المنان
المنّان في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعّال) من المَنّ وهو على...
العربية
المؤلف | علي باوزير |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - أركان الإيمان |
إن وجود الله -عز وجل- هو أعظم حقيقة في هذا الكون كله، الحق سبحانه هو أعظم حقيقة في هذا الكون كله، لا يصح ولا ينبغي ولا يقبل أن يكون فيها ذرة شك واحدة، واسمع للرسل ماذا قالوا لأقوامهم حين قالوا هؤلاء الأقوام: (إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ)، فقالت لهم رسولهم (أَفِي اللّهِ شَكٌّ)؟! تشكون في ماذا؟ تشكون في أعظم حقيقة في الكون كله؟ تشكون في أعظم معلوم في هذا الوجود كله؟ بماذا يمكن أن تؤمنوا إذا لم تؤمنوا بالله (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ)، أيّ علم يمكن أن يتحصل إذا لم يؤمن بالله؟! وأي حقيقة يمكن أن يتوصل إليها الإنسان إذا لم يقر بحقيقة وجود الله -عز وجل-؟!
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
وبعد أيها المسلمون عباد الله: العلوم والمعارف كثيرة جداً ومتعددة ومتنوعة وأجلها وأعظمها العلم الذي يعرف بالله -سبحانه وتعالى- فهو أفضل العلوم لأنه يتحدث عن أعظم معلوم وهو الرب جل في علاه.
العلم بأسماء الله، العلم بصفات الله، هذا هو العلم الذي يوصل العبد إلى الله ويربط بين المخلوق وخالقه، ويعرفه بربه من هو الله.
ولنا أيها الأحباب في هذه الخطبة وقفة مع اسم من أسماء الله -عز وجل- اسم عظيم يعرفنا بالله -عز وجل- تعريفًا عظيمًا، اسم الله "الحق"، الله -عز وجل- هو الحق وورد هذا في القرآن في قرابة عشر مواضع، يقول الله تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ) [الحج: 6]، ويقول -سبحانه وتعالى-: (فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ) [المؤمنون: 116]، ويقول جل وعلا: (ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ) [الأنعام: 62] -سبحانه وتعالى-.
فما معنى الحق أيها الأحباب؟
الحق هو الشيء المتحقق الشيء الثابت الشيء الموجود فكل ما كان موجودًا فهو حق، فالأرض حق، والسماوات حق، والإنسان حق؛ لأنها أشياء ثابتة موجودة، والله -سبحانه وتعالى- هو الحق؛ لأنه موجود، بل وجوده سبحانه أعظم وجود؛ فإن وجوده لم يكن قبله عدم ولا يأتي بعده موت ولا فناء، أما المخلوقات فإن وجودها كان مسبوقا بعدم (هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا) [الإنسان: 1].
ويلحقها بعد ذلك الموت والفناء (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ) [الرحمن: 26- 27]، وأصدق كلمة قالها الشاعر كما يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- هي كلمة لبيب حين قال: "ألا كُلُّ شيءٍ ما خَلا اللّهُ باطِلُ" أي ذاهب زائل؛ فإنه ليس له بقاء أبداً، فالله -عز وجل- هو الحق هو الموجود وجودًا دائمًا ثابتًا مستمرًّا كاملاً ليس فيه نقص أبداً، بل إن وجود الله -عز وجل- هو أعظم حقيقة في هذا الكون كله الحق سبحانه هو أعظم حقيقة في هذا الكون كله، لا يصح ولا ينبغي ولا يقبل أن يكون فيها ذرة شك واحدة، واسمع للرسل ماذا قالوا لأقوامهم حين قالوا هؤلاء الأقوام: (إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ) [إبراهيم:9]، فقالت لهم رسولهم (أَفِي اللّهِ شَكٌّ) [إبراهيم: 10] تشكون في ماذا؟ تشكون في أعظم حقيقة في الكون كله؟ تشكون في أعظم معلوم في هذا الوجود كله؟ بماذا يمكن أن تؤمنوا إذا لم تؤمنوا بالله (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ) [الجاثية:6]، أيّ علم يمكن أن يتحصل إذا لم يؤمن بالله؟! وأي حقيقة يمكن أن يتوصل إليها الإنسان إذا لم يقر بحقيقة وجود الله -عز وجل-؟!
