المجيب
كلمة (المجيب) في اللغة اسم فاعل من الفعل (أجاب يُجيب) وهو مأخوذ من...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
قد يفتح الله على عباده من ألوان الطاعاتِ وصنوفِ العبادات وأنواعِ الاجتهادات وطُرق المسابقات إلى الخيرات، فتجدون من يفتَح الله عليه في القرآن الكريم والعنايةِ به وتلاوته قيامًا وقعودًا وعلى جنبه، في الصلاة وغير الصلاة، في الليل وفي النهار. فمنهم من يفتح الله عليه في تعليمه وإقرائه، فهمُّه الأكبر في تعليمِه وضبطِه وإتقانه, ومن الناس من يفتح الله عليه في العِلم أو في باب من أبوابه من التوحيد والحديث والفقه والتفسير، كما يفتَح لآخرين في علومٍ أخرى...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي عمت رحمته كل شيء ووسعت، وتمت نعمته على العباد وعظمت، ملك ذلت لعزته الرقاب وخضعت، وهابت لسطوته الصعاب وخشعت، وارتاعت من خشيته أرواح الخائفين وجزعت، كريم تعلقت برحمته قلوب الراجين فطمعت، بصير بعباده يعلم ما كنت الصدور وأودعت، عظيم عجزت العقول عن إدراك ذاته فتحيرت.
نحمده على نعم توالت علينا واتسعت، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تنجّي قائلها من النار يوم تذهل كل مرضعة عما أرضعت، ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله الذي جاهد في الله حق جهاده حتى علت كلمة التوحيد وارتفعت، اللهم صلِّ وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: فيا أيها الناس اتقوا الله حق تقاته، وسارعوا إلى مغفرته ومرضاته، وأجيبوا الداعي إلى دار كرامته وجناته، ولا تغرنكم الحياة الدنيا بما فيها من زهرة العيش ولذاته؛ فقد قرب الرحيل، وذهب بساعات العمر وأوقاته.
أيها الإخوة: إن المؤمن بين مخافتين: بين أجَلٍ قد مضى لا يدري ما الله صانع فيه، وأجل قد بقي لا يدري ما الله قاضٍ فيه؛ فليأخذ العبد من نفسه لنفسه، ومن صحته لمرضه، ومن حياته لموته، ومن غناه لفقره، فوالله ما بعد الموت من مستعتَب، وما بعد الموت من دار إلا الجنة أو النار.
عباد الله: إذا أراد الله تعالى بعبده خيرًا فتح له من أبواب التوبة والندم والانكسار والذل والافتقار، والاستعانة به، وصدق اللجوء إليه، ودوام التضرع والدعاء، والتقرب إليه بما أمكن من الحسنات، وإذا أراد به غير ذلك خلاه وعُجبه وكبره، ولم يظهر له حقيقة نفسه وظلمه وعدوانه وبغيه، وهذا هو الخذلان الموجب لهلاكه.
وقد أجمع العارفون على أن التوفيق ألا يكلك الله إلى نفسك، والخذلان أن يكلك الله تعالى إلى نفسك، فمن أراد الله تعالى به خيرًا فتح له باب الذل والانكسار ودوام اللجوء إليه تعالى، والافتقار إليه ورؤية عيوب نفسه وجهلها وعدوانها، وفتح له باب مشاهدة فضل ربه وإحسانه ورحمته وجوده وبره وغناه وحمده؛ فالعارف سائر إلى الله تعالى بين هذين الجناحين.
إن من فلاح العبد، وعنوان سعادته في الأولى والآخرة أن يفتح الله -سبحانه وتعالى- عليه بتفكره وتأمله وحزنه وطول وقوفه بباب الله تعالى حتى يفتح عليه، والمرء متى ظل متمسكًا بباب الله تعالى مهما حدث له، ومهما وقع فيه، ومهما أصر من الذنوب والمعاصي لا زال يأمل في وجه الله تعالى، ويحاول أن يتوب ويبكي لله تعالى، ويطيل تضرعه إليه لعل الله تعالى أن يطلع عليه؛ فيفتح له بابه، وينير له طريقه.
