الأول
(الأوَّل) كلمةٌ تدل على الترتيب، وهو اسمٌ من أسماء الله الحسنى،...
العربية
المؤلف | سالم العجمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | السيرة النبوية |
لما فتح الله مكة على رسوله -صلى الله عليه وسلم- عام ثمانيةٍ من الهجرة، خافت هوازن وثقيف، فاجتمع بعضهم إلى بعض وقالوا: "قد فرغ محمد لقتالنا، فأجمعوا أمركم فسيروا إليه قبل أن يسير إليكم، فوالله ما لاقى محمد قومًا يحسنون القتال"، فأجمعت هوازن أمرها وجمعها مالك بن عوف وهو...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي خلق كل شيءٍ فقدره تقديرًا, وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له وكفى بالله وليًّا ونصيرًا، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله إلى الناس كافةً بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهَّرَهم تطهيرًا.
أما بعد:
عباد الله: فإنه لما فتح الله مكة على رسوله -صلى الله عليه وسلم- عام ثمانيةٍ من الهجرة، خافت هوازن وثقيف، فاجتمع بعضهم إلى بعض وقالوا: "قد فرغ محمد لقتالنا، فأجمعوا أمركم فسيروا إليه قبل أن يسير إليكم، فوالله ما لاقى محمد قومًا يحسنون القتال".
فأجمعت هوازن أمرها وجمعها مالك بن عوف وهو يومئذٍ ابن ثلاثين سنة، وكان سيدًا فيهم، فاجتمعت هوازن كلها، وقامت ثقيف كلها مع هوازن، وقد أجمعوا المسير إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ، وقالت ثقيف: "قد كنا نهم بالمسير إليه، ونكره أن يسير إلينا، ومع ذلك لو سار إلينا لوجد حصنًا حصينًا نقاتل دونه، وطعامًا كثيرًا، حتى نصيبه أو ينصرف، ولكنا لا نريد ذلك، ونسير معكم ونكون يدًا واحدة"، فخرجوا معهم.
وقام كنانة بن عبد يا ليل فقال: "يا معشر ثقيف، إنكم تخرجون من حصنكم وتسيرون إلى رجل لا تدرون أيكون لكم أم عليكم، فمُروا بحصنكم أن يُرمَّ ما رُثَّ منه، فإنكم لا تدرون لعلكم تحتاجون إليه"، فأمروا به أن يصلح، وخلفوا على حرمته رجلًا وساروا.
ولما خرجوا لقتال النبي -صلى الله عليه وسلم- تخلف من هوازن كلابٌ فلم يخرجوا، على أنهم كانوا قريبين من المعركة، ولكن قام فيهم ابنُ أبي براء، فنهاهم عن الحضور، وقال: "والله لو ناوءوا محمدا من بين المشرق والمغرب لظهر عليهم"، فأطاعوا كلامه ولم يخرجوا لقتال النبي -صلى الله عليه وسلم-.
فلما أجمعت هوازن على الخروج، خرج معهم دريد بن الصِّمَّة، وكان شيخًا كبيرًا تجاوز عمره المائة سنة وقد ذهب بصره، إلا أنه كان شيخًا مجربًا عارفًا بالحرب.
فلما خرج مالكٌ بالناس لقتال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمرهم أن يخرجوا بأموالهم ونسائهم وأبنائهم، فساروا حتى نزلوا بأوطاس فأقاموا بها، وجعلت الأمداد تأتيهم من كل ناحية.
فلما نزلوا جيء بدريد بن الصمة يقودونه على بعير، فمكث على بعيره مليًّا، فلما نزل قال: "ما لي أسمع رغاء البعير، ونهاق الحمير، وثغاء الشاء، وخوار البقر، وبكاء الصغير؟".
قالوا: "ساق مالكٌ الناس وأبناءهم ونساءهم وأموالهم"، قال: "يا معشر هوازن، أمعكم من بني كلاب بن ربيعة أحد؟" قالوا: لا، قال: فمعكم من بني كعب بن ربيعة أحد؟ قالوا: لا، قال: فهل معكم من بني هلال بن عامر أحد؟ قالوا: لا، قال: لو كان خيرًا ما سبقتموهم إليه، ولو كان ذِكْرًا أو شرفًا ما تخلَّفوا عنه، فأطيعوني يا معشر هوازن وارجعوا، وافعلوا ما فعل هؤلاء!" فأَبَوا عليه.
