المتكبر
كلمة (المتكبر) في اللغة اسم فاعل من الفعل (تكبَّرَ يتكبَّرُ) وهو...
العربية
المؤلف | مريزيق بن فليح السواط |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | السيرة النبوية |
ما أحوج أمتنا لمعرفة تاريخها المسطر بماء الذهب، والمليء بالعزة والرفعة والسؤدد، وفي سيرة الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- ومغازيه أعظم وقود لها، وأبلغ درس تأخذه لتنهض من كبوتها، وتقوم من رقدتها؛ ففي السنة الثامنة من الهجرة، وبعد أن أعز الله دينه ورسوله بفتح مكة، واستنقذ من الكفار بلده، وطهر من أوضار الجاهلية وشركها بيته، كانت غزوة حنين التي...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله...
عباد الله: ما أحوج أمتنا وهي تتعرض إلى نكبات عديدة، وتعاني من محنٍ شديدة، وما ينزل بها من هموم وغموم كثيرة، وفي وقت يتكالب عليها الأعداء فيستولون على مقدراتها، ويحتلون أوطانها، وينهبون أموالها، حتى دب اليأس في قلوب كثير من أبنائها؛ أن تتلمس المخرج، وتستبين الطريق، وتتعرف على مبدأ القوة، وسبب العزة، وطريق الكرامة، الذي بينه وجلاه لها نبيها -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا: كتاب الله وسنتي".
ما أحوج أمتنا لمعرفة تاريخها المسطر بماء الذهب، والمليء بالعزة والرفعة والسؤدد، وفي سيرة الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- ومغازيه أعظم وقود لها، وأبلغ درس تأخذه لتنهض من كبوتها، وتقوم من رقدتها؛ ففي السنة الثامنة من الهجرة، وبعد أن أعز الله دينه ورسوله بفتح مكة، واستنقذ من الكفار بلده، وطهر من أوضار الجاهلية وشركها بيته، كانت غزوة حنين التي اجتمعت فيها قبائل هوازن وثقيف وجُشَم وسعد بن بكر، وأجمعوا على المسير لقتال المسلمين، قبل أن تتوحد دعائم نصرهم، وتنتشر طلائع فتحهم، فخرج مالك بن عوف وكان سيد هوازن، خرج بقومه، وساق معه النساء والأموال والذرية حتى لا يفر أحد منهم ويترك أهله وماله، فلما سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك قال: "تلك غنيمة المسلمين غدا إن شاء الله" نزل مالك بن عوف يريد مكة وتحصن بوادي حنين على بُعد عشرة أميال من جهة عرفات، وخرج النبي -صلى الله عليه وسلم- لملاقاته في جيش كبير بلغ عدده اثنا عشر ألفا، وهو أكبر جيش إسلامي يخرج في حياة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فلما رأى المسلمون كثرت عددهم اغتر بعضهم، حتى قال قائلهم: "لن نغلب اليوم من قلة".
اصطف الفريقان للنزال، وبدأ القتال، وقرر مالك بن عوف أن يأخذ روح المبادرة، واستعجل بعض الناس مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- من الطلقاء، وسُرَعان الشباب الذين دخلوا المعركة دون أن تكون معهم كامل عدة المحارب، فرشقتهم هوازن بالنبْل وكانت هوازن لا يخطئ لها سهم، وقد تحصنت في الجبال، فسرعان ما نهزم القوم وولوا على أدبارهم، وهربوا من المعركة، وانحاز النبي -صلى الله عليه وسلم- جهة اليمين، ولم يبق معه إلا عدد قليل من المهاجرين وأهل بيته، وظهرت شجاعته صلى الله عليه وسلم الفائقة، وعِظَم ثقته بربه، راكبا على بغلته تُجاه العدو، يقول: "أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب" على بغلة ليست سريعة الجري، ولا تصلح للكر ولا الفر ولا الهرب، قد انكشف جيشه، وهرب أكثر أصحابه، وهو مع هذا يُرْكِضُها تُجاه العدو، ويُنوّه باسمه، ثقة بنصر ربه، وتوكلا عليه، ويقينا بنصره، ثم ينزل عنها ويستنصر ربه قائلا: "اللهم أنزل نصرك".
