الأول
(الأوَّل) كلمةٌ تدل على الترتيب، وهو اسمٌ من أسماء الله الحسنى،...
العربية
المؤلف | مريزيق بن فليح السواط |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | السيرة النبوية |
فإذا ألمت بك مصيبة، ونزلت بك نازلة، فتذكر مصابك يوم مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، لتهون عليك المصائب، وتسهل المصاعب، ففي موت النبي -صلى الله عليه وسلم- عبرة وتسلية عن كل مصيبة، وفي فقده عزاء لكل منكسر، وكيف لا يكون ذلك وبموته انقطع الوحي الذي به حياة القلوب، وصلاح النفوس، وسعادة الدنيا والآخرة، تَنزلُ النازلة، وتَقعُ المشكلة، فيحتار فيها الناس، فينزل الوحي من السماء، فيكشف اللبس، ويُزيل ما يَعلقُ بالنفس...
الخطبة الأولى:
الحمد لله خلق فسوى، وقدر فهدى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الرحمن على العرش استوى، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله- حق التقوى، واعلموا أن العز والخير في طاعة المولى، والذل والضلال في اتباع الهوى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى).
أيها المسلم:
اصـبرْ لكُلِ مُصيـبةٍ وتَجلدِ | واعلمْ بأن المرءَ غير مُخلدِ |
وإذا ذكرتَ مُصيبةً تَسلو بها | فاذكر مُصابك في النبيِّ محمدِ |
إنها المصيبةُ العظمى، والفاجعةُ الكبرى، قاصمةُ الظهر، وبليةُ العمر، لن يصاب المسلم بأعظم منها، ولن ينزل عليه خبر أشد وأقسى من وفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وانقطاع خبر السماء، ثبت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إذا أُصيب أحدكم بمصيبة، فليذكر مُصيبته بي، فإنها أعظم المصائب". رواه الطبراني.
فإذا ألمت بك مصيبة، ونزلت بك نازلة، فتذكر مصابك يوم مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، لتهون عليك المصائب، وتسهل المصاعب، ففي موت النبي -صلى الله عليه وسلم- عبرة وتسلية عن كل مصيبة، وفي فقده عزاء لكل منكسر، وكيف لا يكون ذلك وبموته انقطع الوحي الذي به حياة القلوب، وصلاح النفوس، وسعادة الدنيا والآخرة، تَنزلُ النازلة، وتَقعُ المشكلة، فيحتار فيها الناس، فينزل الوحي من السماء، فيكشف اللبس، ويُزيل ما يَعلقُ بالنفس، ولقد فطن لذلك الأمر العظيم، صحابة الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم-، فقد ثبت في الصحيح أن أبا بكر ذهب إلى عمر وقال له: انطلق بنا إلى أم أيمن نَزُورها كما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يزورُها. قال: فلما انتهينا إليها، ورأتنا، بكت -رضي الله عنها-، فقالا لها: ما يُبكيك؟! إنّ ما عند الله خير لرسوله. فقالت: إني لأعلم أن ما عند الله خير لرسوله، وأن رسول الله قد صار إلى خيرٍ ممّا كان فيه، ولكنْ أبكي أنَّ الوحيَ قد انقطع عنّا من السماء!! فهيجتهما على البكاء فجعلا يبكيان معها -رضي الله عنهم-.