وأعلى من ذلك أن يأخذ بيده إليه -سبحانه وتعالى- وأن يقويه على سلوك هذا الطريق. قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) [العنكبوت: 69]. وعن معاوية -رضي الله عنه- قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ" [البخاري (71)، ومسلم (1073)].
عباد الله: إن القلب إذا خلا من الاهتمام بالدنيا، وتعلق بالآخرة، وتأهب للقدوم على الله -عزَّ وجلَّ-، فذلك أول فتوحه، وتباشير فجره، فعند ذلك يتحرك قلب العبد لمعرفة ما يرضى به ربه منه، فيفعله ويتقرب به إليه، وينبعث لمعرفة ما يسخطه منه فيجتنبه.
فإذا تمكن العبد في ذلك، فتح الله له باب الأنس بالخلوة والوحدة، ومحبة الأماكن الخالية التي تهدأ فيها الأصوات والحركات، فلا شيء أشوق إليه من ذلك، فإنها تجمع عليه قوى قلبه وإرادته وإقباله على ربه، وتسد عليه الأبواب التي تفرق همه، وتمزق شمله.
ثم يفتح له باب حلاوة العبادة، بحيث لا يكاد يشبع منها، ويجد فيها من اللذة والراحة أضعاف ما كان يجده في لذة اللهو واللعب، ونيل الشهوات.
ثم يفتح له باب حلاوة استماع كلام الله فلا يشبع منه، وإذا سمعه هدأ قلبه كما يهدأ الصبي إذا أعطي ما هو شديد المحبة له.
ثم يفتح له باب شهود عظمة المتكلم به وجلاله، وكمال نعوته وصفاته، ومعاني خطابه، بحيث يستغرق قلبه في ذلك.
ثم يفتح له باب الحياء من الله -عزَّ وجلَّ-، وهو أول شواهد المعرفة، وهو نور يقع في القلب، يريه ذلك النور أنه واقف بين يدي ربه -عزَّ وجلَّ-؛ فيستحي منه في خلواته وجلواته. ويرزقه الله عند ذلك دوام المراقبة للرقيب، ودوام التطلع إلى ربه.
فإذا استولى هذا على العبد، غطى عليه كثيراً من الهموم بالدنيا وما فيها، فهو في وجود بين يدي ربه ووليه، والناس في وجود آخر، ثم يفتح له باب الشعور بمشهد القيومية لربه على جميع الكائنات، فيرى سائر التقلبات الكونية، وتصاريف الوجود بيده -سبحانه- وحده.
فيشهده ذلك ربه العظيم، مالك النفع والضر، والخلق والرزق، والإحياء والإماتة، فيتخذه وحده وكيلاً، ويرضى به رباً ومدبراً، وعند ذلك إذا وقع نظره على شيء من المخلوقات دله على خالقه وبارئه.
فإذا استمر له ذلك، فتح عليه باب القبض والبسط، فيقبض عليه حتى يجد ألم القبض لقوة وارده، وتفيض أنوار المعرفة والمحبة والإخلاص من قلبه، كما يفيض نور الشمس من جرمها.
وكلما سار إلى ربه من الطريق الموصل إليه، زادت الهداية في قلبه، وزاد نور الإيمان، وانشرح صدره، ووجد اللذة في طاعة مولاه.
فإذا استمر على حاله، واقفاً بباب مولاه، لا يلتفت عنه يميناً ولا شمالاً، ولا يجيب غير من يدعوه إليه، ويعلم أنه لم يصل بعد، رجا أن يفتح له فتح آخر، هو فوق ما كان فيه.
فيستغرق قلبه في أنوار مشاهدة جلال الله، بعد ظهور أنوار الوجود الحق، ويبقى قلبه سابحاً في بحر من أنوار آثار الجلال والجمال لربه، فتنبع الأنوار من باطنه، كما ينبع الماء من العين، ويجد قلبه عالياً صاعداً إلى من ليس فوقه شيء.