فدعا بمالك بن عوف وقال له: "يا مالك، إنك تقاتل رجلًا كريمًا، وقد أصبحت رئيس قومك، وإن هذا اليوم كائن لما بعده من الأيام، يا مالك، ما لي أسمع رغاء البعير، ونهاق الحمير، وخوار البقر، وبكاء الصغير، وثغاء الشاء؟".
قال مالك: "سقت مع الناس أموالهم وأبناءهم ونساءهم"، أردت أن أجعل خلف كل رجلٍ أهلَه ومالَه وولدَه ونساءه حتى يقاتل عنهم.
فنفض دريدٌ يده وقال: "وهل يرد المنهزم شيء؟ إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه، وإن كانت عليك فُضِحت في أهلك ومالك!" ثم قال: "ما فعلت كعبٌ وكلابٌ؟" قال: "لم يشهدها منهم أحد" قال: "غاب الجدُّ والحدُّ، ولو كان يوم رفعةٍ وعلاءٍ لم تغب عنه كعب ولا كلاب".
"يا مالك، إنك لم تصنع بتقديم بيضة هوازن إلى نحور الخيل شيئًا، فإذا صنعت ما صنعت فلا تعصني في هذه الخطة، ارفعهم إلى ممتنع بلادهم وعليًّا قومهم وعزهم، ثم الْقَ القوم على متون الخيل، فإن كانت لك لحق بك مَن وراءك، وكان أهلك لا خوف عليهم، وإن كانت عليك نفعك ذلك، وقد أحرزت أهلك ومالك.
فغضب مالك من قوله، وقال: والله لا أفعل، ولا أذر أمرًا صنعتُه، إنك قد كبرت وكبر علمك، وحدث بعدك مَن هو أبصر بالحرب منك؟ فقال دريد: يا معشر هوازن، والله ما هذا لكم برأي، هذا فاضحكم في عورتكم، وممكِّنٌ منكم عدوَّكم، ولاحقٌ بحصن ثقيف وتارككُم، فانصرِفوا واتركوه.
فسلَّ مالك سيفه ثم نكَّسه، وقال: يا معشر هوازن، والله لتطيعنني أو لأتكئن على السيف حتى يخرج من ظهري.
فمشى بعضهم إلى بعض وقالوا: "واللهِ لئن عصينا مالكًا وهو شابٌّ، ليقتلنَّ نفسه ونبقى مع دريد، شيخٍ كبيرٍ لا قتال فيه"، وأجمعوا أمرهم مع مالك، فلما رأى ذلك دريد وأنهم قد خالفوه، قال: "هذا يوم لم أشهدْه ولم أغب عنه"، ثم قال:
يا ليتني فيها جَذعْ | أخب فيها وأضعْ |
أقود وَطْفَاء الزَّمَعْ | كأنَّها شَاةُ صَدَعْ |
واستعار النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- من صفوان بن أمية -وقد كان مشركًا- مائة درع بأداتها كاملة، فقال صفوان: أغصبًا يا محمد؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "بل عارية مؤداة"، فلما خرج الصحابة مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وكان بعضهم حديث عهد بكفر، مرُّوا بشجرة للمشركين يقال لها: ذات أنواط، يعكفون عندها ويذبحون لها، ويعلقون عليها أسلحتهم، فقالوا: يا رسول الله، اجعل لنا ذاتَ أنواط كما لهم ذاتُ أنواط؟ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "الله أكبر إنها السنن، قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: (يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) [الأعراف: 138]، والذي نفسي بيده لتركبن سنن من كان قبلكم".
ولما انتهى النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى حنين دعا عبد الله بنَ أبي حدرد الأسلمي وقال: "انطلق فادخل في الناس حتى تأتيَ بخبرٍ منهم".
