البحث

عبارات مقترحة:

المتعالي

كلمة المتعالي في اللغة اسم فاعل من الفعل (تعالى)، واسم الله...

الرزاق

كلمة (الرزاق) في اللغة صيغة مبالغة من الرزق على وزن (فعّال)، تدل...

الكريم

كلمة (الكريم) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل)، وتعني: كثير...

دروس وعبر من حديث الأعمى والأبرص والأقرع

العربية

المؤلف عمر بن عبد الله المقبل
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات الحديث الشريف وعلومه - التاريخ وتقويم البلدان
عناصر الخطبة
  1. تربية النبي صلى الله عليه وسلم لأمته بالقصة .
  2. تأملات في ابتلاء الأبرص والأقرع والأعمى .
  3. أهم الدروس والعبر المستفادة من القصة .
  4. وجوب شكر النعم وتجنب مسالك البطر. .

اقتباس

وما أشبه الليلة بالبارحة! فمِن الناسِ مَن ذاق مرارةَ الفقر، وشظفَ العيش، فلما أغناه الله، وطلبَ منه بعضُ المحتاجين المساعدة، قال ذات الجملة بلسان الحال أو المقال: "الحقوق كثيرة"، مع أنه قادرٌ على إغاثة الملهوف، وسدّ الجوَعة، وتفريج الكربة..! وأقبح من هذا الصنف من قال: "إنما ورثتُ هذا المال كابراً عن كابر".

الخطبة الأولى:

الحمد لله حمد الشاكرين، ونشكره شكر الحامدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة من يرجو رضاه في الدارين، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمداً عبدالله ورسوله، وصفيه وخليله، أشرف الذاكرين، وأصدق الشاكرين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، الذين ما زادهم انفتاحُ الدنيا عليهم وتوالي النعم إلا شكراً لواهبها، وبُعداً عن حال البطرين، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

 أما بعد: فلقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يربي أصحابَه -وأمتَه عموماً- بألوان من التربية، وصورٍ من التزكية؛ تحقيقاً للمهمة التي بعثها اللهُ لأجلها.

ومِن تلكم الأساليب التي كان -صلى الله عليه وسلم- يربي بها أمتَه: القصص، التي لم تكن لمجرد التسلية، بل كانت للعبرةِ والعظة، ومن ذلكم تلكم القصةُ العجيبة، التي رواها البخاري ومسلم في صحيحيهما، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن ثلاثة في بني إسرائيل: أبرص، وأقرع، وأعمى، فأراد الله أن يبتليهم؛ فبعث إليهم ملَكًا:

فأتى الأبرصَ، فقال: أيُّ شيء أحب إليك؟ قال: لونٌ حسنٌ، وجلدٌ حسنٌ، ويذهبُ عني الذي قد قذرني الناس، قال: فمسحه فذهب عنه قذَرُه، وأُعطيَ لوناً حسناً وجلداً حسناً.

قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: الإبل، قال: فأُعطي ناقة عشراء، فقال: بارك الله لك فيها.

فأتى الأقرعَ، فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: شَعرٌ حسنٌ ويذهبُ عني هذا الذي قد قذرني الناس، قال: فمسحه فذهب عنه، وأُعطي شَعراً حسناً.

قال: فأيّ المالِ أحبُّ إليك؟ قال: البقر، فأُعطي بقرة حاملاً، فقال: بارك الله لك فيها.

فأتى الأعمى، فقال: أيّ شيء أحب إليك؟ قال: أن يَرُد اللهُ إلي بصري، فأبصر به الناس، قال: فمسحه فرد اللهُ إليه بصره.

قال: فأيّ المال أحب إليك؟ قال: الغنم، فأُعطي شاة والداً، فأُنْتِجَ هذان وولدَ هذا، قال: فكان لهذا وادٍ من الإبل، ولهذا وادٍ من البقر، ولهذا وادٍ من الغنم.

قال: ثم إنه أتى الأبرصَ في صورته وهيئته، فقال: رجلٌ مسكين، قد انقطعت بي الحبالُ في سفري، فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن، والجلد الحسن، والمالَ، بعيراً أتبلّغ عليه في سفري، فقال: الحقوق كثيرة! فقال له: كأني أعرفك! ألم تكن أبرص يقذرك الناس؟ فقيراً، فأعطاك الله؟ فقال: إنما ورثتُ هذا المال كابراً عن كابر، فقال: إن كنتَ كاذباً؛ فصيرك اللهُ إلى ما كنتَ!