وأمر عمه العباس وكان جهير الصوت أن ينادي الناس، ويحثهم على الثبات، وأن يهتف بأصحاب العقيدة، ورجال الفداء، فهم من يحملون الرسالات، وتقوم عليهم الدعوات، ويتحقق على أيديهم النصر، وعلت صيحات العباس تهز أرجاء الوادي: يا أصحاب السمُرة؟! يا أهل بيعة الشجرة؟! فلما سمعوا النداء أسرعوا إليه، والتفوا حوله، وتلاحقت كتائب المسلمين واحدة تلو الأخرى، فدارت المعركة قوية، وتجالد الفريقان مُجالدة عظيمة، وأخذ الرسول -صلى الله عليه وسلم- يقاتل قتالا شديدا، والصحابة يقاتلون معه، ويتقون به العدو لفرْط شجاعته، وثباته كعادته، وهو يقول حين رأى المعركة تشتد: "هذا حين حمي الوطيس".
ثم أخذ قبضة من التراب فرمى بها وجوه الكفار، وهو يقول: "شاهت الوجوه" فما خلق الله منهم إنسان إلا ملأ عينيه ترابا من تلك القبضة، فلم يزل حدهم كليلا، وأمرهم مدبرا، قال تعالى: (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ) [التوبة: 25 - 26]، فولوا مدبرين منهزمين.
وبدأ النبي -صلى الله عليه وسلم- بجمع الغنائم، وولت هوازن إلى أوطاس، فأرسل الرسول -صلى الله عليه وسلم- سرية خلفهم حتى انهزمت، فلحقهم عليه الصلاة والسلام إلى الطائف، وحاصرهم في قلعتهم مدة غير قليلة، فأبوا أن ينزلوا من الحصن، فتركهم عليه الصلاة والسلام، ورجع إلى الجِعرَّانة وقد جُمعت الغنائم، وهي ضخمة وكبيرة جدا، لم يغنم المسلمون قبلها مثلها أبدا، فانتظر النبي -صلى الله عليه وسلم- أياما، لعل أهل الطائف أن يأتوا، فلما لم يأتوا قسم عليه الصلاة والسلام الغنائم، وأعطى الطلقاء، والمؤلفة قلوبهم، وأعطى عددا من المهاجرين والأعراب، ولم يعط الأنصار شيئا منها.
ثم ذهب النبي -صلى الله عليه وسلم- وأهلَّ بالعمرة وأحرم من الجِعرَّانة، واعتمر ثم انطلق إلى المدينة ودخلها آخر ذي القعدة ظافرا منتصرا.
الله أكبر! الله أكبر! إنه درس التسلية والتسرية، يُهدى لأمتنا وهي تعاني الويلات، وتصطلي بالحروب والمجاعات، يدخل النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة فرحا مستبشرا، عزيزا منتصرا، وهو الذي قدم إليها مهاجرا قبل سنين عديدة، طريدا خائفا، غريبا مستوحشا، ينشُدُ الإيلاف، ويطلب النصرة، فأكرمه الأنصار وآووه ونصروه، واتبعوا النور الذي أنزل معه، واستخفوا بعداوة الناس جميعا من أجله، هاهو يدخلها بعد ثمانية أعوام لتستقبله مرة أخرى وقد دانت له مكة، وألقت تحت قدميه كبريائها وجاهليتها، وحكّمه الله في كُبرائها وسادتها، ليُعزها بالإسلام، ويعفو عن خطيئتها الأولى: (إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) [يوسف: 90].