ثم يرقيه الله -تبارك وتعالى- فيشهد قلبه أنوار الإكرام، بعد ما شهد أنوار الجلال والعظمة لمولاه, فيستغرق في نور من أنوار أشعة الجمال والإكرام، والإنعام والإحسان، فيذوق المحبة الخاصة، الملهبة للأرواح والقلوب، الباعثة لحسن العبادة، ولذة المناجاة.
فيبقى القلب مأسوراً في يد حبيبه العزيز الكريم، ووليه الغفور الرحيم، ممتحناً بحبه، مستسلماً لطاعته، متلذذاً بعبادته، مستغرقاً في جلاله وجماله، وهذا غاية مراد الرب من عبده: (ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [الجمعة: 4].
عباد الله: ومن أعظم الفتوح على القلب: حسن الثناء على الله، وهذا فضل يستحث الشكر، والقلب السليم والعبد المحب يشعر بالعجز عن الثناء على ربه أعظم الثناء، عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: فَقَدْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لَيْلَةً مِنَ الْفِرَاشِ، فَالْتَمَسْتُهُ فَوَقَعَتْ يَدِي عَلَى بَطْنِ قَدَمَيْهِ، وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ وَهُمَا مَنْصُوبَتَانِ وَهُوَ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ لاَ أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ" [مسلم 486].
فإذا كان أعلم الخلق بالله لا يحصي ثناء عليه، فكيف غيره، وإذا كان يفتح عليه في الآخرة بمحامد لم يعرفها في الدنيا فكيف حال غيره؟!. فيوم القيامة هناك فتوحات على النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال -صلى الله عليه وسلم-: "فَأَنْطَلِقُ فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي فَيُؤْذَنُ لِي فَأَقُومُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَأَحْمَدُهُ بِمَحَامِدَ لاَ أَقْدِرُ عَلَيْهِ الآنَ يُلْهِمُنِيهِ اللَّهُ، ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا. فَيُقَالُ: لِي يَا مُحَمَّدُ، ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ وَسَلْ تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ" [مسلم 193].
فإذا صفى القلب وسلم، فتح الله عليه أنواعًا من العلوم والفقه النافع، قال العلامة الشَّيخ بكر بن عبدالله أبو زيد -رحمه الله- في كتابه [المداخل إلى آثار شيخ الإسلام ابن تيميةٍ] بعد سرده لأحداث سجن شيخ الإسلام، قال -بعد السجنة الأخيرة وهي السابعة-: "وفيها حصل له من الفتوح الربانية بالعلم والعبادة، ما يبهر العقول، وصدر منه من الكتب والرسائل والفتاوى العجب العجاب، مع أنه في آخر وقته مُنِع القلم والدواة والكتب والرقاق".
ويعلق ابن رجب في جامع العلوم والحكم على حديث "إني لست كهيئتكم إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني" قال: "والأظهر أنَّه أراد بذلك أنَّ الله يُقوِّيه ويُغذيه بما يُورده على قلبه من الفتوح القدسية، والمنحِ الإلهية، والمعارف الربانية التي تُغنيه عن الطعام والشراب بُرهةً مِنَ الدَّهر".
عباد الله: إن تلاوة القرآن مع حضور القلب يكون لها شأن آخر, فهي ليست هذًّا كهذ الشعر، وإنما هي تأملات في عجائب هذا القرآن وحقائقه، وهي فيوض يفيض بها الباري -عز وجل- على من يشاء من عباده، فيفتح عليهم من الفتوح الربانية ما ينير لهم قلوبهم ودروبهم. ومن الناس عند تلاوة القرآن من ينعم الله عليهم بفوائد وعبر وتأملات في بعض الآيات لا يصل إليها غيرهم.
