الله
أسماء الله الحسنى وصفاته أصل الإيمان، وهي نوع من أنواع التوحيد...
العربية
المؤلف | محمد بن مبارك الشرافي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | أركان الإيمان - أهل السنة والجماعة |
مَعْرِفَة الْعَقِيدَةِ أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ وَمُهِمٌّ جِدَّاً، وَلِذَلِكَ فَإِنَّ رُسُلَ اللهِ -عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- كُلَّهُمْ جَاؤُوا لِتَرْسِيخِ أَمْرِ الْعَقِيدَةِ وَتَثْبِيتِهَا وَبَيَانِهَا بَيَانَاً شَافِيَاً، وَإِنَّ خَاتَمَهُمْ وَسَيَّدَهُمْ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَضَّحَ عَقِيدَتَنَا أَتَمَّ الْوُضُوحِ وَبَيَّنَهَا أَتَمَّ الْبَيَانِ. وَإِنَّنَا فِي حَاجَةٍ عَظِيمَةٍ لِمَعْرفَةِ عَقِيدَتِنَا وَالثَّبَاتِ عَلَيْهَا لِأَنَّهَا أَسَاسُ الْعَمَلِ، فَمَنْ صَحَّتْ عَقِيدَتَهُ كَفَاهُ الْقَلِيلُ مِنَ الْعَمَلِ، وَمَنْ فَسَدَتْ عَقِيدَتُهُ مَا نَفَعَهُ كَثِيرُ الْعَمَلِ...
الخطبة الأولى:
الْحَمْدُ للهِ الذِي بَيَّنَ فِي كِتَابِهِ لِعِبِادِهِ مَا يُصْلِحُ دِينَهَمُ وَدُنْيَاهُم، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفِيُّهُ وَخَلِيلُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَى وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمَاً كَثِيرَاً إِلَى يَوْمِ الدِّين.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ مَعْرِفَةَ الْعَقِيدَةِ أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ وَمُهِمٌّ جِدًّا، وَلِذَلِكَ فَإِنَّ رُسُلَ اللهِ -عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- كُلَّهُمْ جَاؤُوا لِتَرْسِيخِ أَمْرِ الْعَقِيدَةِ وَتَثْبِيتِهَا وَبَيَانِهَا بَيَانَاً شَافِيَاً، وَإِنَّ خَاتَمَهُمْ وَسَيَّدَهُمْ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَضَّحَ عَقِيدَتَنَا أَتَمَّ الْوُضُوحِ وَبَيَّنَهَا أَتَمَّ الْبَيَانِ.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: وَالْمُرَادُ بِالْعَقِيدَةِ: أَرْكَانُ الْإِيمَانِ وَمَا يَتْبَعُهَا مِنَ الْغَيْبِيَّاتِ وَالاعْتِقَادَاتِ التِي جَاءَتْ بِهَا نُصُوصُ الْوَحْيَيْنِ وَنَصَّ عَلَيْهَا عُلَمَاءُ أَهْلِ السُّنَّةِ قَدِيمَاً وَحَدِيثَاً.
وَإِنَّنَا فِي حَاجَةٍ عَظِيمَةٍ لِمَعْرفَةِ عَقِيدَتِنَا وَالثَّبَاتِ عَلَيْهَا لِأَنَّهَا أَسَاسُ الْعَمَلِ، فَمَنْ صَحَّتْ عَقِيدَتَهُ كَفَاهُ الْقَلِيلُ مِنَ الْعَمَلِ، وَمَنْ فَسَدَتْ عَقِيدَتُهُ مَا نَفَعَهُ كَثِيرُ الْعَمَلِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا) [الفرقان: 23].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ عَقِيدَتَنَا أَنْ نُؤْمِنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَنُؤْمِنُ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ.