ما هي حقيقة هذا الإنسان؟ ما هي حقيقة هذا الكون؟ ما هي حقيقة هذه الحياة؟ ما هي حقيقة الموت؟ ما هي حقيقة السماوات والأرض؟ ما هي حقيقة سر هذا الوجود كله؟!
هذه الحقائق العظمى لا يمكن أن تُعرف أبداً إلا إذا عرفت الحقيقة الأعظم وهي وجود الله تبارك وتعالى.
خذ على هذا مثالاً بسيطًا، أراد الإنسان أن يعرف حقيقته من أين جاء؟ ومن ماذا خُلق؟ وكيف خُلق؟ وخاض البشر في هذا، وخاض في هذا الباحثون والمفكرون والعلماء والفلاسفة على مر الزمان كلهم يبحثون عن هذه الحقيقة من أين جاء هذا الإنسان وكيف خُلق؟
فلم يتمكنوا من معرفة الجواب، بل ضلوا في هذا ضلالاً عظيمًا حتى قال بعضهم: "إن هذا الإنسان كان في الأصل جرثومة حقيرة صغيرة، ثم تطور على مر ملايين السنين بفعل تغيرات البيئة حتى صار بعد ذلك قردا، ثم تحول من كونه قردا إلى كونه إنسانا".
ما أسخف هذا الكلام! وما أقبح هذا الكلام! وما أضل هذا الكلام! لا يمكن للإنسان أن يعرف حقيقته إلا إذا عرف الحقيقة الأعظم وهي الله -تبارك وتعالى- فإذا عرف الله عرف من أين جاء، وعرف كيف جاء، وكيف خُلق بالطريقة التي قصَّها الله -عز وجل- علينا في القرآن الكريم كما قال سبحانه (ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاء مَّهِينٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ) [السجدة: 6- 9].
فمن عرف هذه الحقيقة؛ حقيقة الله عرف حقيقته هو، وعرف حقيقة هذا الكون وعرف الإجابة عن الأسئلة الكبرى التي حيرت الناس جميعًا.
وإننا معاشر المسلمين نعتقد أيها الأحباب أن الله -تبارك وتعالى- هو الحقيقة العظمى في هذا الكون هو الحق جل في علاه لا يمكن أبداً أن نقبل في هذا جدالاً، ولا يمكن أن نقبل في هذا نقاشًا، ولا يمكن أن نقبل في هذا ترددًا أو شكًّا.
إن جميع علومنا ومعارفنا ونظرياتنا واعتقاداتنا كلها مبنية على هذا الأساس، بل حياتنا تصرفاتنا أعمالنا أفعالنا كلها مبنية على هذا الأساس، على هذه الحقيقة العظمى أن الله -عز وجل- هو الحق وإلا أيها الأحباب لماذا نصلي؟ لماذا نصوم؟ لماذا نزكي؟ لماذا نحج؟ لماذا نفعل الواجب ونترك الحرام؟ لماذا نصبر على مر القضاء وعلى شدة البلاء؟ أليس هذا كله لإيماننا بوجود الله -سبحانه وتعالى-، وأن فوق السماء ربًّا يثيب ويعاقب ويدبر الأمور كلها؟
لماذا أيها الأحباب لم يتمكن أعداء هذه الأمة من كسرها، واستئصال دينها وعقيدتها والقضاء عليها، لماذا لم يتمكنوا من ذلك مع شدة قوتهم وشدة بطشهم وكثرت وسائلهم ومكائدهم ومؤامراتهم؟ لأن هذه الأمة متمسكة بالحق الأعظم.
إن أيّ شعب في الدنيا يتمسك بحق الأرض، وهي مخلوقة لا يمكن أن يُقهر، فكيف بأمة تتمسك بالحق الأعظم وهو الإيمان بالله -سبحانه وتعالى- لا يمكن أن تقهر أبداً ولا يمكن أن تُكسر أبدًا قد تنهزم وتضعف لكنها لا تنكسر ولا تموت.