فما أحرى بمن أنعم الله عليه بمثل ذلك -جعلنا الله وإياكم منهم- أن يضيف إلى هذه النعمة نعمة أخرى، وهي أن يترك عملا يبقى بعد موته تجري حسناته عليه وهو في قبره، فيدون هذه التأملات والفوائد ويترك علما ينتفع به بعد موته.
والتوبة وتحسينها تفتح على القلب فتوحًا جليلة، فعلينا بالتوبة النصوح وما لها من الفتوح؛ يجعلنا من المتقين، الذين تقر أعينهم في الدنيا بالطاعات وفي الآخرة بالجنات، فيفتح على القلوب من المعاني الشريفة، والفوائد اللطيفة ما تنشرح له، وتقترب به من علام الغيوب وغفار الذنوب.
نسأل الله أن يطهر قلوبنا ويفتح علينا بما ينفعنا، ويصلح أحوالنا، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم منه بالآيات والذكر الحكيم، وأجارني وإياكم من عذابه الأليم، وثبتني وإياكم على الصراط المستقيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين، إنه هو الغفور الرحيم فاستغفروه.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، أحمده وأشكره، وهو البر الرحيم؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كتب على نفسه الرحمة، وتجاوز عن الذنب العظيم؛ وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين، وهاديًا إلى الصراط المستقيم. اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه.
عباد الله: إن الناس مفتونون ممتحنون بما يفنى، من الأموال والأشياء، والصور والرئاسة، معذبون بذلك قبل حصوله، وحال حصوله، وبعد حصوله. وأشرفهم منزلة، وأعلاهم مرتبة، من يكون مفتوناً بالحور العين، أو عاملاً على تمتعه في الجنة، بالأكل والشرب والجماع واللباس.
وهذا المحب قد ترقى في درجات المحبة على غيره، ينظرون إليه في الجنة كما ينظرون إلى الكوكب الدري الغابر في الأفق، لعلو درجته عند ربه، وقرب منزلته من حبيبه.
عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: "إِنَّ أهْلَ الْجَنَّةِ لَيَتَرَاءَوْنَ أهْلَ الْغُرَفِ مِنْ فَوْقِهِمْ، كَمَا تَتَـرَاءَوْنَ الْكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ الْغَابِرَ مِنَ الأفُقِ مِنَ الْمَشْرِقِ أوِ الْمَغْرِبِ، لِتَفَاضُلِ مَا بَيْنَهُمْ". قَالُوا: يَا رَسُولَ الله تِلْكَ مَنَازِلُ الأنْبِيَاءِ، لا يَبْلُغُهَا غَيْرُهُمْ، قَالَ: "بَلَى وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! رِجَالٌ آمَنُوا بِالله وَصدَّقُوا الْمُرْسَلِينَ" [البخاري (3256)، ومسلم (2831)].
وهذا العبد معية الله معه، فإن المرء مع من أحب، ولكل عمل جزاء، وجزاء المحبة المحبة: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [آل عمران: 31]. فهذا العبد لا يزال ربه يرقيه طبقاً بعد طبق، ومنزلاً بعد منزل، إلى أن يوصله إليه، ويمكن له بين يديه، أو يموت في الطريق، فيقع أجره على الله، وله ما نوى.
والقلوب بيد الله، يقلبها كيف يشاء، ولها إقبال وإدبار، فإذا أقبلت نشطت للفرائض والسنن، وتلذذت بذلك، ونافست في الخير، وسارعت إليه قولاً وفعلاً، وإذا أدبرت وضعفت نلزمها على الأقل الفرائض والواجبات.
عباد الله: وهناك فتوح في العبادات، ومن حكمة الله تعالى أن نوَّع العبادات على العباد ليختبر حال المكلف وكيف يكون امتثاله, فمن العباد من يفتح له في الصلاة ولا يطيق الصوم، ومنهم من يفتح عليه في الصلاة والصوم ولا يفتح له في الزكاة؛ فنوع الله العبادات ليسابق من شاء الله له الهداية، ويأطر نفسه على جميع الطاعات, مهما كانت بعيدة عن هوى النفس.