فخرج إلى عسكرهم فطاف به، حتى انتهى إلى ابن عوف، فسمعه يقول لأصحابه: "إن محمدًا لم يقاتل قط قبل هذه المرة، وإنما كان يلقى قومًا أغمارًا لا علم لهم بالحرب فينتصر عليهم، فإذا كان في السَّحَر فصفُّوا مواشيكُم ونساءَكم وأبناءَكم من ورائكم، ثم صفُّوا صفوفكم، ثم تكون الحملةُ منكم، واكسروا جفونَ سيوفكم فتلقونه بعشرين ألف سيف مكسورِ الجَفن، واحملوا حملة رجلٍ واحدٍ، واعلموا أن الغلبة لمن حمل أولًا"، فلما سمع ابنُ أبي حدرد ذلك، رجع إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فأخبره بما سمع.
ثم جاء فارس إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال: يا رسول الله، إني انطلقت من بين أيديكم إلى جبل كذا وكذا، فإذا بهوازن عن بكرة أبيها بظعنها ونسائها ونعمها في وادي حنين؟ فتبسم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال: "تلك غنيمة المسلمين غدًا -إن شاء الله-".
وخرج رجال من مشركي مكة في أثر النبي -صلى الله عليه وسلم- ينظرون لمن تكون الدائرة فيصيبون من الغنائم، ويَوَدُّون لو أنَّ الدائرةَ تكون على النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابِه.
ولما كان من الليل عمد مالكُ بن عوف إلى أصحابه فعبَّأهم في وادي حنين، وفرَّق الناس فيه، وأوعز إلى الناس أن يحملوا على محمدٍ وأصحابه حملةً واحدة.
وعبأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أصحابه، وصفَّهم صفوفًا، ووضع الألوية والرايات في أهلها، وانحدر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأصحابه، وركب بغلته البيضاء، ولبس درعين، واستقبل الصفوف فحضهم على القتال وبشرهم بالفتح إن صدقوا وصبروا.
فلما انتهى المسلمون إلى وادي حنينٍ استقبلتهم هوازن بشيء لم يُرَ مثلُه في ذلك الزمان من السواد والكثرة، قد ساقوا نساءهم وأموالهم وأبناءهم وذراريهم، ثم صَفُّوا صفوفًا، فجعلوا النساء فوق الإبل وراء صفوف الرجال، ثم جاءوا بالإبل والبقر والغنم فجعلوها وراء ذلك لئلا يفروا بزعمهم.
فلما رأى المسلمون ذلك السوادَ حسبوه رجالًا كلَّهم، فلما تحدروا في الوادي ما شعروا إلا وكتائب المشركين قد خرجت عليهم من مضيق الوادي وشِعْبِه، فحملوا على المسلمين حملة واحدة فانهزموا.
وسبب ذلك أنه لما خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في اثني عشر ألفًا من المسلمين، قال بعض أصحابه وقد اغتروا بكثرة عددهم: "لن نُغْلبَ اليوم من قلة"، فكانت الدائرة عليهم أول الأمر، وقد قال الله -عز وجل- في ذلك: (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ) [التوبة: 25].
وفي هذا درسٌ عظيم للمسلم أن يفوض أمره إلى الله -سبحانه وتعالى-، وألا يغتر بحوله وقوته.
ولما كانت الهزيمة والدائرة على المسلمين، قال أبو سفيان -وكان حديث عهدٍ بإسلام-: "لا تنتهي هزيمتهم دون البحر".
فقال له رجل من أسلم: "أما والله لولا أني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينهى عن قتلك لقتلتك".
وصرخ كلدةُ أخو صفوان بن أمية لأمه: "ألا بَطَل السحرُ اليوم".
فقال له صفوان: "اسكت فض اللهُ فاك"؛ لأن يربُّني رجلٌ من قريش أحبَّ إلى مِنْ أَنْ يربني رجلٌ من هوازن.
ولما انهزم الناس ثبت النبي -صلى الله عليه وسلم- ثباتًا عظيمًا، فما رئي أَحَدٌ من الناس يومئذٍ أشدَّ منه، وهذا من تثبيت الله -سبحانه- له، قال تعالى: (ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ) [التوبة: 26].