وكانت غزوة حُنين آخر لقاء بين المسلمين ومشركي العرب استُفرغتْ بعده قِواهُم، واستنفدتْ سهامَهم، وأذلتْ جمْعَهم، ودخل بعدها العرب في دين الله أفواجا، وجاءت الوفود بعدها تبايع النبي -صلى الله عليه وسلم- على الإسلام، وهو العام المعروف بعام الوفود: (إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا) [النصر: 1 - 3].
الخطبة الثانية.
الحمد لله على إحسانه...
عباد الله: هذه الغزوة الفاصلة في تاريخ الإسلام حوت دروسا عديدة، وعبرا فريدة، وصفت الداء، وبينت الدواء، وإذا أردنا المخرج لسوء أحوالنا، وطوق النجاة لما يُلاقيه إخواننا، فما علينا ألا استلهام دروسها، واستبصار فوائدها.
أعظم هذه الدروس: أن ضعف العقيدة، وعدم تمكنها من القلوب، سبب عظيم لما يتعرض له المسلمون من تسلط الأعداء، وتمكنهم من بلادهم، وتحكمهم حتى في لقمة عيشهم، لقد هُزم المسلمون في أول الأمر يوم حُنين وقائدهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وفيهم أبو بكر وعمر وسادات الصحابة، ورجال العقيدة، فعندما انطلق الصحابة إلى هوازن، مروا بشجرة عظيمة يعلق المشركون عليها أسلحتهم رجاء البركة، ويذبحون ويعفكون عندها، يقال لها: ذات أنواط، فقالوا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط؟ فغضب النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال: "الله أكبر، قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: (اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) [الأعراف: 138] إنها السنن؛ لترْكبُّن سنن من كان قبلكم".
ومعلوم أن هذا الكلام لم يقله كبار الصحابة، بل الذين قالوه هم مسلمة الفتح، فما عسانا أن نقول في هذه الأزمنة التي عم فيها الشرك وطم، وأصبحت عبادة القبور والطواف حولها أمرا مألوفا تقوم عليها الدول، وترعاه الحكومات في كثير من بلاد العالم الإسلامي؟! كيف والتحاكم إلى القوانين الوضعية وتنحية حكم الله لم تسلم منه البلاد وألزم به العباد إلا ما رحم ربك؟ كيف وفي الأمة من يوالي أعداء الله من اليهود والنصارى ويعينهم على المسلمين؟!
عباد الله: مما حوته هذه الغزوة من الفوائد: ما جاء أن الرسول -صلى الله عليم وسلم- عندما علم عن جموع هوازن، وأنها خرجت بأموالها وأولادها ونسائها، فرح بذلك، وقال: "تلك غنيمة المسلمين غدا إن شاء الله"، فهدي الرسول -صلى الله عليه وسلم- في وقت المحن: التفاؤل، ثقة بنصر الله، وعونه لأوليائه، وأن العاقبة الحميدة لهم حتى وإن طال زمن البلاء، أو اشتد كيد الأعداء، هكذا كان حبيبكم ونبيكم -صلوات الله وسلامه عليه- يرى مُقدمات النصر من خلال سحب البلاء، ويترقب المستقبل المشرق لهذا الدين وأن عز الدواء، وهو ما ينبغي على كل مسلم أن يتربى عليه ويربي عليه من تحت يده.
من الدروس العظيمة في هذه المعركة: عدم الاغترار بالكثرة، والانخداع بها، فالمسلمون اليوم قاربوا على المليارين، ومع ذلك فهم غثاء كغثاء السيل، عاجزون عن نُصرة إخوانهم، وأخذ حقوقهم، يرون دماء المسلمين تراق، وأعراضهم تنتهك، وبلادهم تحتل، فما يملكون لهم حولا ولا طولا، فالعبرة ليست بالكثرة وهذا واضح بنص الكتاب الكريم: (مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ) [المائدة: 66]، وقال تعالى: (وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ) [الأنعام: 116]، وقال سبحانه: (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) [يوسف: 103]، فالكثرة ربما كانت وبالا على أصحابها كما كانت وبالا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه يوم حُنين، والمقياس الحق هو الالتزام بالدين، والثقة بنصر رب العالمين، واتحاد الكلمة، والاجتماع على السنة، ومجانبة الفرق والأهواء، والشعارات القومية والوطنية، والتي لا تغني من الله شيئا.