فَنَعْتَقِدُ اعْتِقَادَاً جَازِمَاً أَنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- رَبُّنَا الذِي خَلَقَنَا مِنَ الْعَدَمِ وَرَبَّانَا بِالنِّعَمِ وَهُوَ الْمَالِكُ الْمُدَبِّرُ الْخَالِقُ الرَّزَّاقُ، فَاللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- هُوَ الذِي رَفَعَ السَّمَاءَ وَبَسَطَ الْأَرْضَ وَنَصَبَ الْجِبَالَ وَشَقَّ الْبِحَارَ وَأَجْرَى الْأَنْهَارَ, إِنَّهُ الذِي يَأْتِي بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَيَجْعَلُ الشَّمْسَ تَطْلُعُ مِنَ الْمَشْرِقِ وَتَغِيبُ فِي الْمَغْرِبِ، إِنَّهُ الذِي يَرْزُقُ الطَّيْرَ فِي الْهَوَاءِ وَالسَّمَكَ فِي الْمَاءِ، وَيَحْفَظُ الْوُحُوشَ فِي الْبَرَارِي وَالدَّوَابَّ فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ, قَالَ اللهُ تَعَالَى: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) [الأعراف: 54].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: وَنَعْتَقِدُ أَنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ دُونَ مَنْ سِوَاهُ, فَلَهُ نَصُلِّي وَنَسْجُدُ وَإِلَيْهِ نَرْفَعُ أَكُفَّنَا بِالدَّعَاءِ، وَهُوَ مَلْجَأُنَا وَمَلاذُنَا وَهُوَ مُجِيرُنَا وَمَعَاذُنَا, فَلا رَبَّ لَنَا سُوَاهُ وَلا إِلَهَ لَنَا غَيْرُهُ، فَنَتَقَرَّبُ إِلَيْهِ بِجَمِيعِ أَعْمَالِنَا، قَالَ اللهُ تَبَارَك وَتَعَالَى (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِين) [الأنعام: 162- 163].
وَنَعْتَقِدُ أَنَّ جَمِيعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلُّهُمْ عَبِيدُ للهِ خَلَقَهُمْ اللهُ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ فَلا يَسْتَحِقُّونَ شَيْئَاً مِنَ الْعِبَادَةِ وَلَوْ قَلَّ، قَالَ اللهُ تَعَالَى (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا) [مريم: 93- 95].
وَنَعْتَقِدُ أَنَّ رَبَّنَا -عَزَّ وَجَلَّ- لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَالصِّفَاتِ الْعُلَى، فَاللهُ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ..، فَأَسْمَاءُ اللهِ كَثِيرَةٌ لا تُحْصَى وَهُوَ سُبْحَانَهُ وَاحِدٌ لا شَرِيكَ وَلا نِدَّ لَهُ وَلا مَثِيلَ لَهُ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: (وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ) [البقرة: 163]، وَقَالَ -عَزَّ وَجَلَّ-: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ) [سورة الإخلاص: 1- 4]، وَمَعْنَى الصَّمَدِ: الذِي كَمُلَ فِي صِفَاتِ الشَّرَفَ وَالْمَجْدِ وَالْعَظَمَةِ، الذِي يَقْصِدُهُ الْخَلَائِقُ فِي قَضَاءِ الْحَوَائِجِ وَالرَّغَائِبِ.
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: وَنَعْتَقِدُ أَنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- لَهُ صِفَاتٌ حَقِيقِيَّةٌ عَظِيمَةٌ تَلِيقُ بهِ سُبْحَانَهُ وَيَسْتَحِقُّهَا، فَنُؤْمِنُ بِهَا جَزْمَاً كَمَا جَاءَتْ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَصَحِيحِ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ، فَاللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- فَوْقَ الْعَالَمِ كُلِّهِ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ، لَهُ سَمْعٌ وَبَصَرٌ أَحَاطَ بِكُلِّ مَسْمَوعٍ وَمُبْصَرٍ، لَهُ الْعِلْمُ الذِي لا يَغِيبُ عَنْهُ شَيْءٌ دَقَّ أَوْ جَلَّ خَفِيَ أَوْ ظَهَرَ، لَهُ الْقُدْرَةُ الْبَاهِرَةُ وَالْقُوَّةُ الْقَاهِرَةُ، لَهُ الرَّحْمَةُ التِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ, وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ، سَيْطَرَ عَلَى الْعَالَمِ وَغَلَبَ كُلَّ جَبَّارٍ وَأَذَلَّ كُلَّ مُتَكَبِّرٍ، لا أَحَدَ يَمْلِكُ عِنْدَهُ شَيْءٌ إِلَّا بِإِذِنْهِ وَلا يَتَوَسَّطُ لِغَيْرِهِ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَحِلْمِهِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) [البقرة: 255].
