الخبير
كلمةُ (الخبير) في اللغةِ صفة مشبَّهة، مشتقة من الفعل (خبَرَ)،...
العربية
المؤلف | خالد ضحوي الظفيري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | فقه النوازل |
أين ذهبت عقول هؤلاء؟ وأي دين هذا الذي يبيح قتل الأنفس المعصومة، وإزهاق الدماء المحرمة؟ قال -صلى الله عليه وسلم-: "من خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها، ولا يتحاشى من مؤمنها، ولا يفي لذي عهد عهده؛ فليس مني، ولست منه".
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضِلّ له، ومَن يُضْلِلْ فلا هاديَ له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]. (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله: لقد بعث الله -تعالى- نبيه محمدا -صلى الله عليه وسلم- بالحنيفية السمحة، وجعل الرفق والإحسان والعدل والحق من سمات تشريعاتها وأحكامها وآدابها، فدين الإسلام دين يسر ليس فيه مشقة ولا تنطع، دين وسط، لا إفراط فيه ولا تفريط.
وحذر -سبحانه وتعالى- عباده من التنطع والغلو في الدين، فقال -تعالى- لأهل الكتاب، وهو لهم ولغيرهم من هذه الأمة: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ) [المائدة:77].
ونهى النبي -صلى الله عليه وسلم- أمته عن التشدد والتطرف، فعن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "هلك المتنطعون"، قالها ثلاثا. رواه مسلم. والمتنطعون هم المتشددون المتجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم.
والغلو هو مجاوزة الحد في فهم الدين وتطبيقه، فالغلو والتنطع سببه التطرف في فهم الدين، والتكلف والتجاوز عند العمل به، فالتطرف مسلك من مسالك الشيطان لفتنة الناس في دينهم، فالشيطان إما أن يدخل على الإنسان من باب التساهل والتفريط والتمييع حتى يوقعه في المحرمات وتضييع الواجبات، أو يدخل عليه من باب التشدد والإفراط فيوقعه في الغلو في فهم النصوص الشرعية والتطرف في تطبيقها حتى يصرفه عن الحق والعدل وطاعة الله –سبحانه وتعالى-، وهذا يخالف سماحة الإسلام وعدله؛ فدين الله -تعالى- يسر في كل تشريعاته وأحكامه وآدابه. قال -صلى الله عليه وسلم-: "إن الدين يسر، ولن يشادّ الدين أحد إلا غلبه" رواه البخاري.
وفي الصحيحين، عن أنس -رضي الله تعالى عنه- أنه قال: "جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- يسألون عن عبادة النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلما أخبروا كأنهم تقالوها، أي: عدوها قليلة، فقالوا: وأين نحن من النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ فقال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبداً، وقال الآخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال الآخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً، فجاء -صلى الله عليه وسلم- وقال: "أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له! لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء؛ فمن رغب عني سنتي فليس مني".
عباد الله: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان حريصا على توجيه أمته ونصحها، فشدد في تحذيرها من خطر التطرف والغلو حتى لا تقع فيه كما وقعت الأمم السابقة، قال -صلى الله عليه وسلم-: "لا تشددوا على أنفسكم فيشدد عليكم؛ فإن قوما شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم فتلك بقاياهم في الصوامع والديار".
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غداة جمع -أي: مزدلفة-: "هَلُمَّ الْقُطْ لِي الحصى"، أي: حصى الجمار، فَلَقَطْتُ لَهُ حَصَيَاتٍ هُن حَصَى الْخَذْفِ، فَلَمَّا وَضَعَهُنَّ فِي يَدِهِ، قَالَ: "نَعَمْ، بِأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ؛ وَإِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ! فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِالْغُلُوِّ فِي الدِّينِ".
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: "وهذا عامٌّ في جميع أنواع الغلو، في الاعتقادات والأعمال، وسبب هذا اللفظ العام رمي الجمار، وهو داخل فيه مثل رمي الجمار الكبار ونحو ذلك بناء على انه أبلغ من الحصى الصغار" اهـ.
لذلك؛ عليكم -عباد الله- الحذر من أن تغلو في دين الله، وأن تزيدوا فيه، أو أن تتطرفوا في فهمه وتطبيقه؛ فإن قوما حملهم الغلو والتطرف وتزيين الشيطان لبعضهم أن يحكموا على الآخرين بما يخالف الكتاب والسنة، وحتى إنه ليحمل بعضهم على أن يكفر المسلمين، ويستبيح قتلهم وسلبهم والتعدي عليهم باسم الدين.