الله -عز وجل- هو الحق ولأنه هو الحق فقد تكفل بإظهار الحق وإعلاء الحق ونصرة الحق مهما تكالب أهل الباطل ومهما اجتمع الأعداء؛ فإن الله -سبحانه وتعالى- سيعلي ويظهر دينه، ويظهر الحق على الناس جميعًا هو الذي (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) [التوبة:33]، ويقول سبحانه: (وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ) [الأنفال:7] ويقول سبحانه (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ)، ويقول سبحانه (وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا) [الإسراء:81].
هذه سنة الله أنه ناصر للحق، ولا يمكن أن يسلمه للأعداء، ولكن لله -سبحانه وتعالى- في هذا سنة، وهي أن الحق لا يظهر إلا بعد علو الباطل، فإذا ظهر الباطل وعلا وتغلب وتقوى صارت له الكلمة العليا وصاح الناس أين الحق وأين الحق؟ حين يؤذيهم الباطل بشرّه حين يفسد عليهم حياتهم بغوايته، حين يتوجعون ويتألمون من ظلمه وعدوانه عند ذلك يصيحون أين الحق ليخلصهم من هذا الباطل، فعند ذلك يأتي الله -سبحانه وتعالى- بالحق بعد أن يعرفه الناس، وبعد أن يبحث عنه الناس، وبعد أن يطلبه الناس خاصة عند التباس الأمور حين يلتبس الحق بالباطل فلا يتميز هذا من ذاك.
إن الله -سبحانه وتعالى- يجعل للباطل صولة حتى يعرف الباطل، ويتميز الحق ثم بعد ذلك ينصر الله -عز وجل- الحق ويعليه كما قال بعض العلماء في كلام جميل حسن قال: "إذا احتدمت المعركة بين الحق والباطل حتى بلغت ذروتها، وبذل كل فريق آخر ما لديه ليكسبها، فهناك ساعة حرجة يبلغ الباطل فيها ذروة قوته، ويبلغ الحق فيها أقصى محنته، والثبات في هذه الساعة الشديدة هو نقطة التحول والامتحان الذي يكون لإيمان المؤمنين سيبدأ عندها فإذا ثبت تحول كل شيء بعدها لمصلحته..
وهنا يبدأ الحق طريقه صاعدًا ويبدأ الباطل طريقه نازلاً (فَإِذَا جَاء أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ) [غافر:78].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله لا شريك له إقرارًا به وتوحيدًا، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا مزيدًا.
وبعد أيها الأحباب الكرام: الله -سبحانه وتعالى- هو الحق، ولا يكون منه إلا الحق جل في علاه، وكل ما يتعلق بالله سبحانه فهو حق، واسمع لهذا الذكر الجميل الذي كان يردده النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول ابن عباس -رضي الله عنهما-: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول في تهجده: "اللهم لك الحمد أنت قيم السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد، أنت رب السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد، أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد، أنت ملك السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد، أنت الحق، ووعدك حق، ولقاؤك حق، وقولك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، ومحمد -صلى الله عليه وسلم- حق والساعة حق" (رواه البخاري ومسلم).
اسمع إلى هذه الكلمات الجميلة "أنت الحق ووعدك حق وقولك حق"، فالذي يؤمن بأن الله -سبحانه وتعالى- هو الحق فإيمانه هذا يقتضي منه ويتطلب أن يؤمن بأن وعد الله حق، وأن كلام الله -سبحانه وتعالى- حق لا يمكن أن يكون فيه خطأ، ولا يمكن أن يكون فيه خلل، وهذا الكلام الحق كلام الله -عز وجل- لا يحتاج إلى دليل لإثباته لا يحتاج إلى بينات لإثبات صحته، بل إن المؤمن يعتقد أن هذا الكلام هو بنفسه دليل هو حق لذاته يحتج به ولا حاجة لأن يُستدل له.
كلام الله -سبحانه وتعالى- حق مطلق لا يمكن أن يكون فيه خلل أبداً خلاف كلام البشر، فكلام البشر وعلومهم مهما كانت فهي في الأخير حقيقة نسبية قابلة للخطأ يمكن أن يقع فيها الخلل والزلل، وأما كلام الله -عز وجل- فكما قال الله -عز وجل- (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ) [فصلت:42]، وقال سبحانه (وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ).