قال العباس -رضي الله عنه-: "لما كان يوم حنين التقى المسلمون والمشركون، فَوَلَّى المسلمون يومئذٍ، فلقد رأيت رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- وما معه إلا أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب آخذًا ببغلة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فانطلق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يركض ببغلته نحو الكفار وهو يقول:
أنا النبيُّ لا كَذِبْ | أنا ابنُ عبدِ المطلب |
فأخذتُ بلجامها أكفُّها إرادةَ ألا تسرع، وكنت رجلًا صيِّتًا، فقال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- حين رأى من الناس ما رأى: "أيْ عباس، نادِ أصحابَ السَّمُرة؟" فقلت بأعلى صوتي: "أين أصحابُ السَّمُرة؟"، فوالله لكأنَّ عطفَتَهم حين سمعوا صوتي عطفةَ البقر على أولادها، فقالوا: "يا لبيك يا لبيك، فيذهب الرجلُ منهم فيَثني بعيره فلا يقدر على ذلك، فيأخذ درعه فيقدِّمُها في عنقه، ويأخذ تُرْسَه وسيفَه ويؤمُّ الصوتَ حتى ينتهي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقد شرعوا الرماح حتى إني لأخافُ رماحَهم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أشدَّ من خوفي رماحَ المشركين."
فلما رجع الناسُ إليه صلى الله عليه وسلم اجتمعوا فاقتتلوا مع الكفار، وكانت الدعوة أوَّلًا: "يا للأنصار"، ثم قَصُرت الدعوة فنادوا: "يا للخزرج"، وكانوا صُبُرًا عند اللقاء، صُدُقًا عند الحرب، فنظر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو على بغلته كالمتطاول عليها ينظر إلى قتالهم، وقال: "هذا حين حمي الوطيس"، ثم قبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبضةً من تراب من الأرض فرمى بها وجوهَ الكفار، وقال: "شاهت الوجوه، انهزَموا وربِّ محمد"، فما خلق الله منهم إنسانًا إلا ملأ عينيه تُرابًا بتلك القبضة، فما زلت أرى حدَّهم كليلًا وأمرَهم مدبرًا.
وفي هذه الغزوة أيَّد الله -سبحانه وتعالى- المؤمنين بالملائكة تقاتل معهم، قال سبحانه: (ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ) [التوبة: 26].
وقد ظهر في هذه المعركة تفاني الصحابة -رضي الله عنهم-، فقد قاتلوا قتالًا شديدًا، وأبلوا بلاءً عظيمًا، وأظهروا شجاعة لم يعهد لها نظير، طمعًا فيما عند الله من الأجر والشهادة في سبيله، وحتى يعز الله الإسلام وأهله، ويذل الشرك وأهله.
فكان عثمان بن عفان، وعلي، وأبو دجانة، وأيمن بن عبيد يقاتلون بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
وكان رجل من هوازن على جملٍ أحمر، قد أكثر في المسلمين القتل، فصمد له أبو دجانة فعرقب جمله، وشدَّ عليه فقطع يديه وأقبل يضربه بسيفه حتى تثلم.
ومضى عليٌّ وأبو دجانة يضربان أمام النبي -صلى الله عليه وسلم-، فاعترض لهما فارس من هوازن بيده راية حمراء، فضرب أحدهما يد الفرس ووقع لوجهه، ثم ضرباه بأسيافهما.
وجاءت أم سليم ابنة ملحان إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالت: يا رسول الله، أرأيت هؤلاء الذين أسلموك وفرُّوا عنك وخذلوك! لا تَعْفُ عنهم إذا أمكنك الله منهم، فاقتلهم كما تقتل هؤلاء المشركين، فقال: "يا أم سليم، إن الله قد كفى وأحسن".
وقد اتخذت أم سليم يوم حنين خنجرًا، فرآها أبو طلحة فقال: يا رسول الله، هذه أم سليم معها خنجر؟ فقال لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما هذا الخنجر؟".
قالت: اتخذته إن دنا مني أحدٌ من المشركين بقرت به بطنه، فجعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يضحك.
