الحق
كلمة (الحَقِّ) في اللغة تعني: الشيءَ الموجود حقيقةً.و(الحَقُّ)...
العربية
المؤلف | خالد بن علي أبا الخيل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - الصلاة |
فحضور القلب في الصلاة هو سبيل السعادة والنجاة، وبه يستفيد المرء من صلاته، قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "فإن الصلاة فيها دفع المكروه وهو الفحشاء والمنكر، وفيها تحصيل المحبوب وهو ذكر الله، وحصول هذا المحبوب أكبر من دفع المكروه".
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي جعل السعادة في الصلاة، وجعل لبها وحياتها في الخشوع والانتباه، أحمده -سبحانه- افتتح أوصاف المؤمنين بالخشوع في الصلاة، وأشهد أن لا إله إلا الله جل في علاه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ومصطفاه، أكمل مَن خشع في الصلاة، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومَن والاه.
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله بفعل أوامره، واجتناب ما زجر عنه ونهى، تنالوا سعادته ورضاه.
أيها المسلمون: مضى معنا في جمعتنا الماضية فضل وعِظم الخشوع ومكانته في العبادات، وموضوعنا في جمعتنا له علاقة بما في الجمعة الماضية، وهو: "الانتباه في حضور القلب في الصلاة".
ولما كان أبرز شعائره وأظهر مظاهره الخشوع في الصلاة، والخشوع ارتبط بالصلاة أكثر من غيرها، فلا يُذكر إلا وينصرف الذهن إليها، ولا يُثنى على صاحبه إلا وذكر الصلاة مقترنٌ بها؛ لأن أعمال الصلاة وأقوالها خشوع، وذكرٌ وقراءةٌ ودموع، وسكونٌ ووقارٌ وخضوع، وقد أمر الله بإقامتها، ومن إقامتها إقامة خشوعها، بل هو لبها وحياتها وسعادتها وروحها.
ولهذا صدّر الله أوصاف المؤمنين في كتابه المبين بأبرز صفات المؤمنين: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ) [المؤمنون:1-2].
ولهذا أجمع العلماء على أن العبد ليس له من صلاته إلا ما عقل عنها، كما ثبت في الحديث "إن العبد ليصلي الصلاة وما يُكتب له إلا ربعها، إلا خمسها، إلا سدسها، حتى بلغ عُشرها".
والصلاة قرة عين الخاشعين، قال إمام الخاشعين: "وجعلت قرة عيني في الصلاة"، ولا تقرّ عين إنسان بها إلا إذا خشع فيها.
والخشوع في الصلاة: يُسهلها على العبد ويُنشط في أدائها، قال -سبحانه- فيها: (وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ) [البقرة:45]، والمعنى: أي: مشقة الصلاة طويلة إلا على الخاشعين.
وحياة الصلاة في خشوعها، وراحتها وسعادتها في خشوعها، وتأمل حديث أبي هريرة عند مسلم، قال الله -تعالى-: "قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فإذا قال: الحمد لله رب العالمين، قال: حمدني عبدي، وإذا قال: الرحمن الرحيم، قال: أثنى عليَّ عبدي، وإذا قال: مالك يوم الدين، قال: مجدني عبدي"، ولا يتأتى لذة ذلك ومناجاة الله بذلك إلا بالخشوع في الصلاة.
قال الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب، أجزل الله له الأجر والثواب: اعلم -أرشدك الله لطاعته- أن مقصود الصلاة وروحها ولبها هو إقبال القلب على الله فيها، فإذا صليت بلا قلبٍ فهي كالجسد الذي لا روح فيه، ويدل على ذلك قوله: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ) [الماعون:4-5]، ففُسِّر السهو عن وقتها -أي: إضاعته-، والسهو عما يجب فيها، والسهو عن حضور القلب. اهـ.
ويدل على ذلك الحديث الذي في صحيح مسلم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق، يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني شيطان قام فنقر أربعًا لا يذكر الله فيها إلا قليلًا"، فوصفه بإضاعته الوقت بقوله: "يرقب الشمس"، وبإضاعة الأركان بذكر النقر، وبإضاعة حضور القلب بقوله: "لا يذكر الله فيها إلا قليلًا".