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: وَنَعْتَقِدُ أَنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- لَهُ وَجْهٌ حَقِيقِيٌّ يَلِيقُ بِجَلَالِهِ وَلَهُ يَدَانِ اثْنَتَانِ يَقْبِضُ بِهِمَا وَيَبْسُطُ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَام) [الرحمن: 26- 27]، وَقَالَ -عَزَّ وَجَلَّ- (وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ) [المائدة: 64].
وَنَعْتَقِدُ أَنَّ رَبَّنَا يَنْزِلُ كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا يُنَادِي عِبَادَهُ، وَيَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ بِعَدْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، قَالَ سُبْحَانَهُ: (كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا * وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى) [الفجر: 21- 23].
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ يَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ, مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ" (مُتَّفَقٌ عَلَيْه).
وَمِنْ عَقِيدَتِنَا يَا مُسْلِمُونَ: أَنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- تَفَرَّدَ بِعِلْمِ الْغَيْبِ فَلا يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ إِلَّا اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- وَحْدَهُ، قَالَ اللهُ تَعَالَى (قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) [النمل: 65]، لَكِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- قَدْ يُطْلِعُ بَعْضَ عِبَادِهِ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْغَيْبِ، كَمَا أَطْلَعَ نَبِيَّنَا مُحَمَّدَاً -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى بَعْضِ الْمُغَيَّبَاتِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا * لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا) [الجن: 26- 28].
وَعَلَى هَذَا فَمَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ غَيْرَ اللهِ يَعْلَمُ الْغَيْبَ فَهُوَ خَارِجٌ عَنْ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ لِأَنَّهُ مُكَذِّبٌ بِالْقُرْآنِ، كَمَا يَعْتَقِدُ غُلَاةُ الشِّيعَةِ وَالصُّوفِيَّةِ فِي سَادَتِهِمْ, نَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الْخُذْلَانِ وَالضَّلَالِ، وَنَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَرْزُقَنَا الْعِلْمَ النَّافِعَ وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ.
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الْحَمْدُ للهِ الذَي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ، وَالصَّلاةُ عَلَى خَاتَمِ رُسُلِهِ وَأَفْضَلِ أَنْبِيَائِهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَأَزْوَاجِهِ وَعَلَى مَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ لِقَائِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمَاً كَثِيراً.
أَمَّا بَعْدُ: فَمِنْ عَقِيدَتِنَا أَنْ نُؤْمِنَ بِالْمَلَائِكَةِ الْكِرَامِ خَلَقَهُمْ مِنْ نُورٍ, لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَةِ ربهم وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ، يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ، يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُون.
وَمِنْ عَقِيدَتِنَا: الْإِيمَانُ بِأَنَّ اللهَ بَعَثَ إِلَى كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً يُبَلُّغُهُمْ دِينَهُ وَيَأْمُرُهُمْ بِعَبَادِةِ رَبِّهِمْ وَحْدَهُ، وَأَعْطَى اللهُ كُلَّ رَسُولٍ كِتَابَاً، قَالَ اللهُ تَعَالَى: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) [النحل: 36].
وَمَعَ تَصْدِيقِنَا بِصِحَّةِ رِسَالاتِ أُولَئِكَ الرُّسُلِ الْكِرَامِ، وَبِحَقِيقَةِ الْكُتُبِ التِي أُنْزِلَتْ إِلَيْهِمْ إِلَّا أَنَّنَا لا نَتَّبِعُ إِلَّا رَسُولَنَا مُحَمَّدَاً -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَلا نَقْبَلُ إِلَّا مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّ الْكُتُبَ السَّابِقَةَ قَدْ حُرِّفَتْ وَعَبَثَ فِيهَا أَحْبَارُ الْيَهُودِ وَرُهْبَانُ النَّصَارَى، قَالَ اللهُ تَعَالَى: (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِه) [المائدة: 41].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: وَمِنْ عَقِيدَتِنَا أَنْ نُؤْمِنَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ، الْيَوْمِ الذِي يَقُومُ فِيهِ النَّاسُ مِنْ قُبُورِهِمْ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ، يَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا عَمِلَتْ، يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ، يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الْعَالَمَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَيُحَاسِبُهُمْ ثُمَّ إِلَى جَنَّةٍ أَوْ إِلَى نَارٍ، قَالَ اللهُ تَعَالَى (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) [التغابن: 7].