وقامت أم الحارث الأنصارية: فأخذت بخطام جمل أبي الحارث زوجِها، فقالت: يا أبا حارث، تترك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟!" فأخذت بخطام الجمل، والجمل يريد أن يهرب، والناس يولون منهزمين، وهي لا تفارق النبي -صلى الله عليه وسلم-.
قال أبو قتادة -رضي الله عنه-: لما التقينا كانت للمسلمين جولة، فرأيت رجلين يقتتلان، وقد علا المشرك المسلم، فاستدرت له حتى أتيته من ورائه فضربته على حبل عاتقه، وأقبل علي فضمَّني ضمة وجدت منها ريح الموت، وكاد أن يقتلني لولا أن الدم نزفه، فسقط، فأجهزت عليه ومضيت.
وهمَّ شيبة بن عثمان بقتل النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا أن الله -سبحانه- لم يمكنه من ذلك وحمى منه نبيَّه -صلى الله عليه وسلم-، يقول شيبة: لما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غزا مكة فظفر بها وخرج إلى هوازن، ذكرت قتل أبي يوم أحد حين قتله حمزة، وعمي قتله عليٌّ، قلت: أخرج لعلى أدرك ثأري!
فلما انهزم أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- جئته عن يمينه، فإذا العباس قائم عليه درع بيضاء، فقلت: عمه لن يخذله، ثم جئته عن يساره فإذا بأبي سفيان بن الحارث ابن عمه، فقلت: ابن عمه لن يخذله، فجئته من خلفه، فلما أردت أن أعلوه بالسيف رفع ما بيني وبينه شواظ من نارٍ كأنه برق، فخفت أن يُخطَف بصري، فوضعت يديَّ على عيني وتراجعت إلى الخلف، فالتفت -صلى الله عليه وسلم- إليَّ فقال: "ادن مني يا شيبة"، فوضع يده على صدري وقال: "اللهم أذهب عنه الشيطان"، فرفعت إليه رأسي وهو أحب إليَّ من سمعي وبصري وقلبي، ثم قال: "يا شيبة، قاتل الكفار"، فتقدمت بين يديه وأنا واللهِ أُحبُّ أنْ أقيه بنفسي.
وهَرَبت ثقيف، فما زال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في طلبهم وهم مولُّون، حتى إن الرجل منهم ليدخل حصن الطائف وهو يظن أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- على أثره من رعب الهزيمة.
ووقف مالك بن عوف على ثنيةٍ من الثنايا معه فرسان من أصحابه، فلما غشيته الخيل نزل عن فرسه مخافة أن يؤسر، وقال: ما ترون؟
قالوا: نرى رجلًا بين رجلين معلمًا بعصابة صفراء، يخبط برجليه الأرض، واضعًا رمحه على عاتقه، قال: "ذلك ابن صفية الزبير، وايم الله ليزيلنكم عن مكانكم."
فلما بصر بهم الزبير حمل عليهم حتى أهبطهم من الثنية، وهرب مالك بن عوف فتحصن في حصن ثقيف، ثم طفق يلوذ بالشجر حتى دخل في جبل من الجبال، فأعجزهم هربًا.
وذُكرَ للنبي -صلى الله عليه وسلم- رجلٌ قاتل مع المسلمين قتالًا شديدًا، فقال صلى الله عليه وسلم: "هذا من أهل النار"، فلما حضر القتال قاتل الرجل قتالًا شديدًا، فأصابته جراحة فقيل: يا رسول الله، الرجل الذي قلت له آنفًا: "إنه من أهل النار"، إنه قاتل اليوم قتالًا شديدًا وقد مات، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إلى النار".
فكاد بعض المسلمين أن يرتاب، فبينما هم على ذلك إذ قيل: إنه لم يمت ولكن ألمَّت به جراحٌ شديدة، فلما كان من الليل لم يصبر على الجراح فقتل نفسه فأُخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك فقال: "الله أكبر، أشهد أني عبد الله ورسوله"، ثم أمر بلالًا فنادى في الناس: "إنه لا يدخل الجنة إلا نفسٌ مسلمةٌ، وإن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر".
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وعبده، نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد:
أيها المسلمون: فلما انتهت المعركة أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بالغنائم أن تُجمع، ونادى مناديه: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يغل"، وجمع الناس غنائمهم في موضعٍ حتى استعمل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عليها.