يـا أم أيمـن قـد بكيـتِ وإنـنا | نَلهـو ونَمْجُنُ دون معرفة الأدبْ |
لم تُبصري وضعَ الحديث ولا الكذب | لم تُبصري وضع المعازفِ والطربْ |
لم تَشهـدي شُربَ الخمورِ أو الزنا | لم تَلحـظي مـا قد أَتانا من عطبْ |
لم تلحـظي بـدعَ الضلالةِ والهوى | لولا مَماتُك قـد رأيتِ بنا العجبْ |
لم تعلمي فعلَ العـدو وصحبـهم | ها نحـنُ نجثـو لليهودِ على الركبْ |
وَاحرَّ قلبي مِـن تَمـزُّقِ جمـعنا | أَضحت أُمـورك أمـتي مثـل اللُّعبْ |
تالله ما عـرفَ البكـاء صراطنا | ومع التبـاكي لا وشـائجَ أو نـسبْ |
عباد الله: لما تكاملت الدعوة وسيطرَ الإسلامُ على الموقف، ودخلَ الناس في دين الله أفواجًا، أخذت طلائع التوديع للحياة والأحياء، تظهرُ من مشاعر الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وتتضحُ بعباراته وأفعاله، فمن ذلك أنه اعتكف في رمضان من السنة العاشرة عشرين يومًا، وكان لا يعتكف إلا عشرة أيام، ودارسه جبريل القرآن مرتين، وقال في حجة الوداع: "إني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا"، وفي أواسط أيام التشريق نزلت عليه: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً)، وبعد العمل يأتي الاستغفار، فقد أتم العمل، فما عليه إلا الاستغفار، فهو شاهدٌ جديد، ودليل أكيد، على مفارقته -صلى الله عليه وسلم- الدنيا، فكان -عليه الصلاة والسلام- بعدها يكثر من قوله: "سبحانك اللهم وبحمدك أستغفرك وأتوب إليك"، فإذا كان هذا حال المصطفى -صلى الله عليه وسلم- وقد غُفر له ما تقدم من ذنبه، فكيف يكون حال المذنب المقصر من أمثالنا؟! ثم رجع -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة، وفي أوائل صفر من سنة أحد عشرة خرج النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى أُحد، فصلى على الشهداء كالمودع للأحياء والأموات، ثم صعد المنبر وقال: "إني فَرَطُكُم، وإني شهيد عليكم، واني والله لأنظر إلى حوضي الآن، واني أعطيت مفاتيح خزائن الأرض، وإني والله ما أخاف أن تشركوا بعدي، ولكني أخاف عليكم أن تتنافسوا فيها".
وخرج ليلة في منتصفها إلى البقيع وعندما وقف بين أظهرهم قال: "السلام عليكم يا أهل المقابر، لِيهنا لكم ما أصبحتم فيه، مما أصبح الناس فيه، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم". ثم رجع.
وفي يوم الاثنين التاسع والعشرين من شهر صفر اشتكى النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- صداعًا في رأسه، واتقدت الحرارة في جسده، وثقل برسول الله -صلى الله عليه وسلم- المرض، فاستأذن نساءه في أن يُمرّض في بيت عائشة فأذِنَّ له. فكانت عائشة تقرأ المعوذات والأدعية، وتنفث بذلك على نفسه وتمسح بيده رجاء البركة، وقبل الوفاة بخمسة أيام زادت حرارة جسمه -صلى الله عليه وسلم-، واشتد به الوجع، فطلب منهم أن يصُبوا عليه سبعَ قِربٍ من ماء حتى يخرج إلى الناس فيعهد إليهم، ففعلوا حتى طفق يقول: "حسبكم حسبكم"، وعند ذلك أحس بخفة فعصب رأسه، ثم قام ودخل المسجد وجلس على المنبر وخطب الناس قائلاً: "لعنة الله على اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"، ثم قال: "لا تتخذوا قبري وثنًا يعبد"، وكانت هذه الوصية الخاصة قبل موته بخمسة أيام بعدم اتخاذ القبورِ مساجد، فنهى عن ذلك، ولعن من فعله، وكان قد دعا ربه ألا يجعل قبره وثنًا يعبد. قال ابن القيم:
ولقد نهى ذا الخلق عن إطرائه | فعل النصارى عابدي الصلبانِ |
ولقـد نهـانا أن نُصَيّر قبرَه | عيـدًا حذار الشرك بالرحمنِ |
ودعا بأن لا يُجعل القبرُ الذي | قـد ضـمّه وثنًا من الأوثان |
فأجاب ربُّ العالمين دعـاءه | وأحـاطه بثـلاثةِ الجـدرانِ |
حتى اغتدت أرجاؤه بدعائه | في عـزة وحمـاية وصيـان |
وعرضَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- نفسَه للقَصَاص فقال: "من كنتُ جلدتُ له ظهرًا فهذا ظهري فليستقدِ منه، ومن كنت شتمت له عرضًا فهذا عرضي فليستقدِ منه"، ثم نزل فصلى الظهر ثم رجع فجلس على المنبر وعاد لمقالته الأولى في الحقوق وغيرها فقال رجل: إن لي عندك ثلاثة دراهم، فقال: "أعطه يا فضل".