عباد الله: من فوائد غزوة حُنين، وهي من أسباب الهزيمة: العجلة عند الشباب، قال رجل للبراء بن عازب: يا أبا عمارة وليتم يوم حنين؟ فقال: لا والله ما ولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولكنه خرج شبان أصحابه وإخفائهم ليس عليهم سلاح فأتوا قوما رماه فرشقوهم رشقا ما يكادون يخطئون.
وأكثر ما تعانيه الدعوات قديما وحديثا: الاستعجال والحماس والعواطف، ثم تكون النتيجة سقوط الدعوات، وانكسار أصحابها.
عباد الله: في هذه الغزوة مر النبي -صلى الله عليه وسلم- فإذا امرأة قد قُتلت، والناس متزاحمون عليها، فقال عليه الصلاة والسلام: "ما كانت هذه تقتل"، ونهى يومذاك عن قتل النساء والأطفال والأجراء، وكل من لا يحمل السلاح، فهذا دين الاسلام، وهذا هدي سيد الأنام ينهى عن قتل النساء والأطفال وكبار السن حتى وهم كفار وقومهم محاربون! فكيف بقتل نساء المسلمين واستهدافهن وقنصهن كما نقلته لنا وسائل الإعلام في ميادين مصر؟ أو قتل النساء والأطفال باستخدام الغازات السامة، والأسلحة الكيماوية كما فعل طاغية سوريا؟ لكنها عادة الطغاة، وسبيل الظلمة، وحيلة العاجز لارهاب خصومه.
عباد الله: الجهاد في سبيل الله شرع لدعوة الناس إلى الإسلام، وهدايتهم إلى الطريق المستقيم، وإرشادهم إلى الدين القويم، لم يكن يوما من الأيام صراعا من أجل المادة، واحتلال الأرض، والتحكم في مصادر الطاقة، وإخضاع الأسواق العالمية لعملة معينة، ومنح الاستثمارات الكبيرة لشركات محددة، فليس هذا دين الإسلام بل هي سمة طغاة العالم، ومصاصوا الدماء، والمتاجرون بالبشر، يشهد لذلك قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لمالك بن عوف وهو المحرك لهذه الغزوة، والعقل المدبر لهذه المعركة، أخبروه: إن جاء مسلما رددت عليه أهله وماله، وأعطيته مائة من الإبل، فأخبروا مالك بذلك، فجاء يلحق بالنبي -صلى الله عليه وسلم- حتى أدركه، فرد عليه أهله وماله وأعطاه مائة من الإبل فأسلم وحسن إسلامه.
أيها المسلمون: ثبات الرسول -صلى الله عليه وسلم-، أعظم سبب في انتصار المسلمين يوم حُنين، فوطنوا أنفسكم على الثبات، لاسيما في ظل هذه المتغيرات، وكثرت الفتن التي تنزل بالمسلم في يومه وليله، احذروا الزلل واتخذوا من شخصية رسولكم -صلى الله عليه وسلم- القدوة والأسوة في كل شؤونكم، تعلموا سيرته، وعلموها لأبنائكم، والتزموها في سائر شئونكم، وليكن المجتمع المسلم على مستوى الأحداث كما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، يفقه كيف يواجه أعدائه، لا أن يكون فريسة بين أيديهم! بصيرا بطبيعة عدوه وماذا يريد منه؟ وليكن المجتمع صفا واحدا متماسكا: (وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [الأنفال: 46].