ولما دخل عقيل بن أبي طالب على زوجته وسيفُه متلطخ دمًا، قالت: "إني قد علمت أنك قد قاتلت المشركين، فماذا أصبت من غنائمهم؟".
قال: "هذه الإبرة تخيطين بها ثيابك"، فدفعها إليها، فسمع منادي رسول الله يقول: "من أصاب شيئًا من المغنم فليرده، فرجع عقيلٌ فقال: "والله ما أرى إبرتك إلا قد ذهبت"، فألقاها في الغنائم.
وقسم النبي -صلى الله عليه وسلم- الغنائم من الأموال بين قريش وقبائل من العرب، تأليفًا لقلوبهم على الإسلام، ولم يُعْطِ الأنصار منها شيئًا، فوجد الأنصار في أنفسهم حتى كثرت فيهم القالة, حتى قال قائلهم: "لقي واللهِ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قومه"، فدخل عليه سعد بن عبادة س من الأنصار، فقال: يا رسول الله، إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم، لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت، قسمت في قومك، وأعطيت عطايا عظامًا في قبائل العرب، ولم يكن في هذا الحي من الأنصار منها شيء؟ فقال: "فأين أنتَ من ذلك يا سعد؟".
قال: يا رسول الله، ما أنا إلا من قومي.
فقال: "فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة؟" فجاء رجالٌ من المهاجرين فتركهم فدخلوا, وجاء آخرون فردهم, فلما اجتمعوا، أتى سعد فقال: "لقد اجتمع لك هذا الحيُّ من الأنصار", فأتاهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: "يا معشر الأنصار، مقالةٌ بلغتني عنكم، وجِدةٌ قد وجدتموها في أنفسكم؟ ألم آتكم ضُلالًا فهداكم الله بي؟ وعالةً فأغناكم الله بي؟ وأعداءً فألف الله بين قلوبكم؟" فقالوا: الله ورسوله أمنُّ وأفضل، ثم قال: "ألا تجيبونني يا معشر الأنصار؟" قالوا: بماذا نجيبك يا رسول الله؟ لله ولرسولِه المنُّ والفضل، فقال صلى الله عليه وسلم: "أما واللهِ لو شئتم لقلتم، فلصدَقْتُم ولَصُدِّقتُم: أتيتنا مكذَّبًا فصدقناك، ومخذولًا فنصرناك، وطريدًا فآويناك، وعائلًا فآسيناك. أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم في لُعاعة من الدنيا، تألَّفْتُ بها قومًا ليُسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم؟ ألا ترضون يا معشر الأنصار، أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وترجعون برسول الله ج إلى رحالكم؟ فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار، ولو سلك الناس شِعبًا وسلَكَت الأنصارُ شعبًا وواديًا لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار، وأبناءَ الأنصار، وأبناءَ أبناءِ الأنصار"، فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا: رضينا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- قسمًا وحظًّا.
ثم ركب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واتبعه الناس يقولون: يا رسول الله، اقسم علينا فيئنا، حتى اضطروه إلى شجرة فانتزعت رداءه، فقال: "أيها الناس، ردوا علي ردائي، فوالذي نفسي بيده لو كان لكم عندي عدد شجر تهامة نعمًا لقسمته عليكم ثم ما ألفيتموني بخيلًا ولا جبانًا ولا كذابًا".
وكان عليه بردٌ نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجذبه جذبة شديدة حتى أثرت حاشية الرداء في صفحة عاتقه صلى الله عليه وسلم من شدة الجذبة، وقال: مر لي من مال الله الذي عندك؟ فالتفت إليه صلى الله عليه وسلم، فضحك ثم أمر له بعطاء.
ولما آثر النبي -صلى الله عليه وسلم- ناسًا في الغنيمة، فأعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل، وأعطى عيينة مثل ذلك، وأعطى ناسًا آخرين، قام رجل فقال: واللهِ إن هذه لقسمة ما عُدِل فيها وما أريد فيها وجهَ الله؟ فسمعه ابن مسعود فقال: "والله لأخبرن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأتاه فأخبره فقال صلى الله عليه وسلم: "ومن يعدل إن لم أعدل؟! رحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر".