ويشهد لهذا ما روي عن الإمام مالك -رحمه الله- أنه قال لمجيب العمري العابد لما كتب له يحضه على الانفراد والعمل، ويرغب به عن الاجتماع إليه في العلم؛ حيث قال له: "إن الله قسم الأعمال كما قسم الأرزاق: فرُبَّ رجل فُتح له في الصلاة ولم يُفتح له في الصوم، وآخر فُتح له في الصدقة ولم يفتح له في الصيام، وآخَر فُتح له في الجهاد ولم يُفتح له في الصيام؛ ونشرُ العلم وتعليمه من أفضل البر، وقد رضيت بما فتح الله لي فيه من ذلك، وما أظن ما أنا فيه دون ما أنت فيه، وأرجو أن يكون كلانا على خير، ويجب على كل واحد منا أن يرضى بما قُسِمَ له. والسلام" [التمهيد لابن عبد البر: 7/ 185].
عباد الله: قد يفتح الله على عباده من ألوان الطاعاتِ وصنوفِ العبادات وأنواعِ الاجتهادات وطُرق المسابقات إلى الخيرات، فتجدون من يفتَح الله عليه في القرآن الكريم والعنايةِ به وتلاوته قيامًا وقعودًا وعلى جنبه، في الصلاة وغير الصلاة، في الليل وفي النهار.
ومنهم من يفتح الله عليه في تعليمه وإقرائه، فهمُّه الأكبر في تعليمِه وضبطِه وإتقانه, ومن الناس من يفتح الله عليه في العِلم أو في باب من أبوابه من التوحيد والحديث والفقه والتفسير، كما يفتَح لآخرين في علومٍ أخرى من اللغة والتاريخ والسِّيَر والعلوم التجريبية, ومنهم من يُحسن التدريس، ومنهم من يحسِن الوعظ والتذكير، ومنهم من يشتغِل بالجمع والتأليف.
ومِن عباد الله من يفتَح الله عليه في الصلاة، فهي شغلُه الشاغل، وهي قرّة عينه من الليل والنهار، في خشوعٍ وطولِ قنوت وتضرُّع. وآخر يفتح الله عليه في صيام النوافل، فيكثر من الصيام في أيّامه المستحبّة من الاثنين والخميس وأيام البيض ويصوم يومًا ويفطر يومًا، فيطيق في ذلك ما لا يطيقه غيره.
بينما ترى آخرين قد خصَّهم الله -عزّ وجلّ- بمزيدٍ من برّ الوالدين وصِلة الأرحام وتفقُّد الأقارب وزيارتهم والسؤال عنهم وبرّهم وصِلتهم والإحسان إليهم من غير انتظارِ مكافأة ومحاسبة.
ومنهم من يُفتح له في مساعدةِ المحتاجين وإغاثةِ الملهوفين في الداخل والخارج، فيسعى على الأرملةِ والمسكين والغُرَباء والفقراء، لا يملّ من جمع التبرّعات وطَرق أبوابِ الأغنياء والدخول على المحسنين وإيصال الخير للمستحقِّين، في عملٍ متواصِل في تفريجِ الكروب وسدِّ الديون وكفالةِ الأيتام ورعايتِهم ومواساتِهم وتعليمِهم والمحافظةِ عليهم.
ويفتح الله على أقوام في بناء المساجدِ وإنشاء الأوقاف، والمصالح العامة، وقد أدركوا ما فتَح الله به في وقتنا الحاضر من أبوابِ في العلاج والتطبيبِ وتأمين الدّواء والأجهزة الطبيّة، مع ما فشا من ابتلاءٍ في أمراض مزمنة وإعاقات مستديمة وغلاءٍ في الأدوية والأدوات الطبّيّة.
وآخرون يفتح الله لهم في الاحتساب بالأمرِ بالمعروف والنهيِ عن المنكر والصبرِ على الأذى فيه، فيطيقُ في ذلك ما لا يطيق غيره.