فحضور القلب في الصلاة هو سبيل السعادة والنجاة، وبه يستفيد المرء من صلاته، قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "فإن الصلاة فيها دفع المكروه وهو الفحشاء والمنكر، وفيها تحصيل المحبوب وهو ذكر الله، وحصول هذا المحبوب أكبر من دفع المكروه".
وصاحب القلب الحاضر -أيها الأخ المسلم الحاضر- هو الذي يرتاح للصلاة، وينشرح قلبه فيها، فحياته وراحته فيها؛ ولهذا قال -عليه الصلاة والسلام- لبلال: "أرحنا بالصلاة"، وصلاةٌ بلا خشوع، كجسد بلا لحمٍ وضلوع.
قال بعض السلف: الصلاة كجارية تُهدى إلى ملك الملوك، فما الظن بمَن يُهدي إليه جارية شلّاء أو عوراء أو عمياء أو مقطوعة اليد والرجل أو مريضة أو دميمة أو قبيحة حتى يُهدي إليه جارية ميتةً بلا روح؟ فكيف بالصلاة؟ يُهديها العبد ويتقرب بها إلى ربه -تعالى- والله طيبٌ لا يقبل إلا طيبًا، وليس من العمل الطيب صلاةٌ لا روح فيها، كما أنه ليس من العتق الطيب عتق عبدٍ لا روح فيه.
ولعِظم "الخشوع في الصلاة وحضور القلب"، يا مسلمين، كان الصحيح من قول العلماء وجوب الخشوع في الصلاة، وعلى هذا مَن نقرها لم يخشع فيها، ومَن لم يطمئن بعد الركوع لم يخشع فيها، ومَن لم يطمئن في ركوعه وسجوده وجلوسه لم يخشع فيها، ومَن لم يستقر ويجلس بين السجدتين ويطمئن لم يخشع فيها، ومَن لم يُحضر قلبه ويتذكر ويتدبر ويتفكر لم يخشع فيها، ولا يجد العبد أنسه، ولذته في صلاته إلا إذا خشع فيها وحضر قلبه فيها.
ولهذا انظر إلى هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- المصطفى وأصحابه وأتباعه، ومَن على نهجه سار واهتدى لما عرفوا الحكمة من شرعية هذه الصلوات وما هو لبها وحياتها؛ ومن ثم ذاقوا لذتها وطعمها فجعلوها قرة العين، وسرور القلب، وراحة البدن، يتلذذون بها كما يلتذ غيرهم بشهوات البطن والفرج، ويفرحون ويسرون بالدخول فيها كما يفرح اللاهون بلهوهم ومرحهم وشهواتهم وطربهم، فمتى دخل أحدهم في صلاته تغيرت حياته، وخشعت جوارحه، ورق طبعه، ولان قلبه، ودمعت عينه، وسكنت حركاته، وطأطأ رقبته، حتى إن أحدهم ليُشبه بالخشبة المنصوبة، وآخر يقع الطير على رأسه، وثالثٌ لا يشعر بمن حوله، بخلاف حالنا، نعوذ بالله من شرور أنفسنا! إذا دخلنا مساجدنا أدخلنا أبداننا، وأخرجنا قلوبنا: قلوبنا سارحة، وفي أودية الدنيا سانحة، فترى الجسد خاشعًا ساكنا، والقلب ذاهبا مفتونا في المواطن، ويتقلب في كل الأماكن.
فالصلاة بلا حضور قلبٍ ولا خشوع كالجثة الهامدة ليس بها روح، سمع بعض السلف قارئًا يقرأ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى) [النساء:43]، قال: "كم مصلٍّ لم يشرب خمرا وهو في صلاته لا يعلم ما يقول، قد أسكرته الدنيا بهمومها!".
والبعض -عباد الله- لا تحلو هواجيسه، ولا تهيج حواسيسه، ولا تطيب أفكاره، ولا يُبرم حساباته، ولا يقضي أشغاله، ولا يُجهز جيشه، ولا يُنظم حاله، ولا يُخطط حياته، إلا في هذه الدقائق المعدودة؛ إذا كبّر للصلاة عاث في البلدان، وتفكّر في الحيطان، وهام في الوديان، وانشغلت الأذهان!.