أين ذهبت عقول هؤلاء؟ وأي دين هذا الذي يبيح قتل الأنفس المعصومة، وإزهاق الدماء المحرمة؟ قال -صلى الله عليه وسلم-: "من خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها، ولا يتحاشى من مؤمنها، ولا يفي لذي عهد عهده؛ فليس مني، ولست منه".
وهذه الأعمال من أشر البدع التي ظهرت في الأمة، ومن المحدثات المردودة على أصحابها؛ فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد"، أي: مردود على صاحبه.
وكان سلف الأمة -كذلك- يحذرون من التطرف والغلو، فعن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: "تعلموا العلم قبل أن يقبض، وقبضه أن يذهب أهله. ألا وإياكم والتنطع والتعمق والبدع! وعليكم بالعتيق"، أي: ما كان عليه السلف الصالح.
عباد الله: إن هؤلاء الذين تطرفوا وغلوا في الدين يظنون أنهم يحسنون صنعا، ويحسبون أنهم على خير، ويزعمون أنهم يصلحون، وهم في الحقيقة ما قدموا لأنفسهم ولا للإسلام خيرا؛ بل أفسدوا في الأرض بعد إصلاحها، وأضروا البلاد والعباد، فما أصابوا وما أحسنوا، فالطوائف الضالة المغالية التي ظهرت في التاريخ الإسلامي أضرت الإسلام والمسلمين، وأوقفت التقدم والتطور في بناء دول الإسلام، وأعانت الأعداء على المؤمنين.
فعليكم -عباد الله- الحذر من المنهاج والطرق المخالفة لسماحة الإسلام ويسره وعدله، التي تتخذ مزالق الأهواء والبدع طريقا لها، وعليكم تجنب الأسباب المؤدية إلى الغلو والتطرف، والتنبه من الوقوع في حدودها.
اللهم ألهمنا الرشد والتقى، ووفقنا للصواب والسداد، واجعلنا مفاتيح للخير، مغاليق للشر والفساد.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه.
أما بعد: عباد الله، إن الدين عند الله الإسلام، وهو دين وسط لا غلو فيه ولا تقصير، فمن شادّه وتعمق وتنطّع وتكلف وتجنب الرفق واليسر والحق فقد وقع في البدع، وانقطع به العمل.
وإن من أسباب الغلو والتطرف في دين الله -جل وعلا- الجهل، وضعف العلم الشرعي الصحيح القائم على الدليل، وعدم الرجوع إلى الراسخين في العلم، الوارثين علم النبوة وميراثها، وتعظيم الأشخاص وتقدسيهم، والعاطفة المبنية على حماس غير منضبط، فينتهي بهم الأمر أحيانا إلى إشاعة الفوضى والفتنة والقتل.
يقول ابن القيم -رحمه الله تعالى-: "ومن أسباب عبادة الأصنام الغلو في المخلوق، وإعطاؤه فوق منزلته، حتى جعلوا فيه حظا من الإلهية، وشبهوه بالله -تعالى-، وهذا هو التشبيه الواقع في الأمم الذي أبطله الله -سبحانه-، وبعث رسله، وأنزل كتبه بإنكاره والرد على أهله" اهـ.
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: "والفتنة إذا وقعت عجز العقلاء فيها عن دفع السفهاء، وهذا شأن الفتن، كما قال -سبحانه وتعالى-: (وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً)، وإذا وقعت الفتنة لم يسلم من التلوث بها إلا من عصمه الله" اهـ.
لذا؛ حذر نبينا -صلى الله عليه وسلم- من ذلك، فقال في وصف الخوارج الذين هم أول الغلاة ظهورا في الإسلام: "يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان"، فهؤلاء عندهم كل من لم يوافقهم فهو كافر حلال الدم، قال أبو قلابة -رحمه الله تعالى-: "ما ابتدع رجل بدعة قط إلا استحل السيف".
فاليوم، أصبح من مظاهر التطرف والغلو تكفير المجتمعات الإسلامية، والقيام بالأعمال التفجيرية الإرهابية للنفوس المعصومة والمسالمة، والخروج على حكام المسلمين؛ فالتطرف من كيد الشيطان، وهو خطر على البلاد والعباد.
يقول ابن القيم -رحمه الله تعالى-: "من كيده العجيب -أي: الشيطان- أنه يشام النفس، أن يقترب منها حتى يعلم أي القوتين تغلب عليها: قوة الإقدام والشجاعة أم قوة الانكفاف والإحجام والمهانة، وقد اقتطع أكثر الناس إلا أقل القليل في هذين الواديين: وادي التقصير، ووادي المجاوزة والتعدي. والقليل منهم جدا: الثبات على الصراط الذي كان عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه". اهـ.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين...