ، وَالْعَزِيمَةَ عَلَى الرُّشْدِ، وَنسْأَلُكَ شُكْرَ نِعْمَتِكَ، وَحُسْنَ عِبَادَتِكَ، وَنسْأَلُكَ قَلْبًا سَلِيمًا، وَلِسَانًا صَادِقًا، وَنسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا تَعْلَمُ، وَنعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا تَعْلَمُ، وَنسْتَغْفِرُكَ لِمَا تَعْلَمُ.