الملك
كلمة (المَلِك) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعِل) وهي مشتقة من...
العربية
المؤلف | عبدالله بن عمر السحيباني |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التاريخ وتقويم البلدان |
أصبح من الخاسرين؛ فقد خسر أخاه حين قتله، والأخ للأخ موضع الحنو والأنس، والمعاضدة والنصرة، والرفق ودفع الأذية. أصبح من الخاسرين؛ حين خسر أخاه وخسر والديه فوقع في العقوق فقتل ابنهما، وقطع رحمه. أصبح من الخاسرين...
الخطبة الأولى:
أما بعد: فاتقوا الله -تعالى أيها المسلمون- فالتقوى شرط القبول للأعمال الصالحة: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ)[المائدة:27].
أيها الإخوة في الله: قص الله علينا في كتابه الكريم أحسن القصص، قصص القرآن هي القصص الحق: (إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ)[آل عمران:62].
قصص القرآن للذكرى والاعتبار والعظة والتفكر: (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)[الأعراف:176].
وهذه قصة عجيبة غريبة، مليئة بالعظة والعبرة، هي أول القصص في هذه الأرض ذكرها القرآن الكريم، أحد أطراف هذه القصة هو أول آدمي يموت في الأرض فلا يدرى كيف يفعل به: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا)[المائدة:27] ابنان لآدم -عليه السلام- قربا قربانا وبذلا شيئًا لله -تعالى-، فقَبِلَ الله -تعالى- قُربة أحدهما، ورُدت قربة الآخر: (إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ)[المائدة:27].
وأمر القبول عند من يعلم السر وأخفى، فليس للناس أن يمنعوا عنك فضل الله جاء، وقبوله ورحماته إذا حلت بساحتك.
إلا أن في طبيعة البشر مشاعر خبيثة نكدة، يؤججها الشيطان؛ إنه شعور الحسد لفضل الله، ورحمته النازلة على الآخرين؛ فهذا ابن آدم لما لم يقبل منه لسبب من قبله حسد أخاه على ما آتاه الله -تعالى- من الرحمة والقبول.
وقد قيل: إن الحسد هو أول ذنب عُصي الله -تعالى- به في الأرض استنادًا إلى هذه القصة العظيمة، كما أن الحسد هو أول ذنب فعله إبليس في السماء.
الحسد الأعمى نتيجته البغي والطغيان، لقد هدد الحاسد أخاه بالقتل: (قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ) هذا التهديد بالقتل تظهر منه دسيسة خربة وفساد في القلب والضمير، وغشاوة على البصر والبصيرة.
وفي المقابل ترى نفساً طيبة سمحة تقابل الإساءة بالإحسان، نفس تحب الخير وتدعو إلى الخير، إنها نفس الابن الآخر المقبول الذي أعلن أن القبول والرد من الله -تعالى- وليس منه، ولا ذنب له في عدم قبول قربان أخيه، وأن سبب القبول هو صلاح القلب بالتقوى: (قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ المُتَّقِينَ).
نفس هذا الأخ نفس طاهرة مؤمنة، لا تبغي ولا تحب البغي، بل ولا تجازي بالمثل من الشر قال: (لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ)[المائدة:28]، ذكره بالله وخوفه عقابه، وقال: (إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ)[المائدة:29]، قال أيوب السختياني -رحمه الله تعالى-: "إن أوَّلَ من أخذ بهذه الآية من هذه الأمة عثمان بن عفان -رضي الله عنه-"، فقد عَمِل بهذه الآية مع شدتها ومشقة العمل بها، فكفَّ يده، وأمر بالكف عمن خرجوا عليه حتى قتلوه".
فالمؤمن يفضل أن يقتل مظلوماً ولا تتلطخ يده في دم نفس معصومة.
لقد كان ابن آدم ضعيف الإيمان غلبت عليه نفسه الأمارة بالسوء، ودفعه شيطانه لقتل أخيه: (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[المائدة:30].
أصبح من الخاسرين؛ فقد خسر أخاه حين قتله، والأخ للأخ موضع الحنو والأنس، والمعاضدة والنصرة، والرفق ودفع الأذية.
أصبح من الخاسرين حين خسر أخاه وخسر والديه فوقع في العقوق فقتل ابنهما، وقطع رحمه.
أصبح من الخاسرين فخسر متعة الحياة وبهجتها ورضا النفس وطمأنينتها، فأصبح الندم ملازمه، والنكد قرينه.
أصبح من الخاسرين فخسر سمعته في ذلك الزمان وإلى آخر الزمان، فالبشر يتناقلون خبره السيئ مع أخيه.
أصبح من الخاسرين مع خسارته الكبرى لدينه وآخرته، ثبت في الصحيحين أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه كان أول من سن القتل".
لقد كان هذا القاتل متكبراً متجبراً معتداً بنفسه فأراد الله أن يذله حتى يعجز عن طريقة مواراة جثة أخيه، ويكون طائر الغراب هو الذي يدله ماذا يفعل بتلك الجثة: (فَبَعَثَ اللّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ)[المائدة:31]، فذاق في الدنيا ذل المعصية وهوانها قبل الآخرة.
أيها المسلمون: ثم حكم الله -سبحانه- وهو الحكيم الخبير في خاتمة هذه القصة العظيمة أن من استحل قتل شخص ظلمًا وعدوانًا فكأنه قد استحلّ قتل الناس جميعًا، ومن تسبب في إحياء نفس فكأنه أحيا الناس جميعًا، وقد جاء ذكر بني إسرائيل في هذا السياق تنبيها على أنهم يسترخصون الدماء البشرية فهم عبر تاريخهم قتلة الأنبياء وهم إلى اليوم تجري على أيديهم ومن وراءهم مذابح بشرية هائلة، فسبحان الله العظيم القائل: (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاء تْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ)[المائدة:32].
بارك...
الخطبة الثانية:
أيها المسلمون: اتقوا الله فقد أعلمكم الله -سبحانه- شأن التقوى، فاعتبروا في أول قصة يتقابل فيها التقي بالشقي على هذه الأرض، وانظروا كيف ظهر أثر التقوى في قبول العمل الصالح، وكيف أن صاحب التقوى كفَّ يده عن أذية أخيه ففاز بسعادة الدنيا والآخرة، وكيف خسر من فارق التقوى فانهزم وندم وباء بالإثم وعدم قبول العمل.
إن أعظم درس وعبرة قول ابن آدم: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ المُتَّقِينَ) فالقبول والتوفيق حليف المتقين المخلصين، وهو منية العاملين الصادقين، يروى أن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- جاءه سائل فقال ابن عمر لابنه: "أعطه ديناراً، فقال له ابنه: تقبل الله منك يا أبتاه! فقال: لو علمت أن الله تقبل مني سجدة واحدة أو صدقة درهم واحد لم يكن غائب أحبَّ إليّ من الموت، أتدري ممن يتقبل الله؟! (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ).
فاللهم اجعلنا جميعا من المتقين المقبولين.
تقبل الله منا ومنكم، تقبل الله طاعتكم.