الشيطان في هذه الدقائق المحسوبة التي ربما لا تتجاوز أصابع اليدين المعدودة، يجلب بخيله ورَجلِه هو وجنوده، يُظهر عداوته، ويُكشر عن أنيابه حتى يُخرج المصلي من صلاته، ولم يُكتب له فيها ومنها إلا اليسير، ربما حصّل الخلط والتقصير، لعلمه أنه إذا صلحت صلاته صلحت حياته، وإذا فسدت أو نقصت صلاته فسدت حياته.
قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "الصلاة إذا أتى بها كما أُمِر نهته عن الفحشاء والمنكر، وإذا لم تنهه، دل على تضييعه لحقوقها وإن كان مطيعًا".
ولهذا، إذا أصلح العبد هذا الموقف صلح وسهل عليه ذلك الموقف، أتدرون أي موقف؟ إنه الوقوف بين يدي الله، فالعبد له موقفٌ في الدنيا وموقفٌ في الآخرة. في الدنيا: بين يدي ربه في الصلاة، وفي الآخرة: بين يدي ربه في الآخرة. فمَن قام بحق الموقف الأول هوّنَ عليه الموقف الآخر، ومَن استهان بهذا الموقف ولم يوفه حقه شُدد عليه هذا الموقف، فالعبد ليس له من صلاة نافعة، وفي الآخرة رافعة، إلا بقدر ما تكون خاشعة. قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "والعبد وإن أقام صورة الصلاة الظاهرة فلا ثواب إلا على قدر ما حضر قلبه فيه منها".
والجوارح تبعٌ للقلب، إذا خشع خشعت، ولما رأى أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه- رجلا يعبث في صلاته قال: "لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه".
وأعظم باب للوسواس هو الهواجيس، إذا دخل العبد في الصلاة فالشيطان يقول للإنسان: اذكر كذا، اذكر كذا، حتى يظل لا يدري كم صلى، ولما كان الإنسان ما له بد من نقصٍ وسهو، شُرِع سجود السهو؛ إرغامًا للشيطان، وجبرًا للنقصان، وإرضاءً للرحمن.
قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه؛ إنه هو التواب الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليُظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله إقرارًا به وتوحيدًا، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا مزيدًا.
ومما يُنافي حضور القلب -يا أيها المسلمون- الالتفات في الصلاة، والالتفات في الصلاة قسمان: الأول: التفات القلب عن الله لا غيره. الثاني: التفات البصر. وكلاهما منهي عنه.
ولا يزال الله مقبلًا على عبده ما دام العبد مقبلًا على صلاته، فإذا التفت بقلبه أو بصره أعرض الله عنه، فالالتفات اختلاس يختلسه الشيطان من العبد حتى يُفسد أو يُنقص عليه صلاته، أرأيتم لو أن إنسانًا وقف أمام ملكٍ من الملوك أو رئيس من الرؤساء، ماذا حاله؟ وماذا وصفه؟ وماذا جماله؟ ماذا بهاؤه؟ أتجده يُقبل بكليته، ويتجمل لمقابلته، ويجمع بصره وسمعه لتواجده؟.
وتجد البعض إذا وقف بين يدي ملك الملوك الذي أزمة الأمور بيده يناجيه بقلبٍ غافلٍ لاهٍ، وذكرٍ لا يعرف معناه، فجسمه موجود، وقلبه مفقود. قال بعضهم: المصلي يحتاج إلى أربع خِصال حتى تُرفع صلاته: حضور قلب، وشهود عقل، وخضوع أركان، وخشوع جوارح.
فمَن صلى بلا حضور قلبٍ فهو مُصلٍّ لاهٍ، ومَن صلى بلا خضوعٍ ولا عقلٍ فهو مُصلٍّ ساهٍ.