قال: وأتى الأقرعَ في صورته، فقال له مثل ما قال لهذا، وردّ عليه مثل ما رد على هذا، فقال: إن كنتَ كاذباً فصيرك اللهُ إلى ما كنت.

قال: وأتى الأعمى في صورته وهيئته، فقال: رجلٌ مسكينٌ وابنُ سبيل، انقطعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله، ثم بك، أسألك بالذي رد عليك بصرك، شاة أتبلغ بها في سفري، فقال: قد كنتُ أعمى فرد اللهُ إلي بصري، فخذ ما شئتَ، ودع ما شئت، فوالله لا أجهدك اليوم شيئاً أخذته لله، فقال: أمسك مالَك، فإنما ابتُليتم، فقد رضي عنك، وسَخِط على صاحبيك" (صحيح البخاري ح3464، صحيح مسلم ح: 2964).

أيها المسلمون:

هذه هي القصة، فما الدروس التي يمكن الإشارة إليها في هذا المقام؟ من ذلك: (استفدت معنى كثيراً من هذه الدروس من تعليق شيخنا العثيمين -رحمه الله- على الحديث):

منها: أن الله -سبحانه- يبتلي العبدَ بما شاء؛ لينظر أيصبر أم يضجر؟ يشكر أم يكفر؟ لا يسأل عما يُفعل -سبحانه- وبحمده.

ومنها: أن هذه العاهات الثلاث (العمى والبرص والقرع) من جملة الابتلاء الذي يَبتلي اللهُ بها من يشاء، فمن صبر وشكر ظفر، ومن كفر وضجر فقد خسر، ولم يغيّر مِن قدر الله شيئاً.

ومنها: أن الله -تعالى- يجري على أيدي الملائكة ومن شاء من البشر ما يشاء من الآيات، فهذا الملَكُ، مسح الأبرص فعاد جلده حسناً، والأقرعَ فنبت شعره، والأعمى فأبصر.

ومنها: أن الأعمى لم يسأل إلا بصراً يبصر به الناس فقط، أما الأبرصُ والأقرعُ فإن كلَّ واحدٍ منهما تمنَّى شيئاً أكبر من حاجته، فالأبرص قال: جلداً حسناً ولوناً حسناً، وذاك قال: شعراً حسناً، فليس مجرد جلدٍ أو شعرٍ أو لونٍ، بل تمنيًا شيئًا أكبر، فتبين أن الأعمى كان أزهد منهما، وأكثر قناعة، ويوضح هذا أنه لم  يَطلب من المال إلا الغنم، بخلاف الأولين، فقد طلبا البقر والإبل.

ومنها: أن الفسحة في النِّعَم على بعض الناس - إن لم نقل أكثرهم- ليست خيراً لهم، فلقد قال الله: (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) [سبأ: 13]، فالأبرص والأقرع جاء إليهما الملكُ بصورةٍ تُذكّرهما بما كانا عليه، إلا أنهما - عياذاً بالله - تنكّرا لذلك، وبَخلا بما أعطاهما اللهُ من المالِ الوافر، وقال كلٌّ منهما: "الحقوقُ كثيرة"!

وما أشبه الليلة بالبارحة! فمِن الناسِ مَن ذاق مرارةَ الفقر، وشظفَ العيش، فلما أغناه الله، وطلبَ منه بعضُ المحتاجين المساعدة، قال ذات الجملة بلسان الحال أو المقال: "الحقوق كثيرة"، مع أنه قادرٌ على إغاثة الملهوف، وسدّ الجوَعة، وتفريج الكربة..! وأقبح من هذا الصنف من قال: "إنما ورثتُ هذا المال كابراً عن كابر".

قال شيخنا العثيمين –رحمه الله- في شرح رياض الصالحين (1/504): "والذي يظهر إن الله استجاب دعاء الملَك، وإن كان دعاء مشروطاً، لكنه كان كاذباً بلا شك، فإذا تحقق الشرط تحقق المشروط".

ومنها: الفرقُ بين منطق الشاكرين ومنطق الكافرين بالنِّعم، فإن الملَك أتى الأعمى وذكّره بنعمةِ الله عليه: "فقال: كنتُ أعمى فرد اللهُ إليّ بصري، فخُذْ ما شئتَ ودعْ ما شئت، فوالله لا أجهدك اليوم بشيء أخذتَه لله عز وجل"، أي: لا أشق عليك في رد شيء تأخذه أو تطلبه من مالي، فقال له الملك: "أمسِك مالك، فإنما ابتُليتم، فقد رضي اللهُ عنك وسخط على صاحبيك".