ألا فلتشهد الدنيا إلى أي حد وصل عدل الحاكم، وإلى أي حد بلغت المساواة بين الراعي والرعية، وإلى أي حد كَمُلَ فيه الورع، حتى طلبَ صاحبه التخفُفَ من مظالم الناس ودمائهم وأموالهم، ثم أوصى -عليه الصلاة والسلام- بالأنصار وهو صاحب المروءة، ويعرف للناس حقهم، ويُنزلهم منزلتَهم، فقال: "أوصيكم بالأنصار فإنهم كرشي وعيبتي، وقد قضوا الذي عليهم وبقي الذي لهم، فاقبلوا من مُحسنِهم وتجاوزا عن مُسيئهم". ثم قال: "إن عبدًا خيّره الله بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عنده"، فبكى أبو بكر وقال: فديناك -يا رسول الله- بآبائنا وأمهاتنا، قال أبو سعيد الخُدري: فعجبنا من بكائه وقال الناس: انظروا إلى هذا الشيخ!! فكان المُخيرُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكان أبو بكر أعلمنا بذلك. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا تبك -يا أبا بكر-، إن أمَنَّ الناس عليّ في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذًا خليلاً غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن أخوة الإسلام ومودته، لا يَبْقينَّ في المسجد باب ألا سُد إلا باب أبي بكر".
وفي يوم الخميس قبل الوفاة بأربعة أيام وكان الصحابة حوله وفيهم عمر فقال لهم: "هَلُموا أكتب لكم كتابًا لن تضلوا بعده"، فقال عمر: قد غلب عليه الوجع، وعندكم القرآن فحسبكم كتاب الله، وقال آخرون: بل قربوا له كتابًا يكتب لكم، فاختلفوا، فلما أكثروا اللغط والاختلاف قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "قوموا عني"، فكان ابن عباس -رضي الله عنه- يقول: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبين أن يكتُبَ لهم ذلك الكتاب لاختلافهم ولغطهم، هذا قبل الوفاة بأربعة أيام، والصحابة مجتهدون في ذلك، ثم يأتي في زمننا هذا من يقول: الخلاف ظاهرة صحية، ودليل على سعة الأفق، والنضوج الفكري، وفي مسائل عظيمة، ونوازل مدلهمة، ولو كان هؤلاء يخاطبون طلبة العلم لهان ذلك، لكن أن يحصل هذا في الفضائيات التي يسمعُها العامي، والجاهل، وصاحب الهوى، ومن في قلبه مرض، فهو دليل شر، وعنوان ضلال، ورائدٌ للشتات والفرقة، فالخلاف شر كله، والله تعالى ذم الاختلاف، فقال تعالى: (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)، وقال سبحانه: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً)، قال المزني: فذمّ الله الاختلاف وأمر عنده بالرجوع إلى الكتاب والسنة، فلو كان الاختلاف من دينه ما ذمه، ولو كان التنازع من حكمه ما أمرهم بالرجوع عنه إلى الكتاب والسنة.
عباد الله: وأوصى النبي -صلى الله عليه وسلم- في ذلك اليوم بثلاث: "بإخراج اليهود والنصارى والمشركين من جزيرة العرب، وإجازة الوفود بنحو ما كان يجيزهم"، ونسي الراوي الوصية الثالثة ولعلها الوصية بالاعتصام بالكتاب والسنة أو إنفاذ جيش أسامة أو هي الصلاة وما ملكت أيمانكم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ).
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه...
عباد الله: ومع ما كان فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- من وجعٍ، وشدةِ مرض، إلا أنه كان يصلي بالناس جميع الصلوات، فأمْرُ الصلاة مع الجماعة عظيم، شأنها في الإسلام كبير، والتساهلُ فيها خطر جسيم، فصلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالناس صلاة المغرب قبل الوفاة بأربعة أيام، وقرأ فيها بالمرسلات، وعند العشاء زاد عليه المرض وثقل به فلم يَستطع الخروج إلى المسجد، فأرسل إلى أبي بكر يأمرُه أن يصلي بالناس، فصلى أبو بكر تلك الأيام سبعة عشر صلاة في حياته -صلى الله عليه وسلم-، وهو دليل أكيد على أحقية أبي بكر بالخلافة وأفضليته بين الصحابة -رضي الله عنه-.