وغاية الصلاة ولبها حضور القلب وذكر الله فيها، (وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) [طه:14]، وضد الذكر الغفلة فيها، وغياب القلب عنها، ولابن القيم -رحمه الله- كلام نفيس ساقه في كتابه النفيس الوابل الصيب، أقتنص منه ما تيسر وما يحتاجه مَن سمع وحضر، قال: "ومثل مَن يلتفت في صلاته ببصره أو بقلبه مثل رجل قد استدعاه السلطان، فأوقفه بين يديه وأقبل يناديه ويُخاطبه وهو في خلال ذلك يلتفت عن السلطان يمينًا وشمالًا"، أو قد انصرف قلبه عنه فلا يفهم ما يُخاطبه به، فما ظن هذا الرجل أن يفعل به السلطان؟ أفليس أقل المراتب أن ينصرف من بين يديه ممقوتًا مبعدًا قد سقط من عينيه؟ فهذا المصلي لا يستوي والحاضر القلب المقبل على الله الذي قد أشعر قلبه عظمة مَن هو واقف بين يديه، فامتلأ قلبه من هيبته، وذلت عنقه له، واستحى من ربه أن يُقبل على غيره أو يلتفت عنه، قال حسان بن عطية -رحمه الله-: "إن الرجلين ليكونان في الصلاة الواحدة وإن ما بينهما في الفضل كما بين السماء والأرض".
فإذا أقبل العبد على مخلوق مثله وبينه حجاب لم يكن إقبالًا ولا تقريبًا، فما الظن بالخالق؟ وإذا أقبل على الخالق وبينه حجاب الشهوات والوساوس والنفس مشغوفة بها، فكيف يكون ذلك إقبالًا؟ قد ألهته الوساوس والأفكار وذهبت به كل مذهب.
والعبد إذا قام في الصلاة غار الشيطان منه، فإنه قد قام في أعظم مقامٍ وأقربه وأغيظه للشيطان، فهو يحرص ويجتهد كل الاجتهاد ألا يُقيمه فيها، بل لا يزال به يبعده ويُمنيه ويُنسيه حتى يُهون عليه شأن الصلاة فيتهاون بها ويتركها، فإن عجز عن ذلك منه وعصاه، وقام في ذلك المقام أقبل عدو الله حتى يخطر بينه وبين نفسه ويحول بينه وبين قلبه، فيتذكر في الصلاة ما لم يكن يذكر قبل دخوله فيها، حتى ربما نسي الحاجة والشيء وأيس منها فيُذكره إياها في الصلاة ليُشغل قلبه بها، ويأخذه عن الله فيقوم بلا قلبٍ فلا ينال من إقبال الله وكرامته وقربه ما يناله المقبل على ربه، فينصرف من صلاته مثلما دخل فيها بخطاياه وذنوبه وأثقاله.
فإن الصلاة إنما تُكفر سيئات مَن أدى حقها، وأكمل خشوعها، ووقف بين يدي الله بقلبه وقالبه، فهذا إذا انصرف منها وجد خفةً من نفسه، وأحس بأثقال قد وضعت عنه، فوجد نشاطًا وراحةً وروحًا، حتى يتمنى أنه لم يخرج منها؛ لأنها قرة عينه، ونعيم روحه، وجنة قلبه، ومستراحه في الدنيا، فلا يزال كأنه في سجن وضيق حتى يدخل فيها، فيستريح بها لا منها.
يقولون: نصلي فنستريح بصلاتنا كما قال إمامهم وقدوتهم ونبيهم: "يا بلال أرحنا بالصلاة"، ولم يقل: (أرحنا منها) وقال: "جعلت قرة عيني في الصلاة"، فكيف تقرّ عينه بدونها؟ وكيف يطيق الصبر عنها؟.
فصلاة هذا الحاضر بقلبه هي التي تصعد، ولها نور وبرهان حتى يُستقبل بها الرحمن، فتقول: حفظك الله كما حفظتني، وأما صلاة المفرط المضيع لحقوقها وحدودها وخشوعها، فإنها تُلف كما يُلف الثوب الخَلِق ويُضرب بها وجه صاحبها وتقول: ضيعك الله كما ضيعتني.
هذا ولحضور القلب والخشوع أسباب تأتي في الجمعة القادمة.
والله أعلم.