قد يُنعم اللهُ بالبلوى وإنْ عظمتْ

ويبتلي اللهُ بعضَ القوم بالنعمِ

ومِن عِبَر هذه القصة: أن شكرَ نِعمة الله على العبد من أسباب بقائها وزيادتها، كما قال الله تعالى: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) [إبراهيم: 7].

ومنها: قدرةُ الله -تعالى- في تصوير الملائكة على هيئة البشر، بل قد يتكيّفون بصورة الشخص المعيَّن، كما جاء إلى الأبرص والأقرع والأعمى في المرة الثانية بصورته وهيئته.

ومنها: تفاوُت بني آدم في شكر نعمة الله ونفع عباد الله، فإن الأبرص والأقرع وقد أعطاهم الله المال الأهم والأكبر - وهي الإبل والبقر -، ولكن جَحَدا نعمةَ الله، فقالا: إنما ورثنا هذا المال كابراً عن كابر، وهم كَذَبةٌ في ذلك، فإنهم كانوا فقراء، فأعطاهم اللهُ المالَ، لكنهم - عياذاً بالله - جحدوا نعمةَ الله وقالوا: هذا ورثناه مِن آبائنا وأجدادنا.

أما الأعمى فإنه شَكَر نعمةَ الله واعترف لله بالفضل، ولذاك وُفّقَ وهداه الله، وقال للملك: "خذ ما شئتَ ودع ما شئتَ".

ومنها: أن مِن بركة الشكر نيلَ رضى الله، ومِن شؤم كفرِ النعمة أنها تُورثُ سخط الله جل وعلا، فكفى بهذا ثمرةً للشكر، وعقوبة للكفر.

هذه - أيها المسلمون - بعضُ عِبَر هذه القصة، وما فيها أكثر من ذلك، والموفّق مَن ترجم هذه القصة واقعاً في حياته؛ فسلك سبيل الشاكرين، وتجنب طريق الكافرين للنعم، والجاحدين لها.. بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم ...

الخطبة الثانية:

الحمد لله...، أما بعد:

فإننا في هذه السنوات نعيش نعماً عظيمة، وفي بلادٍ (يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَان) [النحل: 112]، ونحن لا يمكن أن ننتظر أن يرسل الله لنا ملكاً أو ملائكة تختبر كلّ واحدٍ منا بمثل هذا النوع من الاختبار، ففي ما قصّه الله ورسوله علينا من أخبار الأمم عبرةٌ وعظة! ألم نسمع قصة سبأ الذين قيل لهم: (كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ) [سبأ: 15 - 18]؟

ألسنا نقرأ خبر القرية التي: (كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ...) [النحل: 112 - 114]؟

ألم نسمع قولَه عز وجل: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ)[إبراهيم: 28]؟

ألسنا نرى ما حولنا من الدول التي اضطربَ فيها حبلُ الأمن؟ واقتتل أهلُها؟ وتسلّط بعضُهم على بعض؟ ألم تكن الشامُ واليمنُ يوماً مِن الدهر موضع تجارةِ بقية أهلِ الجزيرة العربية؟ أين "الشام شامك إذا الدهر ضامك"؟! أين "اليمن السعيد"؟! أين عراق الرافدين؟!

إننا اليوم - وخصوصاً أجيال الشباب - أشد ما نكون حاجة إلى تُذكّر هذه الآية: (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)[الأنفال: 26].

 والله لقد كان الناسُ قبل قرنٍ تقريباً في هذه البلاد ممن تنطبق عليهم هذه الآية تماماً .. والله لقد كنا قليلاً! كان الناسُ مستضعفين! يخاف بعضهم من بعض! فآواهم اللهُ، وأيّدهم بنصره، ورزقهم من الطيبات، فشكر من شكر، وكفر النعمة من كفر!

إن المُشاهِد اليوم في كثيرٍ مما يَحدُث ليخاف أن يكون استدراجاً لما بعده، فليس بيننا وبين الله نَسَب، ويخاف المؤمنُ أن يحقّ علينا قوله تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ) [الأنعام: 42 - 44].

فاتقوا الله عباد الله، وقيّدوا هذه النعم بشكر المنعِم بها، وإياكم أن تصرفوها في غير ذلك: (وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ) [الرعد: 11]، و (اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِير) [الشورى: 47].

اللهم اجعلنا من عبادك الشاكرين، وأعذنا من حال مَن بدّل نعمتك كفراً، وأحلّ قومَه دارَ البوار.