ولما جاء المسلمون بالأسرى كان من بينهم الشيماء بنت الحارث أختُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الرضاعة، فجعلت تقول لهم: إني واللهِ أختُ صاحبكم، ولا يصدقوها، وأخذها طائفة من الأنصار، وكانوا أشد الناس على هوازن، حتى أتوا بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت: يا رسول الله، إني أختك.
فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "وما علامة ذلك؟" قالت: عضة عضضتنيها في ظهري وأنت جالس على وركي، فعرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- العلامة، فوثب قائمًا وبسط لها رداءه، ثم قال: "اجلسي عليه"، ورحَّب بها، ودمعت عيناه، وسألها عن أمه وأبيه من الرضاعة، فأخبرته بموتهما منذ زمن، ثم قال: "إن أحببت فأقيمى عندنا مكرمة، وإن أحببت أن ترجعي إلى قومِك وصلْتُكِ ورجعتِ إلى قومك".
قالت: أرجع إلى قومي، وأَسْلَمت، فأعطاها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثلاثة أعبدٍ وجارية.
ولما رجعت الشيماء لمنزلها، كلمها النسوة في رجال لهن، فرجعت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فكلمته أن يهبَهم لها ويعفو عنهم، ففعل.
ولما خرج رسول -صلى الله عليه وسلم- نزل الجِعرانة ومعه من هوازن سبيٌ كثيرٌ بلغ ستة آلاف من الذراري والنساء، ومن الإبل والشاء ما لا يُدرى عدته، لحقه وفدٌ من هوازن بالجعرانة، وقد أسلموا، فقالوا: يا رسول الله، إنا أصلٌ وعشيرة، وقد أصابنا من البلاء ما لم يخف عليك، فامنن علينا منَّ الله عليك.
وقام خطيبهم زهير بن صرد فقال: يا رسول الله، إنما في الحظائر من السبايا خالاتُك وحواضنُك اللاتي كن يكفلنك، وأنت رسولُ الله خيرُ المكفولين؟
ثم أنشأ يقول:
امنن علينا رسولَ الله في كرم | فإنك المرء نرجوه وندَّخرُ |
امنن على بيضة قد عاقها قدر | ممزق شملها في دهرها غيَرُ |
أبقت لنا الدهر هُتَّافًا على حزن | على قلوبهمُ الغماءُ والغَمَرُ |
إن لم تَداركْهمُ نعماءُ تنشُرها | يا أرجح الناس حِلمًا حين يُختبرُ |
امنن على نسوة قد كنت ترضعُها | إذ فوك تملؤه من محضها الدُّررُ |
إنا لنشكر آلاءً وإن كُفِرت | وعندنا بعد هذا اليوم مُدَّخرُ |
فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "نساؤكم وأبناؤكم أحبُّ إليكم أم أموالكم؟".
فقالوا: يا رسول الله، خيرتنا بين أحسابنا وأموالنا؟ بل أبناؤنا ونساؤنا أحبُّ إلينا؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم، وإذا أنا صليت بالناس فقوموا فاسألوني، فإني سأعطيكم عند ذلك، وأسأل لكم".
فلما صلى رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- بالناس الظهر، قاموا فقالوا ما أمرهم به رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المسلمين، وأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: "أما بعد: فإن إخوانكم هؤلاء قد جاءوا تائبين، وإني قد رأيت أن أردَّ إليهم سبيهم" ثمَّ قال: "أمَّا ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم".
فقال المهاجرون: وما كان لنا فهو لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقالت الأنصار: وما كان لنا فهو لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلم يلبثوا حتى أعتقوا جميع ما بأيديهم.
ثم سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- وفد هوازن عن مالك بن عوف: ما فعل؟ فقالوا: هو بالطائف مع ثقيف، فقال: "أخبروه أنه إن أتاني مسلمًا، رددت إليه أهله وماله، وأعطيته مائة من الإبل"، فلما بلغ ذلك مالكًا انسل من ثقيف حتى أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأسلم وحسن إسلامه، فرد عليه أهله وماله.