وقبل يوم من وفاته -صلى الله عليه وسلم- يوم الأحد أعتق غِلمانَه، وتصدق بسبعة دنانير كانت عنده، ووهب للمسلمين أسلحته، وقال: "لا نُورَث، ما تركنا صدقه"، وفي ليلة الاثنين استعارت عائشة -رضي الله عنها- الزيت للمصباح من جارتها، وكانت درعه -عليه الصلاة والسلام- مرهونة عند يهوديٍ بثلاثين صاعًا من شعير!! نبيكم -صلى الله عليه وسلم- ليلة وفاته تستعير زوجته الزيت لإيقاد المصباح، ويرهنُ درعه لإطعام أهله تقللاً من الدنيا، وزهدًا فيها، وجعلها سلمًا للوصول للجنة، وعملاً للآخرة.
وفي آخر يوم من حياته -صلى الله عليه وسلم-، قال أنس بن مالك: بينما الناس في صلاة الفجر يوم الاثنين وأبو بكر يصلي بهم لم يفْجأهم إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، يكشف ستر حُجرة عائشة فنظر إليهم وهم يصلون الصبح، ثم تبسم، فَنكص أبو بكر على عَقِبَيه ليصل الصف، وظن أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يريد أن يخرج إلى الصلاة.
قال أنس: وهمَّ المسلمون أن يَفْتتنوا في صلاتهم فرحًا برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأشار إليهم بيده أن أتموا صلاتكم، ثم دخل الحجرة، وأرخى السترة، وعند الضحى، دعا إليه ابنته فاطمة -رضي الله عنها-، فسَارّها بأنه سيُقبضُ في وجعه فبكت، ثم سَارَّها أنها أولُ أهله لُحوقًا به فضحكت، وبشرها بأنها سيدة نساء العالمين، ودعا الحسن والحسين، فقبلهما، وأوصى بهما خيرًا، ودعا بأزواجه فوعَظهُنَّ وذَكّرهُنَّ، ثم طَفِقَ الوجعُ يشتد به، ويزيد عليه، فقال لعائشة: "إني أجدُ أثَر السُّم الذي أكلتُ بخيبر من يهود، هذا أوانُ انقطاع أبْهُري"، ثم أوصى الناس فقال: "الصلاة الصلاة، وما ملكت أيمانكم"، وكررها مرارًا، ثم بدأ في الاحتضار، فأسندته عائشة إليها فكانت تقول -رضي الله عنها-: "إن من نِعَمِ الله عليّ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- توفي في بيتي، وفي يومي، وبين سحري ونحري، وأن اللهَ جَمَع بين ريقي وريقه عند موته، دخل عبد الرحمن بن أبي بكر وفي يده سواك، قالت عائشة: فرأيته ينظر إليه، وعرفت أنه يحب السواك، فقلت: آخذه لك؟! فأشار برأسه أن نعم، فتناولتُه ولينتُه له فاستاك به، وعندما فرغ منه رفع يده وأصبعه وشخص بصره نحو السقف وتحركت شفتاه وهو يقول: "مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، اللهم اغفر لي وارحمني، وألحقني بالرفيق الأعلى"، وكررها ثلاثًا، وكان هذا آخر ما تكلّم به، ثم مالت يده، ولحق بالرفيق الأعلى، وكان ذلك حين اشتَدَّ الضحى، فقالت فاطمة -رضي الله عنها-: "يا أبتاه أجابَ ربًا دعاه، يا أبتاه في جنة الفردوس ناداه، يا أبتاه إلى جبريل ننعاه".
مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأن الله يقول: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ)، مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد أن بلغ الرسالة وأدى الأمانة، ونصح الأمة، مات بعد أن ترك لنا منهج حياة، ودستور عمل، وشريعة صالحة لكل زمان ومكان، نهتدي بها، ونقتبس من نورها، ونقتدي بصاحبها.
هذا؛ وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على نبي الرحمة والهدى فقد أمركم بذلك ربكم -جل وعلا- فقال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً).