الرحيم
كلمة (الرحيم) في اللغة صيغة مبالغة من الرحمة على وزن (فعيل) وهي...
العربية
المؤلف | خالد بن سعد الخشلان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب - أهل السنة والجماعة |
هذه المصائب والآلام، وهذه المعاناة التي تصيب أهل الإسلام ليست بدعًا من الأمر في الصراع الدائر بين الحق والباطل، بل هي سنة من سنن هذا الصراع، ألم يخرج النبي -صلى الله عليه وسلم- والمؤمنون معه من ديارهم، بل من أحب البلاد إليهم وأوطانهم في صراعهم مع كفار قريش؟ ألم يقتل من صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من قتل؟ ألم تصب الجراح والأحزان والآلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.. هذه هي سنة الصراع بين الحق والباطل؛ يصيب المسلمين في هذا الصراع البأساء والضراء...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وصفيه وخليله وأمينه على وحيه وخيرته من خلقه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أئمة الهدى ومصابيح الدجى ومن تبعهم واقتفى وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله؛ فإن تقوى الله -عز وجل- من أجل المقامات وأعظم الدرجات، وهي الوصية التي لا يمل سماعها ولا تكررها؛ فهي وصية ربنا -سبحانه وتعالى- لنا: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ) [النساء: 131]، جعلني الله وإياكم من عباده المتقين وأوليائه الصالحين إنه سميع مجيب.
أيها الإخوة في الله: إن الدنيا قد آذنت بصرم، وولت حذاء، ولم يبقَ منها إلا صبابة؛ كصبابة الإناء يتصابها صاحبها، وإن خير ما يتزود به المسلم للنقلة إلى الدار الآخرة تقوى الله -عز وجل- (وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ) [البقرة:197].
ألا فاتقوا الله عباد الله، ولنعمل بهذه الحقيقة العظيمة، ولنجتهد في تحصيل هذا الزاد العظيم؛ زاد التقوى الذي لا زاد مثله يوصل إلى مرضاة الله -عز وجل- وجنته، وأيام العبد في هذه الدنيا هي وقت تحصيل هذا الزاد، فإذا انتهت أيامه انتهى موسم زرعه وعمله، ولم يبقَ إلا جني الحصاد وقطف الثمار.
ألا فاجتهدوا رحمكم الله في الأعمال الصالحة والقربات النافعة ما دمتم في زمن الإمهال والمهلة والقدرة على العمل؛ فاليوم عمل ولا حساب، وغدا حساب ولا عمل (وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ) [البقرة:281].
اللهم ارزقنا تقواك وعملاً صالحًا يقربنا لتحصيل رضاك، واجعلنا ووالدينا وأهلينا وذريتنا وسائر قرباتنا وأرحامنا وأحبابنا من أهل نعيمك وجنتك؛ إنك سميع مجيب.
أيها الإخوة في الله: لا زالت أخبار الشام بعامة، وأخبار حلب بخاصة، بل أخبار أهل السنة عمومًا في أماكن متعددة من العالم لا زالت هذه الأخبار تصل إلى مسامعنا وأبصارنا فتدمع لها العيون، وتحزن لها القلوب، ونتألم لمصاب إخواننا وما يتعرضون له من مصاب أليم بالقتل والتهجير والتعذيب والتنكيل وتدمير المدن والحصار والتجويع.
ونحن بإيذاء هذا المصاب العظيم يجدر بنا أن نتأمل آيات الله في النصر والهزيمة والابتلاء والاختبار حتى نستفيد من مواعظ القرآن وتوجيهاته ففيها الشفاء من كل داء، والجواب على كل سؤال، والدلالة على أسباب تحصيل الخير والبعد عن الشر.
إن أول ما ينبغي أن نستحضره في مثل هذه الظروف التي يتعرض لها أهل الإسلام والإيمان سنة التدافع بين الحق والباطل، والصراع بين الإيمان والكفر، هذه المعركة التي ابتدأت منذ أن خلق الله أبا البشر آدم عليه السلام وأمر الملائكة بالسجود له، فأبى إبليس، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، والصراع مستمر بين الإسلام والكفر، بين الحق والباطل، ما توقف هذا الصراع لحظة من اللحظات، ولن يتوقف ما دام في الأرض مؤمن وكافر، وبر وفاجر وإسلام، وكفر وإيمان ونفاق، (وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ) [البقرة: 251].
يسلط الكافرين على المؤمنين في مرحلة من المراحل، فيستبيحون الأرض والعرض، ويسفكون الدماء، ويحصل للمسلمين من جراء ذلك ضرر عظيم ومصاب جلل؛ كل ذلك لحِكَم عظيمة يريدها الله -سبحانه وتعالى- من هذا الابتلاء والاختبار الذي يتعرض له عباده المؤمنون.
وكل ما يحصل في هذا الكون فبتقدير العزيز الحكيم (قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) [التوبة:51]، (مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) [الحديد:22].
ومُحال يا عباد الله أن يكون من مراد الله -عز وجل- بذلك إلحاق محض الضرر بالمسلمين، أو إنزال محض الهزيمة بالمؤمنين، حاشا لربنا -سبحانه وتعالى- أن يكون هذا مراده، وإنما التمحيص للمؤمنين بما يصيبهم في سبيل الله وتكفير سيئاتهم ورفعة درجاتهم (وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ) [آل عمران:141].
ففي هذه المصائب والنوازل يتمحض أهل الإيمان، ويستبين المجرمون وأهل النفاق ممن يعيشون بين ظهراني المسلمين، ويؤاكلونهم ويجالسونهم، فكانت هذه الأحداث كشفًا لأهل النفاق، وتعرية لهم، وها نحن نقرأ ونسمع عن أناس يعيشون في مجتمعات المسلمين يفرحون بما أصاب المسلمين؛ يبتهجون بما نزل بأهل الإسلام في الشام وغيره، يبتهجون بتلك الدماء النازفة والنفوس المزهقة، وقصة التهجير واليتم والمعاناة التي يعيشها بعض أهل الإسلام.
وقد نبأنا الله -عز وجل- عن أخبار هؤلاء المنافقين بقوله تعالى: (مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ)، وقوله -سبحانه وتعالى-: (إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا)، وقوله -عز وجل- (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ * لَوْ نَشَاء لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ) [محمد:30].
أيها الإخوة المسلمون: هذه المصائب والآلام، وهذه المعاناة التي تصيب أهل الإسلام ليست بدعًا من الأمر في الصراع الدائر بين الحق والباطل، بل هي سنة من سنن هذا الصراع، ألم يخرج النبي -صلى الله عليه وسلم- والمؤمنون معه من ديارهم، بل من أحب البلاد إليهم وأوطانهم في صراعهم مع كفار قريش؟
ألم يقتل من صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من قتل؟ ألم تصب الجراح والأحزان والآلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم يخاطب الله -عز وجل- رسوله والمؤمنين معه (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [التوبة:16]، (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ) [البقرة:214].
هذه هي سنة الصراع بين الحق والباطل؛ يصيب المسلمين في هذا الصراع البأساء والضراء والجهد والضنك والتهجير والتشريد؛ كما أن الكفار ليسوا في معزل من ذلك، بل يصيبهم ما أصاب المؤمنين، لكنَّ الفرق أن المؤمنين يرجون من الله عظيم الأجر والثواب على ما يصيبهم وينزل بهم ويتلقون ذلك بصبر واحتساب واطمئنان.
وأما الكفار والمشركون فقتلاهم في النار، وجراحاهم في الدنيا ومصابهم فيها عذاب مضاف إلى عذابهم في الآخرة، يقول الله -عز وجل- (إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) [النساء:104].
ولئن كان لأهل الكفر والشرك والنفاق لئن كان لهم صولة وجولة وانتصار في مرحلة من مراحل الصراع بين الإسلام والكفر؛ فإن العبرة -يا عباد الله- بعواقب الأمور ومآلاتها ونهاياتها، والله وحده هو من بيده ذلك، والله وحده هو من بيده عواقب الأمور ومصير الأمور، لن تستطيع قوى الأرض كلها، لن تستطيع قوى الكفر كلها شرقها وغربها أن تقرر عاقبة الأمور في هذا الصراع الدائر بين الإسلام والكفر.
وقد بيَّن -سبحانه وتعالى- أن العاقبة في هذا الصراع لأهل الإيمان والتقوى، طال الزمان أم قصر، وليس عندنا شك في ذلك بحال من الأحوال، لقد أُوذي بنو إسرائيل زمن موسى -عليه السلام- أذًى شديدًا؛ قتل أبناؤهم، واستُحي نساؤهم، واستُعبدوا، ثم كانت العاقبة لهم، وكان الخزي والعذاب الأليم لفرعون وجنده (قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [الأعراف:128].
ولما انتصر الفرس على الروم زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- واغتمَّ المسلمون لذلك نبَّههم الله -عز وجل- إلى أن العبرة بعواقب الأمور ومآلاتها، فقال الله -عز وجل- (الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) [الروم:5].
لقد دُبِّرت المكائد لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومن معه من الصحابة؛ لقتلهم ونفيهم، وسجنهم وحصارهم وتجويعهم، ولم يكن ذلك مانعًا أبدًا من تنزُّل نصر الله على المؤمنين، ولا رادًّا لما كتب الله -عز وجل- من أن العاقبة للمتقين (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) [الأنفال:30]، (وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ * لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) [الأنفال: 7- 8].
هذه بعض حقائق القرآن في هذا الصراع الدائر بين الإسلام والكفر بين أهل الإيمان والتقوى وبين أهل الكفر والنفاق والشرك، وهذا وعد الله في كتابه ووعد ربنا لن يخلف (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) [الروم:47].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) [الحج: 39- 41].
فنسأل الله -عز وجل- الذي بيده الأمر كله والشر ليس إليه سبحانه، نسأله أن يلطف بعباده المؤمنين، وأن ينزل نصره لهم، ويعجل بموعوده لهم ويرينا في أعدائه وأعداء المسلمين ما تقر به الأعين وتشفى به الصدور إني ربنا سميع مجيب.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: عباد الله، اتقوا الله -عز وجل- حق التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، واحذروا المعاصي كلها صغيرها وكبيرها؛ فإن أقدامكم ضعيفة على النار لا تقوى.
عباد الله: ليس النصر الحقيقي بإزهاق الأرواح، ولا سفك الدماء ولا بالتدمير والتهجير وإنما النصر الحقيقي نصر المبادئ والثبات على العقيدة.
في قصة أصحاب الأخدود؛ خُددت الأخاديد والحفر العظيمة، وأُضرمت النيران فيها وقُذف فيها أصحاب الأخدود، وماتوا عن بكرة أبيهم ولم يكن ذلك نصرًا للكفار، بل سمى الله -عز وجل- ما أصاب المسلمين من أصحاب الأخدود بالفوز العظيم (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ) [البروج: 10- 11].
وهكذا المسلمون في حروبهم التي خاضوها مع الكفار في تاريخهم المجيد إنما كان نصرهم بانتصار عقيدتهم ومبادئهم، ولم يكن المسلمون يعدون النصر بكثرة قتل الكفار، ولم يكن يبهجهم التحريق والتدمير وإنما ذلك شأن الكفار والمشركين.
أيها الإخوة في الله: إننا والله على يقين تام لا شك فيه ولا ارتياب بأن الله وحده هو واهب النصر، هو مانح النصر، لا يُطلب النصر من الكفار، ولا من هيئة الأمم ولا من مجلس الظلم، وإنما يُطلب النصر من الله وحده، وهو القادر سبحانه على منحه لمن يشاء من عباده متى ما اتقوا الله وأطاعوه واستقاموا على دينه وشرعه (وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ)، (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) [غافر:51].
وما على المؤمنين في هذا الصراع الدائر بين الإسلام والكفر إلا بذل ما يستطيعون بذله من الأسباب المادية والمعنوية فحسب، ولا يكلفهم الله -عز وجل- بأكثر مما يستطيعون، يقول الله -عز وجل- (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ) [الأنفال: 60].
وأهم ذلك طاعة الله -عز وجل- وتوحيده، والاستقامة على دينه، والاجتماع على الحق وترك التفرق والتنازع والصبر والثبات على الدين.
ولئن تأخر النصر لحظة من اللحظات في مرحلة من مراحل الصراع بين الإيمان والكفر؛ فإن النصر والله آتٍ لا محالة، النصر قادم للإسلام لا محالة، لا شك في ذلك ولا ارتياب (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)، (كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) [المجادلة:21].
هذا وعد الله، وهذا كتابه، ولن يخلف الله وعده.
نسأل الله -عز وجل- أن يعجّل بنصره للمؤمنين، وأن يعجل بإنزال نصره للمؤمنين، وأن يهيأ المؤمنين لتنزل نصر الله عليهم، وأن يرد المسلمين إلى دينهم ردًّا حميدًا حتى يكونوا أهلاً لتنزل نصر الله؛ إن ربنا على كل شيء قدير.
هذا وصلوا وسلموا على نبيكم محمد بن عبدالله؛ فقد أمركم ربكم بهذا في كتابه فقال عز من قائل: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
وقال عليه الصلاة والسلام: "من صلى عليَّ صلاة صلى الله عليه بها عشرًا".
اللهم صلِّ وسلم وبارك...