فعندما يقول الله -سبحانه وتعالى- (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ) [الرعد: 11]، فهذه ليست نظرية للتغيير بل هي حقيقة لا مفر منها، وحين يقول الله -سبحانه وتعالى-: (وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) [التوبة: 28]، ليست هذه أمنية أو حلمًا، بل هي وعد لا شك أنه سيتحقق ولو كانت المعطيات في الأرض كلها على خلاف ذلك.
وحين يقول الله -سبحانه وتعالى-: (أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ..) [النمل:62]، وحين يقول: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ..) [البقرة: 196]، فليس هذا كلام لأجل التخفيف عن الناس بل هذه حقيقة، وهذا وعد ثابت لا يخلف الله -سبحانه وتعالى- وعده.
الله -عز وجل- الحق ولقاءه حق (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ) [الزمر: 30- 31]، (وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ) [ق:19].
وحين يجمع الناس يوم القيامة فيؤتى بالذين كانوا يكذبون بهذا اللقاء وكانوا ينكرون هذا الموعد، فيقول الله -سبحانه وتعالى- لهم: (أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُواْ بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُواْ العَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ) [الأنعام:30]، الله -سبحانه وتعالى- هو الحق وما خلق الخلق إلا بالحق (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ).
وكما يقول -سبحانه وتعالى-: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) [يونس:5]، كما يقول سبحانه: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ..) [الدخان:38 - 39]، فكل ذرة في هذا الكون إنما خُلقت بحق لحكمة يريدها الله -عز وجل- ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
الله -سبحانه وتعالى- هو الحق فهو يقضي بالحق لا يظلم أحدًا لا في الدنيا ولا في الآخرة، بل هو -سبحانه وتعالى- حكم عدل ولا يُرد قضاؤه إذا قضى، بل قضاؤه نافذ في الخلق أجمعين (وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ) وإنما يحب الله -سبحانه وتعالى- من عباده الذين يقضون بالحق، قال -عز وجل- مادحا امة من خلقه (وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) [الأعراف:181].
وكما خاطب الله -سبحانه وتعالى- نبيه -صلى الله عليه وسلم- فقال له (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ..) [المائدة: 48]، وقال سبحانه مخاطبا داود عليه السلام: (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ) [ص: 26].
فأهل الحق في القضاء وأهل الحق في الحكم هم أحباب الله -عز وجل- وأوليائه، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ المقسطين يوم القيامة على منابر من نور، عن يمين الرحمن، -وكلتا يديه يمين- "من هم هؤلاء؟ قال: "الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما وَلُوا" يعدلون إذا حكموا، ويعدلون في أسرهم بين أولادهم وفي حقوق زوجاتهم وما يتعلق بذلك، ويعدلون في ولايتهم ومسئوليتهم التي يكلفون بها.
الله -سبحانه وتعالى- هو الحق فيريد من عباده أن يقوموا بالحق، فإذا تكلموا تكلموا بالحق، وإذا فعلوا فعلوا بالحق، وإذا عاقبوا عاقبوا بالحق، وإذا أثابوا أثابوا بالحق إذا مدحوا مدحوا بالحق، وإذا قدحوا قدحوا بالحق، وإذا شهدوا شهدوا بالحق لا يشهدون إلا بالحق.
يريد الله -سبحانه وتعالى- وهو الحق يريد من عباده أن يقبلوا الحق، فإذا جاءهم الحق أخذوا به ولو كان ثقيلاً على نفوسهم فإن للحق ثقلاً تأباه معه كثير من النفوس كما قال -سبحانه وتعالى- (وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ) [الزخرف: 78].
فعلامة الإيمان قبول الحق، علامة الإيمان العمل بالحق، علامة الإيمان التواصي بالحق، وهي سبيل السعادة والفلاح، قال -عز وجل-: (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) [سورة العصر: 1- 3].
نسأل الله -عز وجل- أن يجعلنا من هؤلاء.