أَيُّهَا النَّاسُ: وَمِنْ عَقِيدَتِنَا الِإِيمَانُ بِالْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ، فَنَعْتَقِدُ اعْتِقَادَاً جَازِمَاً أَنَّ اللهَ عَلِمَ كُلَّ شيْءٍ وَأَرَادَهُ وَكَتَبَ الْمَقَادِيرَ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، فَمَا شَاءَ اللهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، لا رَادَّ لِحُكْمِهِ وَلا مُعَقِّبَ لِقَضَائِهِ، فَهُوَ اللهُ قَدَّرَ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ, فَلا يَحْدُثُ فِي مُلْكِهِ مَا لا يُرِيدُ, وَمَعَ هَذَا فَلا حُجَّةَ لِلْعَاصِينَ فِي الْقَدَرِ؛ لِأَنَّ اللهَ قَدْ بَيَّنَ لَهُ الصَّوَابَ مِنَ الْخَطَأِ، وَجَعَلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ قُدْرَةً وَمَشِيئَةً يَفْعَلُ بِاخْتِيَارِهِ وَيَمْتَنِعُ بِإِرَادَتِهِ، وَلا أَحَدَ يُحِسُّ أَنَّهُ مُجْبَرٌ عَلَى مَا يَفْعَلُ، وَمَعَ قُدْرَتِنَا وَمَشِيئَتِنَا إِلَّا أَنَّنَا تَحْتَ اللهِ وَمَشِيئَتِهِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) [التكوير: 28- 29].
وَمَوْقِفُنَا مِنَ الْقَدَرِ أَنْ نَجْتَهِدَ فِيمَا يُصْلِحُ دِينَنَا وَدُنْيَانَا فَإِذَا حَصَلَ خَيْرٌ شَكَرْنَا اللهَ وَإِذَا حَصَلَ شَرٌّ صَبَرْنَا وَدَعَوْنَا اللهَ بِالْفَرَجِ، عَنْ صُهَيْبٍ الرُّومِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ" (رَوَاهُ مُسْلِمٌ).
فَأَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُحْيِيَنَا عَلَى الْإِسْلَامِ وَيُمِيتَنَا عَلَى الْإِيمَانِ وَأَنْ يَرْزُقَنَا الْعِلْمَ النَّافِعَ وَالْعِلْمَ الصَّالِحَ، وَأَنْ يَجْعَلَنَا مِمَّنِ اسْتَمَعَ الْقَوْلَ فَاتَّبَعَ أَحْسَنَهُ.
اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لَنَا دِينَنَا الذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا دُنْيَانَا التِي فِيهَا مَعَاشُنَا وَأَصْلِحْ لَنَا آخِرَتَنَا التِي إِلَيْهَا مَعَادُنَا!
اللَّهُمَّ أَصْلِحْ شَبَابَ الْمُسْلِمِينَ وَاهْدِهِمْ سُبُلَ السَّلامِ وَخُذْ بِنَوَاصِيهِمْ للْهُدَى وَالرَّشَادِ، اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي دُورِنَا وَأَصْلِحْ وُلَاةَ أُمُورِنَا!
اللَّهُمَّ جَنِّبْ بِلادَنَا الْفِتَنَ وَسَائِرَ بِلادِ الْمُسْلمِينَ!
اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِن الغَلَا وَالوَبَا وَالرِّبَا وَالزِّنَا وَالزَلازِلَ وَالفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَن!
وَصَلِّ اللَّهُمَّ وَسَلِّمْ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، وَالْحَمْد للهِ رَبِّ العَالَمِين.