وفي الناس من يُفتح له في بابِ الشفاعة والإصلاح بين الناس، فيفكّ أسيرًا، ويحقن دمًا، ويدفع مكروهًا، ويحِقّ حقًّا، ويمنع باطلاً ويحجز ظلمًا، يقدر على ما لا يقدر عليه غيره، (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى) [البقرة:263]، وقوله تعالى: (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) [النساء:114].
ومن ذلك الفتح على العبد في الدعاء، قال شيخ الإسلام: "أَصْل الدُّعَاءِ مِنْ الْقَلْبِ وَاللِّسَانُ تَابِعٌ لِلْقَلْبِ وَمَنْ جَعَلَ هِمَّتَهُ فِي الدُّعَاءِ تَقْوِيمَ لِسَانِهِ أَضْعَفَ تَوَجُّهَ قَلْبِهِ وَلِهَذَا يَدْعُو الْمُضْطَرُّ بِقَلْبِهِ دُعَاءً يَفْتَحُ عَلَيْهِ لَا يَحْضُرُهُ قَبْلَ ذَلِكَ وَهَذَا أَمْرٌ يَجِدُهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ فِي قَلْبِهِ". [مجموع الفتاوى 22/489].
أيّها المسلمون: العمل الصالح واسعُ الميادين شامل المفاهيم، ينتظم أعمالَ القلوب والجوارحِ من الأقوال والأعمال والمقاصد في الظاهر والباطن والمواهبِ والملكات، من أعمالٍ خاصّة وعامّة، فرديّة وجماعية، في إكرام الضيف وعيادةِ المريض واتّباع الجنائز وإجابة الداعي ونُصرة المظلوم ومواساةِ الفقير وسقيِ الماء وتفريج الكروب وإنظار المعسر وإرشاد الضالّ وإيجاد فرَص العمل، وإنَّ لكم في البهائم لأجرًا، ومن زرع زرعًا أو غرس غرسًا فأكل منه إنسانٌ أو طير أو بهيمة كان له به أجر، ومن جهّز غازيًا فقد غزا.
وهذا المعاني من تنوع الفتوح في الطاعات أكدها شيخ الإسلام ابن تيمية إذ يقول: "أَفْضَلُ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ الصَّلَاةُ ثُمَّ الْقِرَاءَةُ ثُمَّ الذِّكْرُ ثُمَّ الدُّعَاءُ وَالْمَفْضُولُ فِي وَقْتِهِ الَّذِي شُرِعَ فِيهِ أَفْضَلُ مِنْ الْفَاضِلِ كَالتَّسْبِيحِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فَإِنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ الْقِرَاءَةِ وَكَذَلِكَ الدُّعَاءُ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ أَفْضَلُ مِنْ الْقِرَاءَةِ ثُمَّ قَدْ يُفْتَحُ عَلَى الْإِنْسَانِ فِي الْعَمَلِ الْمَفْضُولِ مَا لَا يُفْتَحُ عَلَيْهِ فِي الْعَمَلِ الْفَاضِل". [مجموع الفتاوى 10/402].
عباد الله: إن غذاء القلب وصلاحه وسعادته وفلاحه والفتح عليه في عبادة الله وحده، والاستعانة به وحده، قال تعالى: (فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ) [الشعراء: 213]، وهلاك القلب وشقاؤه، وضرره العاجل والآجل، في عبادة المخلوق والاستعانة به.
فاحرصوا -أيها الأحبة- على حياة قلوبكم، وسلامتها، ليفتح الله عليها بما يصلحها ويحييها.
اللهم املأ قلوبنا ثقة بك، وتوكلاً عليك، ومحبة لك، اللهم إنا نسألك إيمانًا صادقًا، ولساناً ذاكرًا، وقلبًا خاشعًا. اللهم أحسن لنا الختام، وارزقنا الإخلاص في الأقوال والأعمال.
اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل.